زار صديق لي، من الصامدين في أرض الاحتلال الأول لفلسطين، العام 1948، على نحو منفرد مستشفى برزيلاي، قرب مجدل عسقلان، حيث يُسجن المحامي العينبوسي (ابن عينابوس) محمد علاّن، المضرب عن الطعام منذ أكثر من شهرين ضد اعتقاله إداريا. وبطبيعة الحال، لا يسمح له بلقاء الأسير، ولكنه التقى أمّه، فوجدها مثل الأمهات.
طلبت إلى صديقي أن يخبرني تفاصيل الزيارة، فقال: هي إنسانة بسيطة وطيبة، مستعدة لفعل كل شيء لإنقاذ ابنها. محمد ابنها الصغير؛ محام فخورة به، وتعتمد عليه، غير متزوج، وأمنيتها تزويجه، و“بدها بنت لا شقرا ولا سمرا، ويا ريت من الشمال”. ويقول: هي “امرأة فلسطينية بسيطة تبلغ من العمر 65 عاما، وجدت نفسها فجأة أمام شاشات التلفاز ويطلبون منها كل”كم دقيقة“الظهور المباشر على التلفاز. وهي مسكينة بحياتها ما مرّ عليها مثل هالإشي”. وسمعتُ تسجيل صديقي مع الأم، تناشد العالم وتقول “الله معه”. كما تقول أناشد كل العالم، المحترمين الطيبين... كل من خلق الله... لا تنسوه ووقفوا معه... لحدّ الشجر والحجر بناشده...".
عندما أذيع نبأ أنّ “المحكمة العليا الإسرائيلية تلغي أمر الاعتقال الإداري بحق الأسير علان”، تبادرت إلى ذهني مباشرة عبارة “علان يُركّع إسرائيل”. ثم تذكرت تعريف عالم العلاقات الدولية هانز مورغنتاو، للقوة، في كتابه الشهير “السياسة بين الأمم”، بأنّها أثر إنسان على عقل إنسان. هو قالها وعينه على الدول، ولكنه يقصد أنّه حتى بين الأمم والدول فإنّ القوة بالدرجة الأولى موضوع نفسي (سيكولوجي). خطر ببالي أنّ علان بإضرابه استطاع أن يقهر منظومة القمع الصهيونية؛ استخدم جوعه وحياته أداةً حشرت منظومة الأمن والجيش والقضاء الصهيوني في الزاوية، بعد أنّ أدت حسابات القوة والربح والخسارة، وتداعيات الاستشهاد الممكنة لعلان لهذه المنظومة الواحدة المتداخلة، التي لا انفصال فيها بين المخابراتي والقضائي والسياسي، للاستسلام. لقد عجزت منظومة القوة الإسرائيلية عن أن تهزم عقل وإرادة الإنسان الفلسطيني من نوع علان.
عندما قرأت حيثيات قرار المحكمة الصهيونية، وجدتُ أنّ الأمر أشبه بتراجع تكتيكي إسرائيلي، لم يصل حد الركوع، ولكني تأكدت أيضاً أنها معركة عقول. فقرار المحكمة يقول: “إذا ثبت أنّ الضرر الذي أصاب دماغ علان غير قابل للإصلاح، فإنّ الأمر الإداري باعتقاله سيعتبر لاغياً كلياً”. وقررت المحكمة إعادة النظر بالقضية إذا تحسّن وضعه، أو حدث خلاف بشأن قضيته. وأكد القاضي أنّه بوضعه الصحي لا يشكل خطرا الآن.
لم تصدر أخبار أنّ محمد تعرض لضرر دماغي حقاً، بل إنّه كان متماسكاً حد رفضه قرارا يقضي بإطلاقه بعد ثلاثة أشهر، وأصر على إفراج فوري تحت تهديد الإضراب عن الماء أيضاً. إذن، كان الإسرائيليون يبحثون عمّا يحفظ ماء وجههم بالحديث عن نجاحهم في تدمير عقله، ولكن يحفظ لهم أيضاً مخرج التراجع وإعادة الاعتقال، من دون تجاهل أنّ علان تضرر صحياً بالتأكيد، فالإضراب له ثمنه الحتمي، ولكن ننتظر تقييما موضوعيا لحالته الصحية.
لقد كان الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة “حماس”، يعاني جسدياً ولا يستطيع الحركة تقريبا، ولكن دماغه ولسانه أسسا وقادا الحركة. هي إذن معركة عقل فعلا.
أخبرني مناضل قصة حدثت معه، عندما أرهق الجنود على الجسر (الحدود) مناضلا آخر بالتفتيش، ثم قال ضابط لآخر، اتركه؛ الخطر ليس ما يحمله في جيبه، أو في رسالة في كبسولة في أمعائه، بل ما يحمله في دماغه.
وعندما تحدث جنرال الجيش الإسرائيلي موشيه يعالون، يوماً زمن انتفاضة الأقصى عن ضرورة “كي الوعي” الفلسطيني، أي حرق عقولهم بالعقوبات كما لو كانت تحرق بالأسيد، لاستئصال الجزء المتعلق بالمقاومة من هذا العقل، فإنّه كان يدرك أنّها معركة عقول.
ما يحدث الآن هو أنّ الإنسان الفرد الفلسطيني، يتمسك بقضيته لأبعد مدى. ولكنه يفعل ذلك بوجود مشكلتين: الأولى، أنّ الحركة السياسية الفلسطينية، الجماعية، وخصوصاً المنظمات والفصائل، ليست بمستوى الحدث والصمود. والثانية، أننا ما نزال نبحث عن العقل الجمعي، حيث يمكن للمناضلين والناس أن يعملوا سوياً بتجانس وتناغم. هي عبقرية الفرد الفلسطيني، بانتظار إبداع الكُل واندماجه معاً.
الجمعة 21 آب (أغسطس) 2015
أثر إنسان على عقل إنسان
الجمعة 21 آب (أغسطس) 2015
par
د.احمد جميل عزم
مقالات هذا المؤلف
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
91 /
2188070
ar أقسام منوعات الكلمة الحرة كتّاب إلى الموقف احمد جميل عزم ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
24 من الزوار الآن
2188070 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 24