تب الكثير عن ملحمة عين عرب كوباني بأبعادها العسكرية والإستراتيجية، السياسية والإنسانية، إلا أنني أشعر أن من واجبي كقومي عربي أن أتوقف عند أبعاد لم يتوقف عندها كثيرون في حمى الانشغال اليومي بمتابعة تفاصيل المعركة والإعجاب برجال المدينة الصامدة ونسائها الأبطال.
لقد أبرزت هذه الملحمة عمق وحدة المصير بين الكرد والعرب في مواجهة خطر متسلّل من أعماق تاريخ الفتن في منطقتنا ليضرب حاضرنا ومستقبلنا، فأكدت أن معركة الكرد في سورية هي معركة العرب المدافعين عن وحدتهم بوجه التفتيت، وعن تقدمهم بوجه التخلف، وعن إسلامهم الحقيقي بوجه محاولات الانفضاض عليه من الداخل بعد فشل محاولات الانقضاض عليه من الخارج.
وأكد تعاطف أبناء سورية، بكل ألوان طيفهم السياسي والاجتماعي، مع أهالي مدينة عين عرب كوباني ، وكذلك تعاطف الشرائح الأوسع من المجتمع العربي، أن الرابط الذي وحّد العرب والكرد بقيادة صلاح الدين الأيوبي قبل أكثر من 800 عام لتحرير القدس هو نفسه الذي يوحدهم اليوم بوجه من يريد إبعادهم مجدداً عن تحرير القدس واستعادة فلسطين، ويدخلهم في عالم من الاحتراب والاقتتال والتوحش، وكأن بهؤلاء يريدون مجدداً الانتقام من انتصارات صلاح الدين، كما فعل الجنرال اللنبي حين دخل القدس محتلاً على رأس جيش الإنكليز قائلاً: «اليوم انتهت الحروب الصليبية»، أو كما فعل الجنرال الفرنسي غورو حين وقف، بعد احتلال جيوشه لسورية، أمام قبر صلاح الدين قائلاً: «ها قد عدنا يا صلاح الدين».
كما أكد هذا التعاطف أخوّة العقيدة والتاريخ والمصير بين قومية العرب وقومية الكرد، إذ لا يمكن أن يكون أحدنا قومياً عربياً أو سورياً أو عراقياً أو مصرياً أو مغربياً وينكر على غيره قوميته أو وطنيته، تماماً مثلما لا يمكن لشعب أن يكون حراً إذا استعبد شعباً آخر.
لقد كشفت هذه المعركة أيضاً كثيراً من الزيف الذي جرى ضخّه في إعلامنا وعقولنا ووعينا بأن من يخوض حرب الإبادة الجماعية ضد عين عرب كوباني ومحيطها إنما يفعل ذلك في سبيل الله، فيما الله عز وجل بريء من كل توحش وإجرام، أو إنما يفعل ذلك من أجل الإسلام فيما الذين يذبحون اليوم في عين عرب كوباني وغيرها هم أيضاً مسلمون مؤمنون.
وكشفت هذه المعركة كذلك ازدواجية حكومة أردوغان في تركيا، حين تترك شعباً كردياً بأكمله يذبح أو يشرّد على حدوده، فيما تمتلك دون غيرها وسائل إحكام الحصار على قتلته، فكيف يكون أردوغان ضد القتل في سورية عموماً، ويبقى صامتاً، حتى لا نقول متواطئاً، مع القتل في عين عرب كوباني ومحيطها.
وكشفت ملحمة عين عرب كوباني أيضاً من جديد سياسة ازدواجية المعايير التي تعتمدها واشنطن وحلفاؤها إذ تركت لأسابيع أهل عين عرب كوباني يقاومون وحدهم «الغزاة الجدد»، فيما طائرات التحالف تجول في سماء الشمال السوري والغرب العراقي من دون أن تستهدف تجمعاً واحداً لهؤلاء الغزاة المحيطين بعين عرب كوباني ، حتى إذا ما بدا أن المدافعين عن مدينتهم يبلون بلاءً حسناً، ويصدون الهجمات عنها، تتحرك طائراتهم لإبعاد الغزاة بعد أن كان أكثر من مسؤول أميركي قد أعلن «أن إنقاذ عين عرب كوباني ليس من أولويات الاستراتيجية الأميركية» وأكثر من مسؤول أممي دعا العالم «لمنع ارتكاب مجازر في عين عرب كوباني بعد سقوطها»، معلناً سقوط المدينة الباسلة وأهلها في عزّ مقاومتهم.
سينتصر غداً أهل عين عرب كوباني ومحيطها على الغزوة المتوحشة الجديدة، ويثبتون كغيرهم في سورية ولبنان وصولاً إلى العراق، إن الصمود البطولي هو وحده الكفيل برد العدوان، أيّاً كان مصدره، ولكن ما هو أهم من النصر أن يبنى على ما بدا من التفاف عربي وإسلامي حول عين عرب كوباني كل ما يحتاجه إقليمنا، بعربه وفرسه وتركه وكرده من تفاهم عميق. يجسد وحدة المصير والمصالح ويحترم حقوق الجميع، من مكونات هذا الإقليم، على قاعدة أن لا أقليات في رحاب الحضارة العربية الإسلامية الجامعة.
فالعرب غير المسلمين والعرب المسيحيون في المقدمة هم جزء من الأكثرية العربية في هذه المنطقة، والمسلمون غير العرب والأكراد في المقدمة منهم هم أبناء الأكثرية الإسلامية، والجميع ساهم في بناء الحضارة، كما ساهم في الدفاع عن هوية الأمة واستقلالها وعقيدة أبنائها بوجه كل الغزاة.