ظاهرة تستحق الانتباه، هذا العدد الوفير من السياسيين والدبلوماسيين الغربيين الذين تحولوا في مرحلة من حياتهم إلى لعب أدوار يستثمرون فيها علاقاتهم القديمة والرسمية بالمسؤولين العرب. خير لا أحسدهم عليه ورزق لا أرغب في حرمانهم منه. أما وقد استفحلت الظاهرة، وفاحت رائحة فضائح عديدة ترتبط بثمار هذه العلاقات، وبالأنشطة الزائفة التي مارسها بعضهم أو ادعى ممارستها، وبخيبات أمل الأصحاب الشرعيين للقضايا التي جاء هؤلاء السياسيون لخدمتها وتسويتها تسوية سلمية وعادلة، وجب علينا أن نتوقف قليلاً، لنحكم بأنفسنا على قيمة العائد من وراء المكافآت السخيفة التي يحصل، وحصل عليها، هؤلاء الناس على امتداد سنوات طوال، في شكل أموال وصفقات، هي بالتأكيد من موازنات وأرصدة شعوب، أغلبها يعاني الفقر والجوع.
يختلف هذا النوع من «المستشرقين الجدد» عن أسلافهم من المستشرقين الأوائل في أنهم أقل علماً وخبرة و نزاهة، فضلاً عن أن أكثر من أعرفه منهم لا يجيدون اللغة العربية ولم يكونوا يوماً من عشاق ثقافة العرب وتقاليدهم. ليس سرا ً أن حافز أكثرهم الجشع ووسيلته النفاق والكذب. كان بعضهم حتى وقت قريب يتحملون مسؤولية القرار في حكومات بلادهم، ولم يقدموا خلال فترات ولايتهم ما يشير ولو من بعيد إلى أنهم حريصون على إقامة سلام حقيقي فى الشرق الأوسط، أو أنهم متعاطفون على أقل تقدير مع جوهر قضايا العرب وحقوق الفلسطينيين المشروعة، أو أبدوا استعداداً للدخول في مواجهات مع قادة الحركة الصهيونية والعنصرية في بلادهم للمساهمة في رفع الظلم الواقع على بعض شعوب المنطقة.
قد يكون جورج ميتشيل، الوسيط لمدة وجيزة في الصراع العربي «الإسرائيلي»، مختلفاً بعض الشيء عن جمهرة «المستشرقين الجدد» الذين توافدوا على المنطقة من عديد من الوظائف والمناصب في دول الغرب عبر السنوات، بحجة أداء أدوار الوساطة و عرض الخبرة والمشورة وفشلوا في كل شيء إلا في شيء واحد، وهو العودة برصيد هائل من الأموال والمؤسسات الخيرية المعفاة من الضرائب ورصيد ليس أقل أهمية من العلاقات الشخصية.
جورج ميتشيل، بكتابه الجديد وعنوانه «المفاوض»، أثار عندي من جديد الرغبة في البحث عن إجابات لأسئلة ترفض أن تهدأ أو تختفي. هو أيضاً انضم إلى قائمة الباحثين عن صفقات وأعمال تخدم مصالحه المهنية كمحام والتجارية كرجل أعمال ووسيط، ولكنه مثل غيره من الذين سبقوه لا يشرح لنا، لماذا فشل؟ ولماذا أضاع وقتنا وبدد طاقاتنا؟ هو أيضاً مثل الذين سبقوه لا يعبر عن ندم على ما لحق بالفلسطينيين من ظلم وما لحق بقضيتهم من تعقيد بسبب جرهم مع غيرهم من العرب إلى متاهات فى غابات «الاستشراق الجديد»، حيث الهدف تعظيم الثروة المادية وتحقيق أقصى مصلحة شخصية ممكنة مقابل جهود لا ترقى بأي حال إلى مستوى الأداء الشريف أو الإخلاص والصدق. هؤلاء مثل غيرهم في قطاعات أخرى تصوروا أن المرحلة الراهنة قد تكون الأخيرة في عمر النظام العربي كما عرفوه.
