الجمعة 22 تموز (يوليو) 2016

الحدث التركي في إطار أوسع.. معظم شعوب العالم لا تزال غاضبة

الجمعة 22 تموز (يوليو) 2016 par جميل مطر

لم تكد أوروبا تفيق من صدمة «البريكزيت»، أي استفتاء الشعب البريطاني على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حتى وجدت نفسها أمام تطور خطير آخر في دولة تسعى للانضمام إلى الاتحاد. ففي تركيا خرج الشعب إلى الشارع ليتدخل في صنع أحداث قد تغير شكل تركيا ومستقبلها. دور الشعوب في تقرير مصيرها إلى الأحسن أو إلى الأسوأ ليس جديداً على الفكر السياسي الأوروبي، بل وعلى العقل الأوروبي بصفة عامة. الجديد هو أن الطبقة السياسية في أوروبا التي بذلت جهوداً خارقة على امتداد قرون لتحويل الحركة السياسية للشعوب من مساراتها التلقائية والعشوائية لتتدفق بحساب وهدوء في قنوات دستورية وقانونية، أي ضمن شبكة مؤسسات، هي الآن تشاهد وبمنتهى القلق شعوباً في أوروبا وفي جوارها وفي العالم بأسره تعود إلى تفضيل المسارات التلقائية على مسارات تقررها النخب الحاكمة.
لا جدال في أن هذه العودة من جانب الشعوب للتدخل في الحياة السياسية أصبحت تشكل العنصر الأساسي في خرائط الحكم وخطط الحكام في عديد الدول، وبخاصة في العالم الغربي الذي هزته إلى الأعماق موجة ثورات «الربيع العربي». كان التصور في بدايته يقتصر على أنه من الممكن ألا تنتقل التداعيات إلى خارج الشرق الأوسط، وأن العالم سوف يشهد في أقرب فرصة طبقة سياسية جديدة تتولى الحكم في دول الشرق الأوسط وتتحمل مسؤولية إقناع الشعوب بفائدة القنوات الجديدة التي ستشق لها لتسير فيها وتتحرك بحرية وتحقق أحلامها. لم يقدِّر المحللون بالقدر المناسب ارتباط هذه الثورات بظاهرة أشد اتساعاً في العالم، وهي ظاهرة تدهور ثقة قطاعات واسعة من الناس بالنخب التي تحكمها، وربما في الطبقة السياسية التي تفرز هؤلاء الحكام.

بين تدمير الطبقة السياسية وإصلاحها
نحن، أو كثيرون بيننا، أصبحوا الآن على ثقة بأن التصويت بنعم على الخروج ببريطانيا من العلاقة الوثيقة بالاتحاد الأوروبي، وعلى علاقة أقل ترابطاً وقيوداً على حرية القرار البريطاني، هو في أحد أهم جوانبه إعلان سخط على الجماعة البيروقراطية الحاكمة في المفوضية في بروكسل، وفي الوقت نفسه إعلان غضب على مجمل إنجازات وسلوكيات الطبقة السياسية في إنكلترا. أصبحنا أيضا على ثقة بأن صعود كل من دونالد ترامب وبيرني ساندرز في حملة انتخابات الرئاسة الأميركية لم يكن مجرد ظاهرة عابرة في الحياة السياسية الأميركية. هذا الصعود، أراه ويراه آخرون، دليلاً ملموساً على أن أحداً اكتشف أن الشعب الأميركي، في مجمله أو في أغلبه، لم يعد يثق بالطبقة السياسية الأميركية كعهده بها، وراح يستغل اكتشافه هذا ليعبئ جانباً من هذا الشعب الغاضب وراءه. الفارق بين ترامب وساندرز، وكــلاهما اكتشف حالة الغضب واستثمرها، هو في أن ترامب يسعى فعلاً لـــتدمير هذه الطبقة، بينما يعتقد ساندرز أنه يستطيع بدعم هذا الغضب الشعبي إصلاح الطبقة السياسية وإجبارها أو إقناعها إدخال التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي ينادي بها ساندرز ويطالب بها الشعب.
أمثلة عديدة على تصاعد حركة الشعوب وتصاعد المد النيولبرالي ضدها نراهما في أميركا اللاتينية، القارة الأبرز في سجل التاريخ عن قوة الشعوب الغاضبة ودورها في إحداث التغيير أو عرقلته. الأمثلة الأهم، في الحال الراهنة، هي تلك التي تزدحم بها الحركة السياسية في القارة الأوروبية. رأينا مثالاً بارزاً خلال أزمة اليونان مع منطقة اليورو، ورأينا مثالاً آخر في صعود حركة «نستطيع.. بوديموس» في إسبانيا، والحركات المتشبثة بالقومية في ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا. رأيناها في الهند وعلى أكتافها وصل ناريندرا مودي بحزبه المتعصب دينياً وطبقياً إلى السلطة في أكبر ديموقراطية في العالم المعاصر، بل في التاريخ السياسي كله. أذكر كيف كان يحشي خطبه الانتخابية بعبارات تبجل الثقافة الهندوسية وتراث الهند واستقلال الإرادة الوطنية. هذه بالضبط كانت روح الخطاب السياسي لفلاديمير بوتين، إذ جاء إلى الحكم في ظل الغضب الشعبي الشديد على تدهور مكانة روسيا وهدر ثرواتها على الطبقة التي تولت الحكم في أعقاب سقوط النظام الشيوعي. جاء وفي نيته استثمار هذا الغضب في إقامة علاقة شخصية تربط بينه وبين الشعب، والعمل على مأسسة هذه العلاقة بعيداً قدر المستطاع عن مؤسسات الطبقة السياسية.

