الخميس 30 نيسان (أبريل) 2015

آسيا تعيد تعريف نفسها

الخميس 30 نيسان (أبريل) 2015 par جميل مطر

يبدو واضحاً من خلال متابعة متأنية لتطور الأحداث في آسيا، وتداخلها مع تطورات دولية وإقليمية مثيرة، أن القارة الآسيوية منغمسة إلى درجة كبيرة بمرحله حبلى بالعديد من التوقعات . لعلنا لاحظنا أن السباق الدولي على الشرق الأوسط مازال مندفعاً على طريق الانحسار بقوة غير مألوفة، بينما السباق الدولي في آسيا تتضاعف وتيرته وأدواته أيضاً بأشكال أيضاً غير مألوفة .
هنا، وفي قلب آسيا تقف باكستان متأهبة لدور ليس بالضرورة من صنع قادتها وآبائها المؤسسين بقدر ما هو من صنع “الجغرافيا” التي فرضتها فاصلاً طبيعياً بين الصين والهند، العملاقين الآسيويين الصاعدين، ومن صنع قرن الاستقلال الوطني، الذي شهد انقسام الهند وخروج باكستان دولة إسلامية مستقلة، فأضاف إلى وضعها كفاصل طبيعي بين الصين والهند وضع الفاصل “المنطقي”، فاصل بالدين واللغة وأحقاد الحروب .
سمعنا، خلال الأعوام الأخيرة، عن نية الولايات المتحدة التحول بتركيزها السياسي والاستراتيجي، بل والاقتصادي أيضاً، نحو شرقي آسيا كبؤرة اهتمام أولى . ورأينا بالفعل بوادر هذا التحول التي إن استمرت تضطرد بمعدلاتها الراهنة فسوف تكون لآسيا خلال سنوات الأولوية المطلقة في سلم أولويات السياسة والمصالح الأمريكية في الخارج . رأينا أيضاً خلال السنوات الأخيرة، المدى الذي وصلت إليه، عمقاً ومضموناً، السياسة الخارجية الصينية، في بعدها الآسيوي، رأيناها في شكل طرق وبنية تحتية وخطوط سكة حديدية وموانئ على مياه البحر العربي والهندي وبحر الصين الجنوبي متطورة تكنولوجيا وشبكات طرق جديدة تربط شرقي آسيا ببقية العالم .
وحين سمعنا ورأينا عرفنا أن الصين تسعى بجهد خارق وتكلفة هائلة من أجل “تمهيد الأرضية الآسيوية استعداداً لاستقبال التحرك الأمريكي القادم لا محالة”، بمعنى آخر تسعى الصين لتجعل استقبال “الغزوة السلمية” الأمريكية مختلطاً بنكهة آسيوية قوية، تطرد أي احتمال أو توقع أمريكي بأن يتحول “التحول نحو الشرق” من مشاركة في النفوذ والتعاون مع العملاق الصيني الصاعد إلى “هيمنة” أمريكية كتلك التي مارستها الولايات المتحدة وفرضتها على أمريكا الجنوبية طوال قرنين من الزمن .
سوف تجد أمريكا في انتظارها في شرقي وجنوب شرقي آسيا حين تكتمل خطوات تحول سياستها إلى الشرق، “نظاماً إقليمياً جديداً”، دعا إلى إقامته الرئيس تشي في مؤتمر قمة دول شرقي وجنوب شرقي آسيا الشهر الماضي . نظام يجري تعريفه بعقول ومصالح آسيوية، وليس نظاماً تخطط له وترسم معالمه وتعين قياداته قوى غربية أو أي قوى أخرى من خارج الإقليم . أتصور أن هذه الدعوة التي أطلقها الرئيس تشي في منتدى “بواو” الذي انعقد في جزيرة هاينان في بحر الصين الجنوبي، إعلان صريح عن نية الصين عدم السماح لأمريكا أو غيرها من القوى الأوروبية للتدخل أو صياغة مستقبل شرقي آسيا . وهو في حد ذاته “إعلان تاريخي”، بمعنى أن النظام الإقليمي الآسيوي الجديد سيكون الأول بين النظم الإقليمية الذي يقوم بإرادة محلية وليس بإرادة خارجية . المدهش في هذا التطور أنه يحدث في وقت تتعدد وتتسابق فيه الرؤى “الغربية” لنظام إقليمي جديد يقوم في الشرق الأوسط . يبدو حتى الآن، من ظواهر الأمور، أن العقول العربية، غائبة عن هذه الرؤى وبالتالي عن السباق، وليس بعيداً أن يصيبنا الندم كالعادة ونبكي على ضياع فرصة أخرى حين نفاجأ بحروب وفتن وإرهاب وتدخل خارجي من كل نوع وصوب، تمهد لقيام نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط . مثير ومفيد معاً أن نراقب بعقولنا السياسية مسيرة بناء نظام إقليمي بعقول محلية بدلاً من انتظار نظام إقليمي في الشرق الأوسط أبدعته رؤى، ليس من بينها رؤية عربية .
