الأحد 27 شباط (فبراير) 2022

مقالات ملف « الأخبار» : أوكرانيا وحيدةً: نريد التفاوض

الأحد 27 شباط (فبراير) 2022

- الغضب الفالت والغضب العاقل

ابراهيم الأمين

غضب في أميركا وأوروبا على روسيا بسبب عمليتها العسكرية ضد النظام الموالي للأميركيين في أوكرانيا. وللغضب الأميركي علامات ومظاهر. وهو يعكس طريقة التفكير، ويعكس القدرة وهامش الحركة أيضاً. في حالة الدول الضعيفة أو القوى غير الحكومية أو المجموعات الحزبية أو الأفراد، ينزل الغضب الأميركي ضربة قاتلة في لحظات. لا حاجة لأميركا إلى أن تسأل أو تستأذن أحداً، لا مجلس أمن ولا أمم متحدة ولا ناتو ولا قضاء ولا من يحزنون. وهي تفعل ذلك، لأن تقدير رد الفعل على غضبها يكون حاسماً في أن المقابل تحت السيطرة.

في حالات أخرى، يتمظهر الغضب الأميركي على شكل خطوات يصفها البعض بـ«المدروسة والعاقلة». وفي هذه الحالة. تكون أميركا نفسها، قد قدرت أن أي رد فعل على غضبها ستكون له أثمان تصيب مصالحها مباشرة، قبل أن تحسب حساب الحلفاء في أي مكان من العالم. وفي هذه الحالة، تظهر «العقلانية» و«الحسابات» على شكل الإعلانات المتكررة عن الاتصالات والمشاورات الجارية مع «أركان المجتمع الحر».
طبعاً، لا يمكن للغضب الأميركي أن يقتصر على الكلام فقط. هذا لو حصل يوماً ما، فسيكون بمقدور أهل المكسيك تجاوز الحدود والبدء باحتلال الولايات واحدة تلو أخرى. العقوبات الاقتصادية، والتشهير الجرمي بحق الخصوم، والحصار بكل أشكاله، والحملات الإعلامية، هي تحصيل حاصل في العقل العقابي الأميركي. لكن، عندما يقتصر الأمر على ذلك، فهذا يعني أن الضربة العسكرية غير متاحة... أقله في هذه اللحظة.
اليوم، نراقب مستوى من الغضب الأميركي (وتاليا الأوروبي) من النوع «العاقل والمحسوب». صحيح أن روسيا قالت بلسان رئيسها إنها مستعدة للأسوأ. إلا أن هذا الاستعداد ليس بالضرورة عنصراً كافياً للردع. بل هو في حدّه المنطقي إعلان الاستعداد للذهاب الى أبعد من المستوى القائم من الحرب الآن. وصحيح أيضاً أنه لا وجود في أوكرانيا لقوة قادرة على مواجهة الجيش الروسي. لكن الأهم هو أن الصنف «العاقل والمحسوب» من الغضب الأميركي يأخذ في الاعتبار أن توسع دائرة المواجهة قد يقود الى خسائر تتجاوز احتواء الروس للموقف الأوكراني أو إطاحة الحكم هناك. العقل والحساب الأميركي، هنا، ينظر بالضبط الى العناصر الواقعية التي جعلت فلاديمير بوتين يقرر إطلاق العملية العسكرية.
في هذا الإطار، من المفيد مراجعة ما سرّبته المصادر الأمنية والعسكرية والسياسية الأميركية طوال أسبوعين. هؤلاء الذين كانوا يجزمون بأن الحرب واقعة، ولم يكونوا يستندون فقط الى تعنت «زلمتهم» في كييف، ولا الى التحشيد العسكري الروسي على الحدود مع أوكرانيا، بل، أولاً وأخيراً، الى معطيات يملكها الأميركيون حول بروز عناصر جديدة تتيح لبوتين السير في الخيار العسكري.

يعلّمنا الدرس الأوكراني أن في الغرب عقلاً شريراً وانتهازياً وحاقداً، لكنه عقل يقيس الربح والخسارة

