الجمعة 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018

الظاهرة الطائفية العربية: هل العلمانية نقيضها المباشر حقاً؟

الجمعة 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018 par د. إبراهيم علوش

لطالما استخدمت قوى الهيمنة الخارجية (والداخلية) معنا نحن العرب استراتيجية “فرّق-تَسُد”، لكن تلك الاستراتيجية، مثل أي استراتيجية قابلة للنجاح، لم تستلْ مدخلاتِها ومكوناتِها من سديم العدم، بل من ظروفنا الموضوعية، أي من انشقاقاتنا المتأصّلة في تراثنا وواقعنا وضيق أفقنا القَبَلي، فتعمّدُ إثارة صراع على أسسٍ طائفية أو قَبَلية أو غيرها في المجتمع العربي يعني أن أسبابه المباشرة قد تكون مفتَعلة، مثلما حاول شاس بن قيس أن يفتعلَ صراعاً بين الأوس والخزرج في مقتبل الدعوة الإسلامية، وكما حاول الاستعمار الفرنسي أن يفتعلَ صراعاً بين العرب والأمازيغ في المغرب العربي (سياسة “الظهير البربري”)، أو صراعاً طائفياً في لبنان بين طائفتي الموارنة والدروز في القرن التاسع عشر، إلخ...، لكن المادة الخام لمثل تلك الصراعات تظل إنتاجاً محلياً أصيلاً للأسف، وهو ما يجب أن نواجهه بكل صراحة ووضوح.

إنّ النزعة الطائفية، كالنزعة العشائرية أو الجهوية، هي تاريخياً ظاهرة سابقة لمفهوم حقوق المواطنة المتساوية وواجباتها الذي قامت الدولة الحديثة على أكتافه، فهي ديناصورات انثروبولوجية سابقة على اندماج “المكوّنات” المجتمعية في بوتقة مواطَنَة قومية واحدة، لكنها لا تزال حية ترزق تعيش بيننا، وسواءٌ كانت تلك الديناصورات الطائفية من فئة اللواحم أم العواشب، أي سواء اتخذ وجودها طابعاً دموياً (آكلاً للحوم البشر) أو اجتماعياً “مسالماً تعايشياً” (آكلاً لعشب المواطنة القومية ومؤسساتها)، فإنها تقتات في الحالتيْن على نُسغ رابطة المواطَنَة القومية فتضعفها وتخلخلها وتعيق نموها وتطورها، وبالتالي فإنّ كل تلك الظواهر النابذة أو الطارِدة اجتماعياً، بعيداً عن دائرة المواطَنَة القومية، تقوم في خضم إعادة إنتاج نفسها بإعادة إنتاج ما قبل الحداثة نفسها، أي أنها تعيد إنتاج الخميرة الاجتماعية للتخلف العربي، وتعقّد شروط النهوض القومي، مما يجعلها ظهيراً موضوعياً للأطراف صاحبة المصلحة بإعاقة المشروع القومي، من الإمبريالية في الخارج، إلى الكمبرادور في الداخل، ولهذا نلاحظ مثلاً أن مرجعيات طائفية وعشائرية مختلفة ومتناقضة في بلاد الشام شكّلت حليفاً مباشراً لقوى الهيمنة الخارجية في القرن التاسع عشر في مواجهة مشروع المواطنة القومية الذي أتى به إبراهيم بن محمد علي باشا، فخاضت المعارك مع جيشه لمصلحتها ولمصلحة الاستعمار الأوروبي والعثماني الذي تحالفت معه.

