الأحد 28 كانون الأول (ديسمبر) 2014

سلطات السر في لبنان الديمقراطي

الأحد 28 كانون الأول (ديسمبر) 2014 par نسيم الخوري

في الكلام عن السلطة، كان هناك منذ الأساس تناغم بين مصطلحي السر “Mysterium”، والوزارة كسلطة “Ministerium”، حيث الكلام الحق هو قوة الكلام، ولا سلطة رمزية دون رمزية السلطة . ولا يمكن أن توجد اللغة كسلطة إلا في بلاغتها ونموّها وتركيبها وأسرار قائلها والثقة به وفي لباسه أيضاً . ماذا يعني هذا الأساس وماذا تعني المصطلحات والمسؤوليات والأسرار في تشابكات أهل الإعلام بأهل السلطان أو السلطة وخلية الأزمة والوسطاء والتصفيات بالقطّارة، في موضوع محدّد هو معضلة العسكريين المخطوفين الذي يتخبّط فيه اللبنانيون والوزراء والسياسيون وأهالي المخطوفين والخاطفين منذ الأحد، 20 أغسطس/آب 2014 عندما اختطف مسلحون تابعون ل“داعش” و“جبهة النصرة” عدداً من العسكريين اللبنانيين، في بلدة عرسال القريبة من الحدود السورية؟
منذ ذلك التاريخ يتأرجح لبنان بين مقولتين: “واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان” وهي سياسة نادرة الحضور في السلوك السياسي، و“لا تغطّي الشمس بغربال لا يخفيها على أحد” وهي إعلامية سياسية طاغية الحضور مقلقة وخطرة . المتابعة الدقيقة جدّاً للمعضلة اللبنانية أوصلتني مجدّداً إلى استعادة فيلم السرّ “The Secret” وأعتبره من أقوى الأفلام التي تتطرّق لحسن الظنون في زمن الكفر والتكفير، خصوصاً أنّه فيلم يحضّ على بركة التفكير الإيجابي في زمن الشدائد، كما أوصلتني، من ناحية أخرى، إلى نصّ قد نشهده في حضارة الصحراء حيث صبر الجمال وحيث الإنسان لسان واللسان إن خرج كثيراً من تجويفة الفم يخشى صاحبه الرياح المثقلة بالرمال .
كان يكفي امتلاك المعرفة للحظوة بالموقع والوجاهة التي هي محصلة السلطة . ولأن الكلام هو صورة المتكلم لا يدركها ولا يتلمس سلطاتها السحرية في خلق الصور إلا من امتلك الكلام، درجت الفكرة التي تساوي الكلام بالسلطة منذ تحلق الأطفال حول مائدة أو طبق الطعام لا يتكلمون بسبب سلطة الأهل، وصولاً إلى طاقات المحادثات والخطب والمواعظ التي هي صراع قوى تحتمل النصر والهزيمة بالمعنى الاجتماعي، لأنّ من لا يعرف استعمال الكلام يبقى مشلولاً اجتماعياً .
تكمن قيمة المعرفة، إذاً، قبل كل شيء في السيادة التي يمنحها إياها مَن يملكها . ويلجأ مالك المعرفة لتحقيق سلطته بالإبقاء على نفسه مليكها الأوحد مقابل مَن لا يملكها والذي يسعى جاهداً في الحصول عليها . وهنا تبرز قيمة السرّ أو الأسرار في علاقات أهل السلطة بأهل الإعلام .
تكمن قوة السر في كونه عدم اتصال وهو أمر ضروري في نظريات الاتصال ونجاحه حيث ضرورة حجب المعلومات الإرادي أو نشر المعلومات الكاذبة (الدعاية) اللافتة والمحركة للرأي العام . ويحفظ المعرفة والمعلومات من يملكها وفقاً لاستراتيجيات سلطوية متعددة، أبسطها ألاّ يفصح عمّا يعرفه، أو يعلن أن سرّاً لديه لن يعلنه قاصداً بذلك استثارة حشرية ورغبات الآخر، أو أن يكون هذا الآخر متلقياً معدماً جاهلاً أو مجانباً كلياً وجود سر إلى درجة الجهل أو التجاهل . في ضوء هذه الإشارة إلى علاقات المرسل بالمتلقّي الذي كان متلقياً في زمن الصحافة التقليدية وصار مرسلاً جديداً مؤثّراً تتجاوز سلطاته سلطات المرسل ولو كان سلطاناً فإنّه يغريه ويسحب أسراره بمختلف الوسائل . كانت العملية الاتصالية والأخبار تأتي محاصرة أو مقنّنة دوماً بالأسئلة الثلاثة التقليدية التي تركز على أبعاد المكان والزمان والإنسان أي الأسئلة المحصورة ب: مَن؟ أين؟ متى؟ وكانت سلطات نبش الأسرار تتمحور في السؤالين اللذين ينبثقان من الثلاثة الأول كي تكتمل العملية الاتصالية وهما: ماذا؟ وكيف؟ أي قص الأحداث وتفاصيلها وخفاياها والآثار والتداعيات التي أحدثتها أو ستحدثها .
وتبرز وفقاً لهذه الأسئلة علاقات التقارب بين السلطة والاتصال والإعلام سواء كانت السلطات سياسيّة اقتصاديّة أم دينية، فتقطع البشرية مسافة كبرى من حصرية المكتوب، وربط الكلام بالوجود، وفرض القناعات والخطاب والانتشار، حيث انحصرت السلطات، قديماً في رجال الدين عموماً والمحاربين كواسطة لجمهور عريض من المؤمنين يوصل إلى الرأي العام ما يحبذه بشكل عام . وباتت السلطة، إذاً، محصورة في الكلام على هبة اللغة ومسؤولية استعمالاتها . إنّها الجسد الطيفي لكنّها جسد ولو كانت تخرج من لسان أو زلّة لسان يطبع شخصية المتكلم والكاتب والمسؤول، وتؤخذ الكلمات في مجمل الصورة الحسية التي تلتقط الموضوع فتشحن أصحابها بقدرات وسلطات مميزة كانت أساساً محصورةً بالأنبياء والمفكرين .
قد يصل السر في قوته وسلطته إلى مستوى الإبهام الذي هو سلطة أخرى تهدد الخطاب أيّ خطابٍ بالفشل إن لم يصدر عن صاحب السلطة أو من له سلطة الخطاب . فالكلام المصاحب بمظاهر السلطة مثل اللباس والديكور الخاص والوقت هي لغات شكلية في حدّ ذاتها تسعف السلطة الخاصة باللغة الرسمية . وقد يظهر الآخر معرضاً عن الفهم أو الاستيعاب .
وتقوى الكلمات باللباس، بما يمنح صاحبها هيبةً ووقاراً، فيلبس القاضي ثوباً خاصاً به، ومثله المحامي، ورجل الأمن، وأستاذ الجامعة وإذ ذاك تقوى السلطة وتتكامل، من خلال ما هو ظاهر في التعبير عن الهوية، والحضور أمام الآخرين: وحينما ينزع رجل الأمن لباسه الرسمي يفقد هويته الاجتماعية وسلطته المتكلمة باللباس أي أنه يفقد جزءاً كبيراً من هيبته . وعندما ينزل الكهنة ورجال الدين من الهياكل والجوامع، مثلاً، بلباس سلطوي متميز أو يحصّن الموقع بمظاهر الأبّهة والعلوّ، فكلّها من تقنيات اكتساب السلطة تجاه الآخرين، وتصب بكثافة في سلطة الكلام الذي يسمعه الآخرون من دون أن يفهموه ومن دون فقدان السلطة بسبب الإبهام . قد تبلغ هذه المظاهر أقوى تجلّيها في النصوص الدينية، صاحبة السلطة المطلقة التي تفرض الاعتراف بها سواء كانت مصحوبة بالفهم، أم غير مصحوبة به، شرط قولها في مكان وظرف شرعيّين، يسهل الاعتراف بها من المؤمنين في العراء، الشاخصين إلى رجل الدين أو السياسة أو غيرهما .
هل تفيد النصوص والأفلام لأن تجعل المسؤول يتلفّت من حوله قبل أن يقول في عبّه لنفسه، لأنّ السر إن شاع إلى آخر لا ضبط له ولفلتانه ومخاطره إلاّ بقتل القاتل أو السامع؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2182722

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع نسيم الخوري   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

24 من الزوار الآن

2182722 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 23


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40