وعلى قياس الموقف الأميركي، لنأخذ كل المواقف التي صدرت وتصدر عن أطراف حلف الناتو، وعن العواصم الغربية وعن المنظمات والهيئات بكل أصنافها، وخصوصاً غير الحكومية، حيث تباشر ماكينة جورج سوروس تحصيل الفواتير من كل الذين موّلهم خلال ثلاثة عقود، لأنه يخشى على النموذج الذي عمل على إنتاجه طوال عقود طويلة، وظن أنه بات راسخاً لا تهزه عاصفة ولا موقف، ولا يقدر أحد على إطاحته... وكل هؤلاء يرفعون الصوت، ولمن لا يريد أن يتعب نفسه في البحث، يكفي أن يعود الى أرشيف ثوار سوريا ولبنان والعراق ومصر وتونس وليبيا من الذين انتهى بهم المطاف الى حيث ما نسمعه اليوم من «الدمية» زيلينسكي، الذي يصرخ في البرية: ها أنا متروك وحدي... والعالم الحرّ يتركني فريسة الدب الأكبر!
لنقل إن زيلينسكي كان يراهن على أن الغرب سيردع روسيا ويمنعها من شن الحرب. هذا كل ما كان يقدر على قياسه، لأنه يعرف أن واقع بلاده العسكري والأمني والسياسي والجغرافي والاقتصادي لا يمكنه من مواجهة الروس. وهو يعرف أن في بلاده أكثرية لا ترغب به، حتى ولو كانت هذه الأغلبية لا تريد لروسيا أن تعود الى حكم أوكرانيا. لكن الرجل يستمد قوته من النفوذ والدعم الغربيين. وهو كان يأمل أن يشتمل هذا الدعم على توفير درع حماية عسكري يقيه شر القتال، وعندما بدأ يسمع أزيز الرصاص، توهم أن الجيوش الغربية بدأت الزحف لنجدته، وعندما اكتشف فجأة أنه موهوم أو مخدوع، صار يرفع الصوت صارخاً في وجه الغرب، ويرفع الصوت مستجدياً حواراً مع روسيا علّه يبقى في الحكم ولو مع تنازلات.
عملياً، يعلّمنا الدرس الأوكراني أن الغرب فيه عقل. عقل شرير انتهازي حاقد، لكنه ليس عقلاً جاهلاً، بل عقل يقيس الربح والخسارة. وفي حالتنا هذه، يجد الغرب نفسه أنه أمام خيارات ضيقة جداً. فالغضب المطلق يدخله في مجهول ليس معروفاً منه سوى الموت والدمار. أما الغضب العاقل والمحسوب، فيتيح له اللعب على التناقضات، علّه يحدّ من خسائره، ويتعلم من أجل المواجهة المقبلة.
السؤال المهم اليوم: كيف تيقّن بوتين من عجز الغرب عن التورط في مواجهة شاملة؟ وهل هو خيار مفتوح أم يقف عند حدود كييف؟ وهل يذهب بوتين الى أبعد مما يمنع عودة الغرب الى الغضب المطلق؟ تلك مسألة ساعات أو أيام لا أكثر.

- الصدمة الروسية آتت مفعولها: أوكرانيا تعرض التفاوض

أحمد الحاج علي

الصدمة الروسية آتت مفعولها: أوكرانيا تعرض التفاوض

موسكو | تسارعت، أمس، وتيرة التطوّرات على الجبهة الأوكرانية - الروسية، وسط غلبة واضحة وحاسمة لموسكو، دفعت الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، الذي وجد نفسه وحيداً بعدما لمس تخاذلاً أميركياً - «أطلسياً» عن نصرته، إلى عرض التفاوض على روسيا، وهو ما أبدت الأخيرة تجاوباً أوّلياً معه، وسط ترقّب لما يمكن أن تتطوّر إليه الأمور خلال الساعات المقبلة على هذا الصعيد. وجاء عرض التفاوض الأوكراني بعدما أعلن المسؤولون الغربيون، بصراحة، أنهم لن يقوموا بمدّ جسر دعم جوّي وبحري وبرّي عسكري لصالح كييف، أوّلاً لمحدودية القدرة على ذلك في ظلّ السيطرة الروسية الكاملة على الأجواء، وثانياً لما يمكن أن يجرّ إليه هكذا دعم من اشتباك مباشر مع موسكو، يعني بالضرورة فتح الباب على حرب شاملة لن تستثني أحداً.

لن يكون أمام زيلينسكي، على ما يبدو، سوى خيارَين لا ثالث لهما

وفي ظلّ هذا التملّص الغربي، وانهيار الدفاعات الأوكرانية، لن يكون أمام زيلينسكي، على ما يبدو، سوى خيارَين لا ثالث لهما: الأوّل قبول شروط الاستسلام الروسية وتسليم السلاح والبدء في مفاوضات تحييد أوكرانيا عن «الناتو»، أو ترك السلطة والتحوّل إلى حكومة منفى في إحدى الدول الغربية، التي قد تكون بريطانيا، في ظلّ عرض رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، استضافته. وفي انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع، يستمرّ الضغط الروسي في اتّجاه العاصمة الأوكرانية، كييف، التي باتت القوات الروسية أمس على مشارفها، حيث سيطرت على 83 موقعاً عسكرياً وعدد من الطائرات والمروحيات والمسيّرات والمدرّعات ومرابض المدفعية. وكانت قوّات «جمهوريتَي» دونيتسك ولوغانسك تمكّنت، بدعم من سلاح الجوّ الروسي وبغطاء مدفعي روسي أيضاً، من اختراق الدفاعات الأوكرانية على طول الجبهة، وتوغّلت لـ8 كيلومترات في العمق الذي كانت تسيطر عليه السلطة الأوكرانية.

أنقر على الصورة لتكبيرها

كما تقدّمت القوات الروسية إلى مدينة خيرسون، وأعادت فتح القناة التي كانت تزوّد شبه الجزيرة بالمياه العذبة من سدّ خيرسون، ما يعني أن إعادة التواصل البرّي بين روسيا وشبه جزيرة القرم قد باتت ممكنة. وفي أعقاب سيطرة قوات مظلّية تابعة لموسكو على منشأة مفاعل تشيرنوبل النووية، جرى التفاهم مع القوات الأوكرانية المتواجدة هناك، والتي أبدت استعدادها للمحافظة على سلامة المنشأة وتسليم إدارتها للروس. إلّا أن الخطر النووي يظلّ قائماً، بالنظر إلى وجود 15 منشأة ومفاعل نووي على الأراضي الأوكرانية، معظمها قريب من كييف التي تشهد الآن معارك في شوارعها، بينما تسعى القوات الروسية للحفاظ على سلامة تلك المنشآت، لا سيما في ظلّ توافر معلومات حول وجود مجموعات من اليمينيين المتطرّفين وما يسمّى بـ«الفاشيين الجدد»، تسعى إلى تخريبها.