عليه، فإنّ نقاش مسألة ما إذا كانت الانقسامات الطائفية، وغيرها من الظواهر ما قبل القومية، هي انشقاقات مفتَعلة خارجياً أم انشقاقات نابعة موضوعياً من شروط وجودنا العربي هو جدال سفسطائي يستطيع فيه كل طرف أن يستحضرَ الشواهد والأدلة التاريخية والمعاصرة على صحة وجهة نظره الأحادية البُعد إلى ما لا نهاية، من دون أن يفلح أي من الطرفين بالإمساك بمفتاح ظواهر الانقسامات المجتمعية العامودية القائمة على أساس القبيلة والطائفة والعِرق والجهة إلخ... في تفاعلها الجدلي كمدخلات محلية قابلة للتوظيف السياسي الخارجي والداخلي الذي يعيد إنتاجها بصورة أعمق وأكثر توسّعاً، فتكتسب قوة دفع جديدة تعمّق التخلف والانقسام اجتماعياً وقد تحرق يدي من عبث بنارها سياسياً، كما رأينا في حالة توظيف النزعة السلفية الجهادية ضد الاتحاد السوفياتي السابق، أو ضد إيران، كأداة دينية أو طائفية ارتدّت بعد حين على الغرب والأنظمة العربية التي وظّفتها.

لكن مدخلات مثل ذلك التوظيف هي بالأساس ظواهر أصيلة خَلَقتها العوامل الموضوعية والتاريخية لمرحلة ما قبل الانصهار المجتمعي الذي أتت به الصناعة والمدينة والدولة الحديثة، ولا خروج منها بالتالي إلا بحركة نهوض قومي، لذا فإن استمرارها وتجددها مرتبطٌ بقدرة قوى الشد العكسي المناهِضة للنهوض القومي على إعاقته وكسب الجولات ضدّه، فلو استمر الإقطاع في أوروبا مثلاً، ولو لم تقضِ عليه الطبقة البرجوازية الصاعدة التي قادت الانتقال لنمط الإنتاج الرأسمالي على أجنحة الثورة الصناعية وحركتيْ النهضة والتنوير، لما نشأت دولة المواطَنَة القومية ولما حدث الاندماج الاجتماعي العامودي العابر للطائفة والعِرق والجهة، لتحلّ محلّه انقسامات أفقية داخلياً (طبقية أساساً) وانقسامات قومية خارجياً في مواجهة الدول القومية الأخرى وشعوب المستعمرات.

ولا يعني ما سبق بالطبع أن الطائفة والعِرق والجهة تتوقف عن الوجود مرة واحدة وبالكامل في ظروف الدولة الحديثة، بل قد تتمخّض فكرة “حرية المعتقد” في الدول المدنية المتقدمة عن تناسل المزيد والمزيد من الطوائف والبدع الدينية وغير الدينية، إنما الفرق هو أن الأغلبية الساحقة من المواطنين تصبح مرجعياتها المركزية مرجعيات ذات طبيعة قومية. والأساس هنا أنّ المواطَنَة القومية باتت بعد نشوء الدولة الحديثة الإطار المرجعي للعمل والتغيير السياسي الذي تتحرك ضمنه باقي الدوائر الاجتماعية-السياسية مثل الطائفة والجهة، إلى أن أضحى مشروع العولمة تفكيك الأطر المركزية القومية في الدول الصناعية المتقدمة، فانتشرت طروحات اللامركزية وغيرها.

العِبرة أن تجاوز الانقسامات الاجتماعية العامودية يتطلب، كشرطٍ ضروريٍ غيرِ كافٍ، مشروعاً للنهوض القومي، وهو مشروع مواطَنَة وانصهار اجتماعي لا يمكن أن يتحقق إلا في كنف الوحدة والتحرير والنهضة كمقدمة أولى، ولذلك نجد مثل تلك الانقسامات تتضاعف وتتعزز عندما يتراجع المشروع القومي، ونجدها تتقهقر عندما يلوح الأمل بتحقق تقدم تاريخي، أي عندما يتقدم المشروع القومي، وهو ما يشهد عليه تاريخنا العربي المعاصر في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات لأن الظاهرة الطائفية، وغيرها من الانقسامات العامودية في المجتمع العربي، نمَت سرطانياً بعد تقهقر المشروع القومي، ولعلّ البقية الباقية من الوعي القومي في سورية أحد أهم أسباب تماسكها في وجه المشروع الإرهابي التكفيري الذي اعتمد خطاباً طائفياً بالأساس.