مفيد أيضاً أن نتابع مختلف الجهود الآسيوية والأجنبية لمنع أفغانستان من أن تصبح “الدولة المشكلة” في هذا النظام الإقليمي الجديد . ليس خافياً القلق الممسك الآن بصانع القرار في روسيا وحلفائها في طاجيكستان وتركمنستان وقرغيزستان وأوزبكستان، من عمليات تجميع قوات طالبانية وميليشيات “داعشية” في مناطق شمالي أفغانستان . . عادت روسيا تعزز قواعدها العسكرية فى دول وسط آسيا وترسل خبراء عسكريين إلى مناطق حدود الدول المجاورة لافغانستان . لا يعفي ذلك التطور الصين من أن تكون سبباً ثانياً لقلق روسيا، وبخاصة بعد أن تضاعف نشاطها السياسي والتجاري مع أفغانستان ودول وسط آسيا . يحدث هذا في الوقت الذي كادت الولايات المتحدة تنتهي فيه من وضع الخطط لتنفيذ شبكة سكك حديدية في أفغانستان، وضعت الخطط وزارة الدفاع الأمريكية باعتبارها الجهة الأكثر تخصصاً في نشاط السكك الحديدية وقضاياها في الولايات المتحدة، وتكشف الرسومات الأولية لخطوط هذه الشبكة عن تمددها في اتجاه إيران أساساً وكذلك باكستان، باعتبارهما أفضل وأقرب الدول الآسيوية إلى الأسواق العالمية . يجري حالياً البحث عن حلول لمشكلة اختلاف سعة قضبان السكك الحديدية في كل بلد عن البلد الآخر، وهي المشكلة التي خلفها الاستعمار الغربي في إفريقيا وأمريكا الجنوبية لتقليل فرص الاتصال المباشر بين المستعمرات .
اتطلع شخصياً إلى التعرف إلى تفاصيل ونتائج زيارة نارندرا مودى رئيس وزراء الهند إلى الصين في شهر مايو/أيار المقبل . لا أتوقعها زيارة شكلية أو احتفالية ولكني أتصور أنها ستكون الخطوة الحاكمة التي ستحدد شكل وأساليب العمل الدولية خلال القرن الآسيوي الذي انطلق بالفعل، أو لعله على وشك الانطلاق . لا أظن أن المحادثات ستكتفي بتحقيق تقدم في مسائل نزاعات الحدود بين البلدين وهي كثيرة ومعقدة ومؤلمة، ولكني أعتقد أنها ستتجاوز الحدود الجغرافية إلى مفاوضات أعقد وأطول حول “حدود النفوذ” بين قوتين صاعدتين في آسيا، ومحاذير علاقة كل من الطرفين بالقوى الكبرى في الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية .
آسيا، كما يبدو، مقبلة على تطورات مهمة سوف تنعكس آثارها بالضرورة على مختلف أقاليم العالم، ونحن نعيش في واحد من هذه الأقاليم . من ناحيتي، كمراقب ومتابع، أجد نفسي مهتماً بتفاصيل محادثات وخطط ورؤى إقامة نظام إقليمي جديد في شرقي وجنوب شرقي آسيا، أو كما يحلو لبعض الأكاديميين الغربيين تسميته حلقة في سلسلة جهود متناثرة ولكن جادة نحو “إعادة تعريف النظم الإقليمية القائمة” وجولة من جولات الحوار الذي لم يتوقف حول جدوى التنظيم الإقليمي في عملية حفظ الأمن والاستقرار والارتقاء بمستوى معيشة الإنسان العادي .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2182408

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع جميل مطر   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2182408 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40