- «الهريبة» الأوكرانية من الموت: لا تضحية من أجل ثلّة فاسدين

حسين إبراهيم

في الوقت الذي كان فيه العالم مشغولاً بتحليل الحساب التاريخي الذي شنّ فلاديمير بوتين الحرب في أوكرانيا على أساسه، سقطت قراءة الجانب الأوكراني من الصورة، من زاوية الوهن الذي أصاب الجيش وبنية الدولة الأوكرانية التي كان يُفترض أن تكون قد ورثت جزءاً من القوّة العسكرية السوفياتية، وهي القوّة ذاتها التي استندت إليها روسيا، وأعادت بناء جيشها الذي بدا في اليوم الأول للحرب رشيق الحركة، كما لو أن جنوده يؤدّون رقصة باليه جماعية وهم ينتقلون من منشأة حيوية إلى أخرى، تحت تغطية نارية بدت هي الأخرى دقيقة ومتناسقة، بشكل لم نشهده، نوعاً على الأقلّ، لدى الجيوش الغربية، وتحديداً الجيش الأميركي. آخر حرب كبرى تصحّ مقارنتها مع حرب أوكرانيا، هي حرب إسقاط صدام حسين، باعتبار أن حروب يوغوسلافيا التي قورنت بها أوروبياً، هي في معظم جوانبها حروب عرقية وطائفية، أي أهلية، أو حملات جوية غربية. فجيش صدام حسين، على رغم أن نظام «البعث» كان متهالكاً ومعزولاً وساقطاً نظرياً، ما أفقد جنوده الحافزية للقتال، قاوم وصمد أكثر بكثير ممّا يفعل الجيش الأوكراني حالياً، ولم يسقط إلّا بعد وصول القوات الغازية إلى تخوم بغداد، وبعدما اختار القائد الهرب من ميدان القتال على أمل أن يقود مقاومة من مخبأ ما في تكريت، لولا أن وشى به بعض أقرب المقرّبين إليه. وحتى بعد ذلك، انتقلت قيادة المقاومة «البعثية» إلى نائبه عزت إبراهيم الدوري. وفي المحصّلة، دامت العمليات القتالية الرئيسية في تلك الحرب نحو 26 يوماً، بينما يبدو أن كييف التي وصل الروس إلى تخومها بعد ساعات من بدء الحرب، ستسقط بمجرد أن يأخذ بوتين قرار إطاحة نظام فولوديمير زيلينسكي.

سير المعركة حتى الآن يفضح لَعِب النخبة الأوكرانية على الشعور القومي، الذي كان الرهان عليه لإذكاء روح المقاومة، فإذا بها تتحوّل إلى بازار للتجارة يُستخدم عالمياً وأوكرانياً لغرض تمدّد حلف «الناتو» والاتحاد الأوروبي إلى حدود روسيا بهدف تطويقها، مقابل مكاسب سياسية ومادية لفاسدي أوكرانيا. والأهمّ من ذلك أن ما حدث يوجّه ضربة قاصمة، نظراً الى حجم أوكرانيا، إلى سياسة استغلال القوميات في الدول الأوروبية الشرقية والجمهوريات السوفياتية السابقة من قِبَل «الناتو» لإخضاع روسيا، وهي سياسة مثّلت حرباً خفيّة كان قد بدأها الغرب مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، على اعتبار أن إسقاط ما عُرف بالكتلة الشرقية لن يصبح ناجزاً إلّا بتحقيق هذا الهدف. لم يكن المراقب بحاجة إلى كثير عناء ليلحظ الانهيار المعنوي لدى الأوكرانيين، والذي تراكم قبل الهجوم، ليتحوّل إلى هزيمة نفسية مُحقّقة لحظة بدء الحرب، خاصة وهم يشاهدون الحلفاء في أميركا وأوروبا يتنافسون على تخمين الساعة الصفر للهجوم الروسي، مشفوعاً بالإعلان سلفاً عن عدم الرغبة بالدخول في أيّ حرب مع موسكو، والتأكيد على عدم القدرة على مقاطعة النفط الروسي، في ظلّ ارتفاعات في أسعار الوقود قد تأخذ العالم إلى ركود جديد وتطيح حكومات في العالم الغربي. بالنتيجة، سلّم الغرب مبكراً بالهزيمة، وشجّع الأوكرانيين على خيار «الهريبة».