الأساس في محاربة الطائفية إذن هو الانصهار الاجتماعي، والأساس في تحقيق مثل ذلك الانصهار الاجتماعي هو التطور الاقتصادي-الاجتماعي على الأرض وما يفرزه من تطور سياسي وثقافي، وعلى رأسه تبلور فكرة المواطَنَة وترسّخها في كنف الدولة الحديثة، ولكننا في ظروفنا العربية نعيش معاناة أكبر من التطور الاقتصادي-الاجتماعي المعلّق، ومن مأساة الزمن المفوت الذي تقتات عليه ديناصورات ما قبل تاريخية ما برحت تعيش بين ظهرانينا، فالقصة عندنا ليست مجرد انتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، لأن الإقطاع في بلادنا لم يكن يوماً من النمط السائد في الغرب لأن الصحراء تشكّل أولاً ثمانين بالمئة من الأرض العربية، ولأنها أفرزت ثانياً فائضاً سكانياً مستمراً ظلّ يهدد المراكز العمرانية الريفية والمدينية، ولأنها أنتجت ثالثاً نزعةً قبلية غاشمةً كشرط للغلبة أو الدفاع عن الذات حتى في المراكز العمرانية، ولأنها جعلت رابعاً من القوة العسكرية المستندة للتحالفات القبلية أساس الحفاظ على الحكم الذي تعامل معه مثل ذلك التحالف القبلي بشكل طفيلي تماماً، مما غيّر من طبيعة علاقة الدولة بالطبقة السائدة في المراكز العمرانية مقارنةً بأوروبا، فبدلاً من أن تكون الدولة “أداةً تنفيذية للطبقة الحاكمة”، بالمعنى الميكانيكي للتعبير، فإنها صارت شريكاً إلزامياً لها وقيِّماً اعتباطياً عليها، إلا في حالة واحدة هي حين يكون للدولة مشروع قومي، فإنها تصبح قابلة قانونية للتطور التاريخي للأمة، كما كانت الحال مثلاً في ظلّ دولة محمد علي باشا في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

وقد سبق أن أسّسنا في العدد 39 من طلقة تنوير مفهوم “القابلية للتذرر” (كنقيض للقابلية للتماسك) الذي أنتَجته النزعة القبلية في الوطن العربي التي تمثّل مظهراً من مظاهر البنية الفوقية لنمط الإنتاج الصحراوي الذي اقتضى التعصّب على أساس قرابة الدم أو النسَب الحقيقي أو المتخيّل من أجل التنافس الدموي الإلغائي على الموارد المحدودة والنادرة التي كانت تقتّرها البادية والصحراء على أجدادنا تقتيراً. فكلّ الأمم في المجتمعات ما قبل الدولة القومية الحديثة كانت تعيش انقسامات عامودية متنوعة كنِتاج موضوعي لهيمنة الزراعة والإنتاج الحرفي الصغير، بدلاً من الصناعة الكبيرة، على الاقتصاد، وهيمنة القرى المشتتة، بدلاً من المدن المركزية الكبرى، على الجغرافيا السكانية، وبالتالي غلبة رجل الدين والسيد الإقطاعي، بدلاً من المثقف ورجل الدولة، على المجتمع. أما المجتمعات التي يغلب على أوطانها الشرط الصحراوي، فإنها تبدأ من مرحلة ما قبل العمران القروي تفرز ثقافة غزو واستباحة تنتج دولاً غير مستقرة وآلية متجددة لتهديد أي عمران ناشئ لا يتمكن من إخضاع الحيز البدوي ضمن حدوده بطريقة القوة الغاشمة أو الاستيعاب الناعم، وما الحلقة المفقودة في فهم التطور الاجتماعي العربي، الناتجة إجمالاً عن محاولة فرض النظريات الغربية قسراً عليه، إلا الحلقة الصحراوية وإرثها الثقافي وبنيتها الفوقية المتجددة فينا بقوة الدفع حتى بعد دخول الأسس المادية لنمط الإنتاج الصحراوي في طور الانقراض.

