الجمعة 16 كانون الثاني (يناير) 2015

“هستيريا حصان”

الجمعة 16 كانون الثاني (يناير) 2015 par د.احمد جميل عزم

في مساء أحد الأيّام، قبل أسابيع، كنت على موعد مع وليد نصّار، مدير شبكة “أجيال” الإذاعية، في رام الله. لأول مرة أزورهم في موضوع لا علاقة له ببرامج الإذاعة؛ كانت زيارة اجتماعية تقريباً. لم يدر محرك سيارتي. وفي طريقي من حيث ينتهي “السرفيس” (سيارة الأجرة) والإذاعة، شاهدتُ رجلا رأيتُ صورته في “فيسبوك”. مَن وضَع الصورة قال إنّه يعاني وضعاً صحيا صعباً، ليس وحده بل وعائلته أيضاً، ويبيع بضاعته على عربة متنقلة. وحذّر واضعُ الصورة أن تحاول مساعدته فسيرفض “فقط اشتري منه”. كان يدفع عربته بجسده أكثر منها بيديه غير القادرتين. وبرغم مراكمتي أكبر قدر ممكن من بسكويت وسكاكر الأطفال، ظل المبلغ قليلاً جداً.
مع وليد تشعب الحديث إلى مكان غير مقصود. وعلى شاشة حاسوب على الجدار، عرض عليّ أصوات بعض طلبته في الجامعة، وامتحانات الإلقاء وتطورها منذ بداية الفصل، وكلها مسجّلة على حاسوبه. ثم عرض عليّ، وفق برنامج حاسوب، التطور المتوقّع لأصوات الطلبة بعد خمس سنوات، وأعلمني أنّه يستعين بهذه التقنية لاختيار مذيعي الشبكة من المواهب الواعدة.
يُقال إنّ برامج المواهب المتكاثرة في فضائياتنا العربية، تقوم بما يسميه علماء اجتماع الاقتصاد بعملية “التسليع” أو (Commodification)؛ أي تحويل الموهبة والجمال إلى سلعة. لكن المفارقة أنّ هذه طريقة قد توصل إلى إبداعاتٍ حقيقية. وقبل هذه البرامج، فإنّ موسيقيّا مثل عمر خيرت وأعماله العالميّة بدأت في كثير من الأحيان مقطوعات لمقدمات وموسيقى تصويرية لأفلام ومسلسلات بعضها تجاري.
في مشهد قصير في برنامج للمواهب العربية قبل أيام، قام مجموعة صِبية، جاؤوا من غزة، من معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى التابع لجامعة بيرزيت، بأداء أغنية لوديع الصافي، فاستطاعوا ممارسة “الإبهار” بأقصى طاقاته، فتناقَلَت وسائل الإعلام المشهد القصير، وتسابق كُتّاب الصحافة للكتابة عنهم.
قبل سنوات، شاهدتُ في مدخل كلية الدراسات الآسيوية والشرق أوسطية في جامعة كيمبريدج، صوراً فائزة في مسابقة طلابية للصور في الشرق الأوسط. وكانت الصورة صاحبة المركز الثاني، طفلات يتعلمن العزف على حاجز وضعه الجنود في مدينة الخليل.
سألت كثيراً ما هو قوس العنفوان الذي ذكره محمود درويش في قصيدته “قوس العنفوان”، والتي غناها سميح شقير، عن “جيتارتان تتبادلان موشحاً وتقطعان، بحرير يأسِهما رُخام غيابنا عن بابنا، ترقّصان السنديان، الماء يبكي والحصى والزعفران، والريح يبكي...”.
هل تتخيل أدرينالين طفلة تعزف على حاجز جندي صهيوني لئيم؟ هل هناك حاسوب مثل حاسوب وليد يحلل أدرنالينها ومشاعرها؟ ماذا تختزن في عقلها؟ شعورها بالقهر لمنعها من المدرسة؟ بالقهر من البيت المدمر، اللعبة المكسورة، الأب المكسور المريض يدفع عربة لبيع البسكويت، أو أبٌ يعمل بنجاح رغم الاحتلال، أم رغبتها المكسورة في اللعب، ثم روحها الجميلة، ثم خوفها، ثم التحدي في العينين الجميلتين، ثم الأخ الذي يَصغُرها بعام واحد وتبول ليلا لا إرادياً في سريره، وهي مشكلة بدأت منذ مداهمة الجنود البيت! وجندي ينتهك طفولتها؟ ثم تنتفض هي والطفل بحجر، ومقاومة من كل نوع.
آنذاك، اليد العازفة على القانون القادمة من غزة والدمار والتفجير، ستكون قادرة على أن تجسّد وتجيب: ماذا يعني “قوس العنفوان”؟
لم يأتوا ليكونوا سلعة، بل “ليستطيعوا سبيلاً للحياة”. قد لا يكونون أجمل صوت، ولا أفضل عزف، ولكن في رجفة الصوت، ورعشة الوتر بيت مهدوم، وصوت قذيفة، وألم فقد عزيز؛ وفي وميض العينين قصّة كهرباء لا تصل البيت كثيراً، وفي قسمات الوجه غضب من فصائل متقاتلة.
كيف يرتج الجسد من أغنية؟ كيف تصبح أغنيةٌ عادية صياحاً في دمائنا؟
السّر هو اختزان ضربة وترٍ لموجتين تضربان الشاطئ، وطعم فنجان قهوة في مكتبة في يافا شربها الأب يوماً وأخبر عنها الابن اللاجئ، وحنان أمٍ جميلة تتزين أحياناً بثوبها الكنعاني السّحري. السر هو اختزان أدرينالين جدٍ سافر لينضم للثورة، وعاد مستشهداً. السرُ هو نسيج صمود، وتضحية، وخيبات، وخوف، وألم، ورعب، وفشل، ونجاح، ووتر وعزف. وما فعله أطفال غزة وهم يحاولون الخروج بين “الهُدَن” الخمس ودمارها ليعزفوا موسيقى، كان هو “الظلُ يبكي خلف هيستريا حصان، مسه وترٌ، وضاق به المدى بين المدى والهاوية... فاختار قوس العنفوان”.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 74 / 2178061

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2178061 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40