سير المعركة حتى الآن يفضح لَعِب النخبة الأوكرانية على الشعور القومي الذي صار بازاراً للتجارة

زد على ذلك، أن رئيس الوزراء «القومي المتشدّد»، زيلينسكي، وعندما لم يلبِّ أحد من الأوكرانيين دعوته إلى حمل السلاح والمقاومة، أقام حفلة نواح على نفسه وعائلته، عندما تحدّث عن أن موسكو عيّنته الهدف الرقم 1 لهجومها، وعائلته الهدف الرقم 2، مُقدِّماً أمنه الشخصي وأمن عائلته على أمن البلد، ما استدعى عروضاً غربية عليه للجوء السياسي، لا تنسحب على الأرجح على مواطنيه العاديين الذين تدفّقوا بقوافل السيارات إلى الحدود الأوروبية من الجهة الأخرى، نحو بولندا ورومانيا ومولدوفا وسلوفاكيا والمجر، والتي سبق أن أوصدت أبوابها أمام الفارّين من الحروب في الشرق الأوسط، أو المجاعات في أفريقيا. أمّا لماذا غابت روح المقاومة إلى هذا الحدّ؟ فالجواب قد يكون أن لا أحد من الأوكرانيين، ولا حتى في القوات النظامية، يرغب في الموت من أجل مجموعة من الفاسدين الذين ارتبطت مصالحهم بالغرب، حتى لو جاء هؤلاء في انتخابات ديموقراطية سبقها الغرب بدعاية طاغية تغري الأوكرانيين بنعيم الانضمام إلى «الناتو» والاتحاد الأوروبي، وهي دعاية خبيثة أخفت الأهداف الحقيقية من وراء العرض السخيّ، والأهم أنها تكتّمت على مكامن التفجير التي ينطوي عليها هذا الانضمام، وخاصة أن أجزاء أساسية من البلد عبارة عن هدايا سوفياتية كان قد قدّمها الزعماء السوفيات المتعاقبون لأوكرانيا، إرضاءً للقوميين، ما يجعله فعلياً يوغوسلافيا مقلوبة، وهو ما لا يمكن للواهب، أي موسكو، أن تَقبل به، ليُستخدم ضدّها.
أوكرانيا، بحسب استطلاع للخبراء أجرته شركة «إرنست إند يونغ» عام 2017، تُعدّ تاسع أكثر الدول فساداً في العالم. وهذا الفساد هو ما أتاح للولايات المتحدة وبريطانيا خاصة استخدامها ضدّ روسيا. فحتى خطّ الأنابيب الذي ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا وباقي أوروبا عبر أوكرانيا، والذي كان يُفترض أن تتعامل معه كييف كهِبة من السماء، نظراً إلى فائدته الاقتصادية التي تتمنّاها دول كثيرة، حوّله فاسدو ذلك البلد إلى مصدر لابتزاز روسيا وألمانيا معاً، وجعلوه نهباً للصوص الذين كانوا يسرقون جزءاً من تلك الإمدادات، ما حدا بالأخيرتين إلى استبداله بخطّ أنابيب «السيل الشمالي 2» الذي اضطرّت ألمانيا من دون اقتناع، وتحت ضغط أميركي، إلى التخلّي عنه مؤقّتاً. كان يمكن لفاسدي أوكرانيا، أيضاً، إسقاط جو بايدن في الانتخابات الرئاسية عام 2020، لولا أن الأسباب التي دفعت بالأميركيين إلى التخلّص من دونالد ترامب، كانت أكبر. لكن ما فشل فيه الرئيس السابق حين حاول استغلال شبهة تورُّط هانتر بايدن، نجل بايدن، في قضية فساد أوكرانية، قد ينجح فيه إذا ما تنافس الرجلان في الانتخابات المقبلة عام 2024، فهو يملك هذه المرّة ذخيرة أكبر بدأ باستغلالها منذ الآن، حين أشاد باعتراف بوتين باستقلال الدونباس، واصفاً ذلك بأنه عمل «عبقري»، لكنه رأى أن هذه الأزمة ما كانت لتحدُث أبداً في ظلّ إدارته الجمهورية. لقد بدا جو «نعساناً» بالفعل في تعامله مع حرب أوكرانيا.

- كيف أثّر المناخ على توقيت دخول أوكرانيا؟

فيصل عادل

«إن الوقت والطقس هما كل شيء»، بهذه الكلمات أشار الباحث البريطاني، جيمس شير، في مقالته «شائعات الحرب: مفاجأة روسية أخرى في أوكرانيا؟» التي نشرها «المركز الدولي للدفاع والأمن»، إلى أن شهر شباط هو شهر الحسم في مصير الأزمة الأوكرانية. أكد شير مرة أخرى على التوقيت، في كلمة أمام لجنة الدفاع في مجلس العموم البريطاني، داعياً الدبلوماسيين الغربيين إلى إبقاء النقاش مع نظرائهم الروس، مستمراً لمدة خمسة أو ستة أسابيع مقبلة، حتى قدوم الربيع من أجل إفشال خطط الدخول الروسي إلى أوكرانيا.