وفي مثل ذلك السياق الصحراوي، يتّخذ كل انتماء معنىً قبلياً، حتى الانتماء القومي واليساري والديني، ومن المفيد أن نستحضرَ هنا المعنى الإنكليزي لكلمة طائفية sectarianism باعتبارها عوارض الكراهية والتعصّب والتمييز المترافقة مع الشعور بالانتماء لجماعة ضيقة، فكلمة “طائفية” في الأدب السياسي الغربي قد تعني التعصّب لطائفة دينية، وقد تعني التعصب ذا الدلالة السياسية من أي نوع، حتى لو كان متعلّقاً بمشاحنات كتل ضمن الحزب الواحد (قومي أو يساري أو ديني أو ليبرالي)، فكثيراً ما توصف الصراعات في المقالات الأجنبية بين الفصائل الفلسطينية مثلاً، بـ“الطائفية”! واستخدام تعبير “طائفة” بمعنى جماعة، قد تكون ذات دلالة دينية أو غير دينية، هو النهج القرآني في استخدام تلك الكلمة. مثلاً، ولتأتِ طائفةٌ أخرى لم يصلوا فليصلوا معك (النساء 102)، والمقصود هنا جماعة من المسلمين تلتحق بالصلاة، ومثلاً، فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدين (التوبة 132)، أي جماعة من الفرقة تتخصص في شؤون الدين، إلخ... والمقصود أن تعبير “طائفة” و“طائفي” في الحالتين يأتي لتمييز جماعة عن غيرها، ولو كانوا من أتباع المذهب نفسه عقائدياً، فالشحنة المرافقة للفكرة الطائفية كثيراً ما تكون أقرب لخلاف قَبَلي منها لخلاف ديني بالمعنى الفقهي، ولو أن ذلك ليس قاعدةً عامة بالضرورة، وكذلك يأتي استخدام تعبير “عنصرية” و“عنصري” في الشارع الأردني مثلاً لتناول النزعة القَبَلية بين أشخاص يشتركون في العروبة المنتسبة لجنوب بلاد الشام، أي الذين لا يختلفون على أساس “عنصري” من ناحية عرقية أو إثنية!

كذلك حمل “الحلف القبلي” عند العرب في الجاهلية معنىً طائفياً، ومن ذلك مثلاً “حلف الفضول” في قريش، الذي تصبح له رموزٌ وشعائرُ وقياداتٌ طائفية، بالمعنى الحرفي للكلمة، فلا بد للحِلف القبلي الراسخ المتجاوز لرابطة الدم، أو القائم على رابطة دم بعيدة، من تأويل مذهبي يشدّ لبناته بعضها إلى بعض، ونذكر هنا أن الكعبة المشرفة كانت قبل الإسلام رمزاً لقريش ومكة، قبل أن تصبح رمزاً للإسلام، وكان في الجزيرة كعبات كثيرة غيرها. وبعد الإسلام صارت إطاحة حلف قَبَلي بآخر، كما كانت الحال بين المرابطين والموحّدين في المغرب العربي مثلاً، تتطلب غطاءً أو غلافاً طائفياً. ويروى عن التحالفات القَبَلية للعرب قبل الإسلام أسماء مثل “تنوخ” في البحرين، وحلف “البراجم” وحلف “فرسان”، وكانت تنتج عن بعض تلك التحالفات طقوسٌ شبه دينية، كما حلف “المطيبين” في مكة، وهنالك “حلف الرباب”، وذكر المؤرخ الإغريقي هيرودوتس أن العرب كانوا يعقدون أحلافهم على النار، فلا بد للحلف القَبَلي مما “يطيبه” أو “يزكيه” أو “يطهره”، والطائفة قصة شعائر أكثر مما هي قصة تديُّن.