ارتدادات «الربيع» في تركيا
في كل مكان تقريباً، يتصاعد الغضب ضد الطبقة السياسية. كانت ثورات «الربيع» نموذجاً وحافزاً، ولا تزال. الشعوب التي خرجت في مطلع الثورات أعلنت بوضوح أنها غاضبة على طبقة سياسية أهانت كرامتها وقيدت حرياتها وزيفت إراداتها ولم تكن عادلة اجتماعياً. في مصر خرج الشعب مرتين، مرة في يناير 2011 ومرة في يونيو 2013، وفي المرتين كان غاضباً، وفي المرتين أحدث تغييراً، ولكنه لم يفلح في تغيير الطبقة السياسية التي بأخطائها وقصـــورها تسببت في ثورته، بل لعله يدرك الآن حقيقة عودتها بســلطاتها شبه كاملة وبأفكـــارها يقـــودها شعار الاســـتقرار، الشـــعار الخادع الموروث مع غيره عن مرحلة ما قبل الثورة.
سارت تونس على الدرب نفسه مع تغيرات طفيفة. هناك، وفي غياب العنصر العسكري، قــــاد مســــيرة العودة «اتحاد الشغل» بما له من قوة وجاذبية لـــدى الشعب الغاضب لا تعادلهما قوة سياسية أخرى. وفي النهاية تعثرت العـــودة مـــؤذنة، لا قدر الله، بتطورات معـــقدة وغير سلمية الطـــابع بين أطراف النخبة السياسية العائدة للحكم.
لا يمكن، ولا يصح، إغفال أهمية التطور المثير الذي وقع في المملكة العربية السعودية. هناك وجد من ينتبه لخطورة تمدد الغضب العارم في أنحاء الشرق الأوسط إلى الطبقة السياسية إلى المملكة، فسارع إلى تنفيذ ما يمكن أن يرقى إلى مستوى الثورة على هيكل وأعراف طبقة إدارية وسياسية ودينية هيمنت، وككثير غيرها من الطبقات السياسية في المنطقة، بدأت تحصد غضباً بين فئات من الشعب. أنا لن أحكم هنا على سياسات النظام الجديد الحاكم فعلياً في واحدة من أهم دول الشرق الأوسط، ولكني بالتأكيد لا يمكن أن أغفل أو أقلل من القيمة التاريخية للتغيرات الكبيرة الواقعة هناك، وبتحديد أدق التغيرات التي تمس الطبقة السياسية والبيروقراطية السعودية وعلاقاتها بالشعب.
تركــــيا، مثل غيــــرها من دول غير قليلة في المنطقة، وجـدت نفسها على امتداد العامين الأخيرين نهباً لصراعات حقيقية وحادة، صراعـــات على السلطة وصراعات قومية وثورة اجتماعية تدعو للمساواة، عكست هذه الصراعات نفســـها على أداء النخبة الحاكمة باسم الدين ومحـــفزة التيار المتصلب أو الأكثر تديناً في تركيا على التعبـــير عن غضبه على أردوغان وحكومته. كان لا بد والحـــال يزداد تدهوراً أن يتخذ أردوغان قراراً يسبق به قرار التيار الديني المتطرف إثارة قواعده الشعبية في ثورة عارمة بقيادة القوات المســـلحة ضد حكومة أردوغان. يبدو أن القرارين تزامنا وكــانت الغلبة لمن أفلـــح وأسرع أكثر من الثاني في حشد «الشعب» إلى صفــه. والآن يبــدأ أردوغان وبكل العزم والقـــوة تصفية طبقة سياســـية وإقـــامة غيرها من صنعه مكانها، إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
تنشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 163 / 2165612

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع جميل مطر   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2165612 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010