يذكر الصحافي البريطاني، تيم مارشال، في كتابه «سجناء الجغرافيا: عشر خرائط تفسّر كل شيء يتعلّق بالعالم»، مدى تأثير الجغرافيا والطقس على الحروب. يقول مارشال إنه «بعد أسابيع قليلة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، شنّت النفاثات الأميركية غاراتها على مواقع القاعدة والطالبان. كان القادة الأميركيون يستعدّون لفتح الطريق، في يسر وسهولة كما تصوروا، إلى العاصمة كابول، وفجأة كان للجغرافيا منطق آخر مغاير تماماً». يتابع قائلاً: «هبّت أسوأ عاصفة رملية خبرْتها في حياتي. وتحوّل كل شيء إلى لون المستردة الأصفر، ساعتها لم يعد بوسعك أن ترى بأكثر من بضع ياردات إلى الأمام، الشيء الوحيد الواضح كان القمر الاصطناعي الأميركي، الذي أصبح كفيفاً وعاجزاً في غمار هذا المناخ الجديد، وكل الأفراد ابتداءً من الرئيس بوش إلى رئيس الأركان الأميركي إلى سائر القوات على الأرض لم يكن أمامهم من خيار سوى الانتظار، بعدها بدأ هطول الأمطار. كانت الرمال قد تحوّلت إلى عجائن من طين، ومرة أخرى أصبح واضحاً ضرورة التوقّف والانتظار ريثما تقول الجغرافيا كلمتها».
لذا، حين أشار شير في مقالة إلى ضرورة المماطلة مع الروس وتعطيلهم، حتى الربيع، كان ذلك لأسباب عدة: ففي شهر شباط، تتجمّد الأراضي في أوكرانيا، وتحديداً «مستنقعات بينسك» التي تتحوّل من أرض موحلة إلى أرض مسطحة، بالإضافة إلى مساحتها التي تقرب من 100 ألف ميل مربع. ثلوج شباط تعدّ ظروفاً مواتية للقوات الروسية ومعداتها للتقدم. لكن في الربيع، يذوب الثلج وتتحوّل الأرض إلى مستنقعات، ما يجعل من الصعب على القوات والمعدات العسكرية الروسية التقدّم في أوكرانيا. يحيل شير إلى مقالة للمحلل كيريل ميخائيلوف: «من غير الملائم للغاية تنفيذ عمليات هجومية في الربيع (...) لأن ذوبان الجليد يحوِّل الأودية إلى جداول، والجداول إلى أنهار، فإذا نُفذت عملية (عسكرية)، يجب تنفيذها إما في كانون الثاني أو شباط» وهو ما حدث.
كان الانتشار العسكري الروسي في إقليم دونباس أمراً مفروغاً منه بحسب أغلب المحللين، فلن تجد القوات الروسية المتقدمة معارضة تذكر. وبحسب الصحافيين روب ميلن، وولارس كراكلس، في مقالتهما المنشورة في «واشنطن بوست» بعنوان «الأراضي الرطبة والتربة المشعة: كيف يمكن أن تؤثر جغرافية أوكرانيا على الغزو الروسي»، فإن تقدم الروس نحو مدينة خاركيف، ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، من حيث عدد السكان، كان هدفاً سريعاً. وأرسلت روسيا بالتزامن مع حشد القوات على الحدود مع أوكرانيا، أكثر من 10 كتائب تكتيكية إلى بيلاروسيا، لتكون على مقربة من العاصمة الأوكرانية كييف بنحو 56 ميلاً فقط. لكن الطريق لم يكن معبداً أمامهم، فالطريق المباشر يمرّ عبر موقع الكارثة النووية في تشيرنوبيل، لذا كانت ضرورية السيطرة منذ اليوم الأول على الموقع، لكن لشدّة خطورته كان لزاماً على موسكو وكييف نقل القتال بعيداً عنه، الأمر الذي يفسر إعلان الجيش الروسي تعاونه مع نظيره الأوكراني في حماية الموقع.
وتعدّ المدن على نهر الدنبير الذي يقسم أوكرانيا شرقاً وغرباً، هدفاً سهلاً، لكن تكرار تدمير القائد السوفياتي، جوزيف ستالين، للسد الكبير في مدينة زابوريزهزهيا، لجعل النهر أكثر صعوبة على القوات الألمانية لعبوره خلال الحرب العالمية الثانية ــــ ما أسفر عن مقتل المدنيين وإغراق البلدات في هذه العملية ــــ يظلّ وارداً جداً لإبطاء التقدم الروسي، بحسب جوزيف جونيرو، المحلل في معهد «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، لذا تظهر العمليات العسكرية الروسية تركيزاً على الجانب الشرقي من أوكرانيا.
الروس أكثر علماً بالأراضي الأوكرانية من غيرهم، بحسب ألكسندر دوجين، المفكر الروسي، فهي «خاصرة» الإمبراطورية الروسية بحكم الجغرافيا. وفي خلال السنوات الـ 500 الماضية، تعرضت روسيا للهجوم عدة مرات من الغرب: جاء البولنديون عبر الساحة الأوروبية في عام 1605، أعقبهم السويديون بقيادة تشارلز الثاني عشر في عام 1707، والفرنسيون بقيادة نابوليون في عام 1812، والألمان مرتين في كلتا الحربين العالميتَين عامَي 1914 و1941، وقد كانت كل تلك المحاولات تمر عبر نقطة الضعف الجغرافية الوحيدة لروسيا، وهي الأراضي الأوكرانية.