زبدة الكلام هي أن تجاوُز الحسّ الطائفي في الوطن العربي لا يتحقق من خلال أنظمة محاصصة سياسية تقوم على مبدأ “المشاركة الطائفية” الذي يراعي الوزن النسبي لكل طائفة ولا يقصي أحداً، إذ أن مثل ذلك النظام هو بطبيعته غير مستقر عندما يتغير الميزان الديموغرافي أو الاقتصادي أو غيره بين الطوائف كما لا بد له أن يتغير، لا بل أن مثل تلك الأنظمة تمثل بالضرورة وصفة لصراعات لا تنتهي، كما رأينا في لبنان، وكما في العراق بعد احتلاله من قِبل الأمريكان. إنّ التحول الديموقراطي الذي أحدثه الغرب مع الدولة الحديثة قام على انحلال “المكونات” في وطن، لا على “جمع المكونات” في وطن... فالديموقراطية “الطائفية” لا تنتج إلا المزيد من الوعي والانتماء الطائفي على حساب الوطن والأمة. وإذا كان بقاء الطائفة ممكناً في الدول الصناعية المتقدمة بصفتها خيارات فردية لا بصفتها مكوّناً سياسياً للدولة، فإنّ بقاء القبيلة والعشيرة لا يستقيم بتاتاً مع حسّ المواطنة، كما أثبتت تجربة قبائل “الغجر” في أوروبا، فلا بد من فرط البُنى القبلية وتفكيك الحسّ القبلي ليكون لنا وعيٌ قومي وحس بالمواطنة، مع الإدراك الكامل أن مثل تلك القفزة تتطلب عملاً دؤوباً طويل المدى ولا يمكن أن تتحقق بكبسة زر، وأن الطريق للوصول إليها قد يتطلب الكثير من الشدّ والرخي، وعلينا أن نتذكر أن الإسلام نفسه لم يتمكن من القضاء على الجاهلية القبلية التي تشكل جوهر كل انحياز لاعقلاني في مجتمعنا العربي، وعلى رأسه الانحياز الطائفي!

إذن نقطة البداية هي تفكيك الحسّ القبلي، الناتج عن نمط الإنتاج الصحراوي من جهة، وتمكُّن الكمبرادور العربي من ثروة بترودولارية هائلة وظّفه في تعميم أسوأ ما في مظاهر الثقافة الصحراوية خلال العقود الخمسة الأخيرة في ثنايا المجتمع العربي مثل التعصب الإلغائي والغزو، مع التشديد أن بثّ الحسّ القبلي لا يقتصر البتة على الكمبرادور البترودولاري. إنّ نقطة البداية إذن في محاربة الظاهرة الطائفية في المجتمع العربي هي الانصهار المجتمعي، وهو ما لا يمكن أن يتحقق في ظروف التجزئة والتبعية والتخلف التي يعيشها مجتمعنا إلا عبر حركة قومية، لأن مجتمع المواطنة والحقوق والواجبات المتساوية لا يتحقق في الأقطار المستعبَدة الخاضعة المفككة المنهوبة، فالشرط الأول لمحاربة الظاهرة الطائفية هي إنجاز مرحلة التحرر القومي، أما الصراخ عن العلمانية ليل نهار، وفصل الدين عن الدولة، والزواج المدني، وتغيير مناهج التعليم، إلخ... من دون تحقيق شروط التحرر القومي، أي قبل تأسيس قواعد دولة المواطنة، فلن ينتِجَ إلا نخباً منسلخة عن مجتمعها، ربما تحمل الكثير من النوايا الطيبة، لكنها إذا نجحت بتمرير بعض القوانين من فوق، بالتعاون مع مشاريع “الإصلاح” الليبرالية التي يدعمها الغرب، وبعض الحكام الكمبرادوريين، فإنها لن تبني أكثر من قصرٍ من رمال، ستجرفه أول موجة صغيرة من الخطاب الماضوي الرجعي.

