الجامعات هي الغد، وهي الشباب والنبض والأدرنالين المتدفق والجمال، ومختبر تغيير العالم، والجنون. وعندما تجد علم فلسطين موجودا في كل جامعة عالمية تقريباً، تصبح فلسطين جزءا من كل ذلك.
ليس قرار الاتحاد الوطني للطلبة البريطانيين، يوم الثلاثاء الماضي، الانضمام رسميا لمقاطعة إسرائيل، إلا تعبير عن حركة شبابية عالمية، تَعرِف فلسطين وتعرف قضيتها وجمالها وبهاءها.
قرار الاتحاد ليس الأول من نوعه. وأذكر أني حضرت، قبل قرابة خمسة عشر عاما، لقاء حاشدا لمئات الطلبة في جامعة إدنبره الاسكتلندية، التي كان رئيس مجلس إدارتها يوما آرثر بلفور، الذي منح اليهود وعداً بوطن قومي في فلسطين. ويومها، حاول شابٌ أسمر نحيل بنظارتين، إقناع الطلبة بعدم المقاطعة الاقتصادية، لأنّه إذا “أخضَعَت الجامعة استثماراتها للأخلاق ستصبح غير أخلاقية إزاءهم”. قالها ضاحكاً، قاصداً أنّ الرسوم ستزيد إذا دخلت الأخلاق قرارات الاستثمار. ويومها أيضاً، ألقى طلبة أوراق فارغة “مُكرمَشة” عليه، مع صيحات استهجان، في تقليد طبيعي، قابله الشاب بابتسامة من يقول “اللهم قد بلّغت...”. وتقررت المقاطعة.
قبل نحو سبعين عاماً، كان أشهر أساتذة العلاقات الدولية في العالم يبدأون مدرسة تفكير جديدة تسمى “الواقعية”، من روادها اليهودي الألماني المهاجر هانز مورغنتاو. ثم برز نجم هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي. وإذا كان تأييد كيسنجر لإسرائيل أمرا ذائعا، فقد كان مورغنتاو وغيره يزاودون عليه، ويعتبرون أنه يضغط على إسرائيل للوصول لسلام. ومما قاله مورغنتاو، أشهر عالم علاقات دولية ربما في القرن الماضي، متبحجاً بقوة التأييد لإسرائيل: “حتى لو أرادت إدارة أميركية، فلن تستطيع بوجود التعاطف الأميركي الشعبي مع إسرائيل أن تلقي بها في النهر”. ولكن إذا نظرنا الآن، فلعل أشهر منظّر حالي للواقعية والعلاقات الدولية، وهو جون ميرشماير، نشر ومعه الأستاذ الشهير في جامعة هارفارد ستيفين وولت، العام 2007، كتابا صنع ضجة هائلة، بانتقاده دور اللوبي الصهيوني، وكان عنوانه، “اللوبي الاسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية”.
في تشرين الأول (نوفمبر) المقبل، ستقف الولايات المتحدة أمام استحقاق الاجتماع السنوي لمؤتمر الدراسات الشرق أوسطية الأميركية، المعروف باسم “ميسا”. والاستعدادات والمؤشرات واضحة. فأكبر جامعات الولايات المتحدة، وفي مقدمتها نيويورك وبرينستون، شهدت مؤخراً حراكات ناجحة من أساتذتها المرموقين لتشريع مقاطعة إسرائيل في حرمها. وهذا سينعكس ويتمأسس في “ميسا”.
وحتى جامعة “SOAS” البريطانية، التي يُحمّل الإسرائيليون طلبتها مسؤولية رعاية مشروع قرار الطلبة البريطانيين الأخير، ترتبط تاريخيا بفكرة الاستعمار والاستشراق. وكما أخبرني أستاذ منها: “كانت معهدا لإعداد موظفين يكونون جزءا من الاستعمار”. هذا الأستاذ أعد كتاباً لم يصدر، اعتمد فيه على صور آلاف شعارات الجدران التي صورها بنفسه للانتفاضة الأولى. وفي جامعة لندن القريبة منها، يسمي أستاذ آخر يعمل في قسم “دراسات الإمبراطورية” نفسه -ساخرا- بأنّه في دائرة دراسات الإمبريالية، وينتقد سياسة الغرب.
هناك تغير هائل في العقول إزاء فلسطين. ويقول محللون إنّ سياسات إسرائيل العنصرية والدموية هي سبب التغير. وهذا صحيح جزئياً، لكن الحقيقة أنّ عربا وفلسطينيين نسجوا قصصا تستحق التحية.
من مشاهداتي الشخصية: علم فلسطين ملصق على باب قبو مكتبة في إسبانيا؛ صور الطفل فارس عودة تملأ جدران إدنبرة؛ شابتان اسكتلنديتان في غلاسكو تصفان كرم أهل غزة وكيف قدّموا واجب الضيافة، وهم لا يجدون ما يأكلون؛ نجار بريطاني يمشي ويلصق علم فلسطين على كل موقف باص يجده؛ شابة بنغالية في جامعة لندن تتذكر طعم مناقيش الزعتر في القدس؛ صورة طفلات الخليل يعزفن الكمان على حاجز احتلالي معلقة في كيمبردج؛ رفيف زيادة بعد أن ركلها صهيوني في بطنها في جامعة في كندا، قائلا يجب منعك من أن تحملي يوما بإرهابي، تطلق حول العالم أسبوع مناهضة “الأبارتهايد”، وتلقي الشعر وتقول: “نعلم العالم الحياة”.
ما هو أجمل من هذا الزرع، يوم تأتي لحظة الحصاد، ويوم تختتم الخطوات الصغيرة بالخطوة الكبيرة. يومها ستعود الأغنية القديمة الراقصة: “والله شفتك يا علمي..”، وسيبتسم جيل الرواد الراحلين؛ إداوارد سعيد وابراهيم أبولغد وهشام شرابي، والشهداء باسل الكبيسي ونعيم خضر وعزالدين القلق، ومن نسيتهم ولم أعرفهم.. وسيحتفل رواد ورائدات بيننا، أمد الله في أعمارهم.
الخميس 4 حزيران (يونيو) 2015
والله وشفتك يا علمي..
الخميس 4 حزيران (يونيو) 2015
par
د.احمد جميل عزم
مقالات هذا المؤلف
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
70 /
2182525
ar أقسام منوعات الكلمة الحرة كتّاب إلى الموقف احمد جميل عزم ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
39 من الزوار الآن
2182525 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 32