- تركيا تنْعى «الركن الغربي الشديد»: أوكرانيا سقطت... ماذا بعد؟

محمد نور الدين

وقع الهجوم الروسي على أوكرانيا، في الوقت الذي لا تبدو فيه تركيا في موقع تُحسد عليه لجهة «المسافة الواحدة» مع موسكو والغرب. لم تتأخّر أنقرة في إدانة العملية الروسية على لسان جميع المسؤولين الموالين كما المعارضة، فيما اضطرَّت الأزمة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إلى قطع جولته الأفريقية، والعودة على وجه السرعة إلى بلاده لمتابعة التطوّرات، والمشاركة في قمّة لـ«حلف شمال الأطلسي». وكتب إردوغان، في تغريدة على «تويتر»، أن «العملية الروسية غير مقبولة، وهي تنتهك القانون الدولي. العملية تشكّل ضربة قوية للسلام والأمن الدوليَّيْن». وخلال استقباله وفد «اتحاد الديموقراطيين الدولي»، قال إردوغان: «إنّنا نواجه بحزن شديد ما جرى بين بلدَين صديقَين لتركيا، ولنا معهما علاقات قوية سياسية واقتصادية واجتماعية». وأضاف أن «تركيا تدعم وحدة الأراضي الأوكرانية»، داعياً إلى «حلّ المشكلات بين البلدَين عن طريق تطبيق اتفاقيات مينسك». وكما اعتبر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن «أوكرانيا هي صنيعة الطرف الروسي، وكانت جزءاً من التاريخ الروسي»، أشار إردوغان إلى أن «الدولة العثمانية كانت منذ القرن الأول لتأسيسها دولة أوروبية، وأن عدداً كبيراً من الدول الحالية في أوروبا كانت جزءاً من الدولة العثمانية»، مضيفاً أنه «لا يمكن لأحد أن يستبعد تركيا من أوروبا وأن يضعها في الطرف المقابل». وردّ الرئيس التركي على أسئلة لصحيفة «يني شفق» بالقول: «إن اتّخاذ تركيا موقفاً حاسماً في هذه اللحظات الانفعالية أمر خاطئ. يجب أن نتصرّف بدقّة وحساسية عالية. نحن عضو في حلف شمال الأطلسي، ولكنّنا على علاقات متطوّرة مع أوكرانيا وروسيا». وتابع: «إننا لا يمكن أن نكون إلى جانب طرف دون آخر. يقولون لنا تخلّوا عن أوكرانيا، لا لن نتخلّى. ويقولون لنا تخلّوا عن روسيا، لا لن نتخلّى. السيناريو الأفضل لتركيا هو أن يتّفق البلدان».

كذلك، اجتمعت أحزاب البرلمان الرئيسة، وأصدرت بياناً مشتركاً رأى في الهجوم الروسي «خطوة غير صائبة»، داعياً إلى الحفاظ على وحدة الأراضي الأوكرانية. وندّد «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي بالعملية، فيما شجب «حزب الحركة القومية»، شريك إردوغان في السلطة، الدول الغربية لأنها «تستخدم الأزمة الأوكرانية لابتزاز خصومها». أمّا مرال آقشينير، زعيمة «الحزب الجيّد» المعارض، فدعت إلى عودة تركيا إلى محورها القديم الأوروبي، و«التحرُّر من العلاقات» مع موسكو، عبر إلغاء صفقة صواريخ «إس 400»، وهو ما أثنى عليه مثلاً الكاتب المعروف، طه آقيول، في صحيفة «قرار». من جهة أخرى، دعا بعض النوّاب إلى حماية المواطنين الأتراك في أوكرانيا عبر التواصل معهم، علماً أن عدد هؤلاء يقارب 15 ألفاً. وجاء هذا بينما انعكس الهجوم الروسي اهتزازاً للأسواق المالية في تركيا، حيث تراجع سعر صرف الليرة حوالي ليرة واحدة، ليصل سعر صرف الدولار إلى أكثر من 14 ليرة. كذلك، تتخوّف تركيا من انعكاس ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي عليها، كونها تستورد تقريباً كامل احتياجاتها من الخارج، ولا سيما من روسيا وإيران. كما يتهدّد أنقرة خطرُ خسارة السوق الأوكرانية كأكبر سوق مستورِدة للطائرات التركية المُسيّرة.

اجتمعت أحزاب البرلمان الرئيسة، وأصدرت بياناً مشتركاً رأى في الهجوم الروسي «خطوة غير صائبة»