لا نناقش أن المطلوب هو دولة مواطنة، يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات، ولكن مثل ذلك لن يتحقق ويمكث في الأرض من دون تغييرات عميقة في البنية التحتية للاقتصاد والمجتمع العربيين، ولن ينجح من دون تصنيع ونهضة علمية وتكنولوجية حقيقية، ولن ينجح من دون استقلال قومي، وسيطرة الأمة على مواردها، ولن ينجح من دون عدالة اجتماعية، ولن ينجح بالتبشير العلماني المستقى من ظروف مجتمع آخر. فالدول القومية الصاعدة في أوروبا كان الشرط الأول لتأسيسها واستقلالها هو التحرر من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية في روما ككيان سياسي أوروبي، ولذلك فإن طرح مسألة فصل الدين عن الدولة جاء للتحرر من هيمنة الفاتيكان السياسية، ولتأسيس الدولة القومية، لا لمحاربة التديّن. وفي بعض الحالات جاءت محاولات التحرر من هيمنة الفاتيكان من خلال تبنّي مشاريع الإصلاح الديني البروتستنتية، التي تتسم بتأسيس كنائس ذات مرجعية قومية في كل بلد على حدة، وبالصلاة وتلاوة الإنجيل المقدس بلغة أهل البلاد بدلاً من اللاتينية، وفي الحالتين نحن نتحدث عن مشروع تحرر قومي حرر الناس من هيمنة المرجعية المركزية للكنيسة العابرة للحدود القومية، وأسس بسبب ذلك تحديداً لنشوء دولة المواطَنَة غير الخاضعة لمرجعية دينية عالمية.

إنّ تأسيس دولة المواطَنَة والقضاء على الظاهرة الطائفية قضاءً مبرماً لا يتمّ بشكل رغائبي يقفز عن الشروط الموضوعية للواقع، ولا يتمّ من خلال تبنّي مشاريع ليبرالية متغرّبة لن يؤدي تبنّيها إلا لعزل أصحاب مشروع دولة المواطنة العربية الحقيقية عن الشعب العربي، ويدخلهم في صراعٍ مع التراث، مما يعيق مشروع التغيير الحقيقي عندما تُضِل الطليعة المخلصة والمسلحة بحسن النوايا البوصلة وتتوه في سراب الخطاب الليبرالي.

ومع التذكير بموقفنا المبدئي ضد الإرهاب التكفيري وكل ممارسة طائفية من حيثما أتت، وضد الفكر الطائفي سواء كان سنياً أم شيعياً أم مسيحياً أم علمانياً، ومع التأكيد على ضرورة إعادة قراءة التراث قراءة نقدية، وعلى أولوية اللحاق بركب الحضارة، فإننا لا نستطيع ارتكاب خطيئة القفز من فوق شروط واقعنا، وخطيئة الانزلاق نحو النفس الليبرالي المناهض في زماننا للحسّ الوطني والقومي أصلاً. ففي مرحلة التحرر القومي لا بد من حشد كل الجهود بحسب الأولويات الاستراتيجية للمرحلة، وفي هذه المرحلة بالذات تكمن الأولوية في مواجهة الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية، التي تعمل عبر أذرع تكفيرية وليبرالية في آنٍ معاً، ولا بدّ لنا من الاستعداد للتعاون مع كل متديّن أو علماني يشترك معنا في هذا الهدف الاستراتيجي، ولا بد لنا أن ندركَ أن تحقيق أهداف المشروع القومي هي المقدمة الضرورية لتحقيق هدف دولة المواطنة، وأن القفز من فوق هذا الشرط لن يحقق مواطنة أو علمانية أو اشتراكية، بل سيسبب المزيد من التوهان.

باختصار، إنّ نقيض الظاهرة الطائفية (والقَبَلية) العربية هو الوعي القومي.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 80 / 2183431

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع ابراهيم علوش   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2183431 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40