أقل ما يمكن أن يقال في كتاب ميتشيل إنه غني بالحكايات والنوادر، فقير في المعلومات، قوي في التعبير عن آراء في موضوعات متفرقة. توقفت مطولاً عند فقرة لأنها كانت قوية وأيضاً لأنها لاقت هوى في نفسي. يقول ميتشيل إن نظاماً جديداً سوف يقوم في المنطقة، بما يعني أن ميتشيل انضم إلى قائمة طويلة من المفكرين الغربيين الذين يعتقدون أن النظام العربي«القائم» ينهار، وأن نظاماً إقليمياً جديداً هو الآن في طور التكوين. يختلف ميتشيل عن كثيرين غيره حين يعرب عن اعتقاده بأن سقوط النظام مرتبط بشكل ما بثورات الربيع التي، حسب رأيه، لم تصل بعد إلى نهايتها كما يعتقد بعض قادة الحكم في العالم العربي. الثورات في رأيه مستمرة، وإن كانت تمر في إحدى أسوأ مراحلها، وهي مرحلة الاضطرابات. هذه المرحلة قد تمتد عقوداً. الجديد فيما يقوله ميتشيل، ويقوله بالهمس بعض المفكرين العرب مراعاة لمعنويات الشعوب وحساسياتها، هو إن الاضطرابات سوف تستمر عقوداً، وإن الأمل ضعيف في أن تهدأ الأحوال قريباً في العالم العربي، أو تستقر الاستقرار نفسه الذي كان سبباً في نشوب ثورات الربيع.
يثير هذا الرأي في حد ذاته أسئلة كثيرة، ربما كان أهمها على الإطلاق هو السؤال عن نمط العلاقات العربية - العربية، ونوعية الجيوش العربية وأحجامها وخطط واستراتيجيات الأمن ونمط التحالفات، وغيرها من الترتيبات التي يمكن أن تنشأ أو توجد في ظل «نظام إقليمي شديد الاضطراب والتوتر لعقود عديدة». نحن بالفعل أمام معضلة نظرية، تبدو لي في شكلها الخارجي عويصة ودقيقة، وهي أن الاضطراب السائد حالياً في عدد من الدول العربية سواء كان من النوع المتفجر والمعلن أو كان من أنواع كامنة ومستترة أو متفجرة تحت رماد لم يبرد، لابد أن يفرز آليات وأفكار خاصة به ومختلفة كل الاختلاف عن آليات وأفكار سائدة حتى اليوم وتهيمن على الحركة السياسية في الشرق الأوسط.
سياسيون ووسطاء وخبراء ومنهم ميتشيل وهيلاري كلينتون المرشحة لمنصب رئاسة الجمهورية الأمريكية وطوني بلير الرئيس الأسبق لوزراء المملكة المتحدة وهو الشريك الأسوأ في تدمير العراق والمستشرق الجديد الأسوأ سمعة، ربما يعتقدون أن «الربيع العربي» لايزال مقيماً في صورة أو أخرى، بل لعله عاد يهدد من قريب جداً الأوضاع القائمة في العالم العربي وفي خارجه باكتساح جديد، إذا لم تستجب النخب الحاكمة لمطالب الثورات العربية في الديمقراطية والحرية والكرامة. هؤلاء قد لا يكون في مصلحتهم تحديث أنظمة الحكم والقضاء على الفساد وحماية حرية التعبير، أكثرهم حسب ما أعلم، لم يحذر في الوقت المناسب المسؤولين الذين يغدقون عليهم بكرمهم المعهود من أن الثورة مقبلة. ولم أسمع مؤخراً أن أحداً منهم استفاق من هول «الربيع» وما فعله بالنظام العربي، كما استفاق ميتشيل، فراح يدق الأجراس ليعلن أن نظاماً إقليمياً يسقط وآخر سوف يقوم. وها هو يحذر من أن المرحلة بين سقوط نظام إقليمي وقيام آخر سوف تشهد اضطراباً هائلًا، لن يخفف من أهواله ويقلل من ضحاياه إلا الاستجابة المبكرة، ولو متدرجة ولكن مخلصة، لمطالب ثوار «الربيع» ومطالب استجدت مع تدهور أحوال البلاد في أوقات حروب أهلية وطائفية وسياسية، وفي أوقات غابت فيها إرادة عربية واحدة تقرر في شأن حياة ومستقبل النظام العربي، وفي أوقات غابت عنه الطاقة اللازمة لتسيير هذا النظام، وغابت عقيدة كانت توجه مساره وتحدد هدفه وتنير طريقه.
الخميس 14 أيار (مايو) 2015
عقود من الاضطراب
الخميس 14 أيار (مايو) 2015
par
جميل مطر
مقالات هذا المؤلف
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
31 /
2177902
ar أقسام الأرشيف ارشيف المؤلفين جميل مطر ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
24 من الزوار الآن
2177902 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 25