الأسوأ من ذلك هو أن أنقرة تواجه تحدّياً جديداً متمثّلاً في طلب السفير الأوكراني لديها، فاسيل بودنار، من تركيا، منع مرور السفن الحربية الروسية في المضائق، وفقاً للبند 19 من «اتفاقية مونترو للمضائق» عام 1936، والتي تقول بوجوب إغلاق المضائق أمام سفن أيّ دولة في البحر الأسود تكون في حالة حرب مع دولة أخرى. وفي أعقاب هذا الطلب، أعلن الناطق باسم الحكومة التركية، عمر تشيليك، أن الحكومة ستفي بالتزاماتها وفقاً لأحكام الاتفاقية، لافتاً إلى أنه يتمّ تقييم الأمر من جوانبه القانونية والديبلوماسية. وأضاف أن بلاده تعمل على الاستعداد لكلّ السيناريوات المحتملة، وخصوصاً الأمن في البحر الأسود. وجدّد انتقاد الهجوم الروسي، محذّراً من أنه «ستَنتج منه تداعيات خطيرة جدّاً على الصعيد القانوني الدولي». لكنّ وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، عاد ليقول إن «أحكام مونترو واضحة جدّاً؛ في حالة عدم كون تركيا طرفاً في حرب، فإن بإمكانها اتّخاذ إجراءات تجاه أيّ دولة في البحر الأسود هي طرف في حرب. الآن هل ما يجري في أوكرانيا حالة حرب أم لا؟ هذا ما يعكف على دراسته خبراؤنا. إذا كانت حالة حرب، يمكن أن نمنع السفن من المرور، لكنّ هناك بنداً آخر يقول إن أيّ دولة في البحر الأسود تقدّم طلباً لعودة سفنها الحربية خارج البحر الأسود إلى قواعدها، يتمّ السماح لها بذلك».
وفي تعليقات الكتّاب، قال سليمان سيفي أوزغون، في صحيفة «يني شفق» الموالية، إن «أوكرانيا سقطت»، ولم يَعُد في إمكان الغرب وأوروبا فعل أيّ شيء. واعتبر أن «روسيا رسّخت هيمنتها في أوكرانيا وشرق أوروبا غرباً، وفي كازاخستان وتتارستان شرقاً، فيما الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي منهاران». وأضاف أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، «فشل حرفياً»، وأن المسألة الآن هي كيف ستكون الولايات المتحدة بعد بايدن. من جهته، رأى سلجوق طاق يلماز، في الصحيفة نفسها، أن تركيا لا يمكن أن تعتمد على الغرب ولا أن تثق بروسيا، متابعاً أن مُضيّ بلاده في «الطريق الثالث» هو الذي يزيد من قوّتها ويحمي وحدة أراضيها. وأشار إلى أن «روسيا بغزو أوكرانيا استفادت من قوّة جغرافيّتها عبر التاريخ، ونحن أيضاً يمكننا الاستفادة من قوة جغرافيّتنا. لقد انتهى عصر الاعتماد على الغرب». وفي صحيفة «جمهورييات»، كتب محمد علي غولر أن روسيا بغزوها أوكرانيا أوقفت توسّع «حلف شمال الأطلسي»، وكبحت بعض مظاهر الهيمنة العالمية، وتعمل على إنشاء أوضاع عالمية جديدة. وعدّ ما فعلته «انتصاراً للسود (روسيا) على البيض (أميركا) في لعبة الشطرنج». وحذّر غولر من الأفخاخ التي يمكن أن تنصبها واشنطن لكلّ من موسكو وأنقرة، حيث «تشكّل الأزمة الأوكرانية قاعدة مناسبة لتلك الأفخاخ. وهذه هي المسألة الأساسية التي يجب أن تتنبّه لها تركيا». وانتقد السلطة كما المعارضة التركيتَين لجهة إدانة الهجوم الروسي، واصفاً ذلك بأنه «مؤشّر محزن» إلى إمكانية الوقوع في الأفخاخ الأميركية.
من جهته، يرى وصال حسن زاده، في «جمهورييات»، أن «الأزمة الأوكرانية تمثّل فرصة أمام تركيا لكي تهتمّ أكثر بتشكيل تحالف الجمهوريات التركية». ويلفت إلى أن «تركيا تحتلّ موقعاً مركزياً في السياسة الخارجية لروسيا»، معتبراً أن «على أنقرة أن تحتفظ بهذه العلاقات القوية، على أن يكون خيارها الأول لاحقاً تشكيل تحالف الجمهوريات التركية». ويعرب يوسف ضيا جومرت، في صحيفة «قرار»، بدوره، عن اعتقاده بأن «الحرب الأوكرانية، ولو لم تدخلها تركيا فإنها تُتعبها. فالليرة تجاوزت الأربعة عشر مقابل الدولار، وأزمة قمح تلوح في أفق البلاد، والسياحة ستتراجع والتضخّم الاقتصادي سيرتفع». وفي الاتّجاه نفسه، يشدّد أحمد طاش غيتيرين، في الصحيفة نفسها، على أن «تركيا وإن كان قلبها مع أوكرانيا، يجب ألّا تقطع علاقاتها مع موسكو، لكن عليها أن تَخرج بأقلّ قدر ممكن من الخسائر من هذه الحرب»، مضيفاً أن «هذا ما يقلق تركيا أكثر من غيره». وكتب محمد متينير، في صحيفة «يني شفق» الموالية، من جانبه، أن «على تركيا أن تأخذ مكانها في لعبة التاريخ هذه، وفي مرحلة عدم اليقين الراهنة»، منبّهاً إلى أن «أيّ خطوة ناقصة قد تضع البلاد أمام رغبة بايدن في إنهاء حُكم إردوغان»، مضيفاً أن «على تركيا أن تدرك أن الولايات المتحدة عدو، وكذلك الاتحاد الأوروبي. والحرب الأوكرانية ليست حربنا. ولا يجب كوننا عضواً في حلف شمال الأطلسي أن نخدم المصالح السياسية للولايات المتحدة». وأشار متينير إلى أنه «إذا تصاعدت الحرب فسيصاب الاقتصاد التركي بالشلل، وتتدمّر السياحة، ولا ننسى العواقب السياسية الداخلية». ومن هنا، يختم بأنه «يجب عدم الوقوع في لعبة بايدن في قتل عصفورَين بحجر واحد، لأن انخراط تركيا في هذا الصراع هو جزء من خطّة بايدن ضدّ بوتين وضدّ إردوغان. لكن أيضاً يجب ألّا نتخلّى عن دفاعنا عن وحدة أراضي أوكرانيا، والذي بدأ برفض ضمّ شبه جزيرة القرم سابقاً إلى روسيا».

