إذا نظرنا إلى وضع العالم العربي اليوم، فإنّ حالة التشظي هائلة؛ من حروب أهلية في اليمن وليبيا وسورية والعراق، إلى انقسام وقلق في مصر ولبنان والبحرين، كما انقسامات وتوترات بدرجات أقل حدة في دول أخرى. واللافت في كل الأحوال هو انبثاق هويّات فرعية متصادمة. وما يستحق التوقف هو أنّ هذه العمليات من نتائج عمليات مرتبطة بالعولمة والتحرير الاقتصادي، التي قيل يوماً إنّها تهدف أو تؤدي إلى ذوبان وتذويب الهويات القومية في هوية معولمة أو “مؤمركة” (أميركية)، لكن الحقيقة أنّه نتج عن تفاعلنا معها “انقسام” وليس “تذويب”.
في التسعينيات، كان القلق لدى كثيرين من أنّ العولمة تُذوّب الخصوصيات القومية والوطنية، وتجعلنا جزءا من “القرن الأميركي”. وكان من يعارض وجهة النظر هذه يقول إنّ العولمة تقدم للإنسان حرية وتحررا، يسمحان بتدفق المعلومات والبضائع له، ويسمحان له بالتعلم والعمل عن بعد، وأنّ هذا إيجابي؛ يرخي قبضة الدول الدكتاتورية وأنظمتها المغلقة والمتسلطة، فتتحرر قطاعات المعلومات وتشكيل الأفكار، وتؤدي الليبرالية الاقتصادية إلى تقليص هيمنة الحكومات على أرزاق الناس وبالتالي على مواقفهم السياسية، بل وتتقلص هيمنة المجتمعات وقواها المنغلقة على الأفراد.
ما حدث كان بعيداً عن تصورات الفريقين: من خاف وخوّف وأرعب الناس من العولمة، ووضعها في إطار المؤامرة الأميركية؛ والمتفائلون غير الخائفين من الانفتاح على العالم والتحرر من قبضة الأنظمة والمجتمعات المحافظة التقليدية التي تقيد الفرد.
فمثلا، كان الإعلام عبر القنوات الفضائية، والإنترنت، يبدوان في البداية نوعا من عملية “التغريب”؛ أي نشر أفكار وقيم الغرب، ما أخاف قطاعات كثيرة منهما. لكن مع الوقت، صارت لكل طائفة دينية قنواتها الكثيرة، وصارت هناك قنوات مخصصة للقبائل البدوية، وأخرى لأندية رياضية، وأخرى لأحزاب وحتى أفراد، فاختفت التلفزيونات الوطنية أو تراجع مشاهدوها كثيراً -والمقصود هنا التلفزيونات الرسمية التي تخاطب كل المواطنين، حتى ولو قامت على تمجيد الزعماء والقادة- ولم يحل مكانها شيء معولم أو قومي عربي جامع، بل قنوات تخاطب جماعات صغيرة ومحددة، وربما أحياناً عابرة للحدود، كمخاطبة أكثر من طائفة أو شريحة في أكثر من دولة، ولكن بشكل غير وحدوي مع باقي مقومات المجتمع. وزاد ذلك كثيراً بظهور شبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت، والتي كرست الانقسام الطائفي، والقبلي، والحزبي، والمناطقي، والاجتماعي.
في عملية اللبرلة الاقتصادية، أي تحرير السوق والاقتصاد، لم يخرج الاقتصاد من يد النخب الحاكمة البيروقراطية والعسكرية الحاكمة السابقة، كما كان مرجواً؛ بل حدثت عملية خصخصة زائفة، جعلت ضباط أمن ورؤساء وزراء ووزراء سابقين، وأبناءهم وعائلاتهم، يتحولون من “مسؤولين” إلى “رجال أعمال”، بشرائهم المشروعات الحكومية، أو استثمارهم الاحتكاري في قطاعات اقتصادية وخدمية كانت في يد الدولة. وهذا عنى بدلا من الانفتاح على العالم وتقلص حدود القهر والقيود الحكومية على الفرد والمجتمع، إلى نشوء ظواهر من مثل أن رجل الأعمال صار بحد ذاته شيخ قبيلة أو رئيس حزب، ويعتمد على تأييد قاعدة اجتماعية صغيرة من موظفيه وتابعيه توصله لعضوية برلمان، ويستخدمها في صراعاته، وصار الفرد في ظل ضعف الدولة الرسمية التي تخلت عن دورها لقطاع خاص -فيه الكثير من الفساد والاحتكار، وجماعات المصالح الضيقة المختلطة بالاعتبارات العائلية والعشائرية والحزبية والشخصية، والمستفيدة من مساعي الحكام تقسيم المجتمع- يجد الحل لتأمين أمنه الشخصي والعائلي ورزقه في أن يعود لطلب هذه في إطار العائلة (القبيلة) والطائفة، وبالتبعية لشخص أو حزب أو مجموعة.
الثابت أنّه لا عولمة الإعلام والمعلومات، ولا تحرير الأسواق وكسر الحواجز التجارية والاقتصادية، قد أديا إلى عملية انصهار وتذويب في أطر هويات عالمية وهيمنات أميركية وغربية؛ بل أديا إلى تعبير الجماعات الصغيرة والهويات الفرعية والأفكار الضيقة عن نفسها عبر الوسائل الإعلامية الجديدة بقوة، واللجوء لهذه الجماعات حصولا على خدمات وحماية لم تعد الحكومات تقدمها، ما عزز بناها (الجماعات) التنظيمية المتصادمة، العنيفة في كثير من الحالات، على حساب الكل الوطني، فضلا عن حساب الهويات القومية العربية والأممية الجامعة، وإن تذرعت بها أحياناً كما في حالة “داعش”.
الخميس 7 أيار (مايو) 2015
العرب.. عولمة أدت إلى التشظي
الخميس 7 أيار (مايو) 2015
par
د.احمد جميل عزم
مقالات هذا المؤلف
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
65 /
2198587
ar أقسام منوعات الكلمة الحرة كتّاب إلى الموقف احمد جميل عزم ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
12 من الزوار الآن
2198587 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 13