- إسرائيل لا ترى غيْر سوريا: متى ستشعل روسيا الضوء الأحمر؟

يحيى دبوق

تسعى إسرائيل، بكلّ جُهدها، إلى أن لا تتسبّب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بتداعيات سلبية على أمنها واستراتيجياتها في مواجهة أعدائها، وتحديداً في الساحة السورية. والظاهر أن آمالها في ذلك تفوق تقديراتها الواقعية لِما يمكن أن يُقدِم عليه «الصديق» الروسي لاحقاً، وإن كانت تل أبيب إلى الآن لا تتلمّس سلبيات من شأنها الإضرار بما تسمّيه «حرية عملها» في الساحة السورية، التي تكاد تكون العنصر الوحيد الذي يهمّ الكيان العبري من كلّ القصة الأوكرانية. ومن هنا، يمكن فهمُ التخبّط الذي لا يزال يسِم موقف إسرائيل إزاء ما يجري؛ فهي، من جهة، مجبَرة على أن تكون إلى جانب الولايات المتحدة والغرب بحُكم تموضعها الطبيعي، لكنّها، من جهة أخرى، معنيّة أيضاً بأن لا تُغضب موسكو، على خلفيّة القدرة الروسية على الإضرار بأمنها، بمستويات يصعب عليها أن تتعايش معها. والحديث في هذا المجال يتعلّق تحديداً بالساحة السورية، التي تمتّعت فيها إسرائيل بهامش مناورة واسع نسبياً لتوجيه ضربات عسكرية مباشرة إلى أهداف ترتبط بتعاظم القدرة العسكرية النوعية المعادية لها هناك، بتنسيق وسماح روسيَّيْن لافتيْن، بفعل تخادم المصالح بينها وبين موسكو.

على هذه الخلفية، عمدت تل أبيب، ابتداءً، إلى إصدار بيان أوّل لم يتضمّن أيّ إدانة لروسيا، بل لم يَذكر الأخيرة بالاسم، مكتفياً بالتشديد على ضرورة حفظ سيادة أوكرانيا على أراضيها. إلّا أنها عادت في اليوم التالي لتُصدر بيان شجب لـ«الغزو الروسي»، في خطوة عُدّت استجابة للإملاءات الأميركية. والتباين الحادّ بين البيانَين الأوّل والثاني، يكشف ماهيّة موقف إسرائيل الذي يوصف بأنه كـ«مَن يمشي على البيض وبين النقاط». على أن المسألة ليست مقصورة على حدود البيانات فقط، بل إن قلق إسرائيل يتركّز على اليوم الذي يلي العملية العسكرية في أوكرانيا، واضطرارها للوقوف عملياً إلى جانب الولايات المتحدة والغرب في محاصرة روسيا والإضرار بها اقتصادياً. وإن كانت تل أبيب، في هذه المرحلة، تؤكد أنها لن تكون جزءاً من حصار غربي ضدّ موسكو، فهل ستظلّ قادرة بالفعل على التملّص من الإملاءات الأميركية؟

تخشى المؤسّسة الأمنية من أن يسمح بوتين لإيران بأن تنشط بحرّية أكبر في سوريا

بالنسبة إلى إسرائيل، يمكن تقسيم تبعات ما يجري إلى نوعَين: تداعيات آنية، وأخرى لاحقة، ولكلّ منهما تقدير وموقف خاصّان، قد يستدعيان من المؤسّسة الأمنية مداراتهما، كونها معنيّة بأن لا تُظهر أيّ سلبيات أمام أعدائها، حتى وإن قرّرت روسيا، مثلاً، دونما إعلان، تجميد «حرية العمل» الإسرائيلية على الساحة السورية. صحيح أن ما أعقب بيان الإدانة الإسرائيلي أظهر أن موسكو لن تتعامل معه بوصفه نهاية المطاف، لكن العِبرة هي في ردّة الفعل الروسية المتوقّعة على ما يمكن لتل أبيب أن تُقدِم عليه عملياً، تماشياً مع مصلحة الحليف الأميركي. وعليه، يبدو أن التقدير الإسرائيلي للموقف لا يزال غير محسوم، في انتظار ما ستؤول إليه الأمور. وبينما نُقل عن وزارة الخارجية (موقع واللا) أن «إسرائيل تلقّت رسالة روسية تَرِد فيها إشارات إلى نيّة موسكو احتواء بيان الإدانة الصادر عن تل أبيب»، الأمر الذي يتقاطع كذلك مع حديث مصادر سياسية (إسرائيل اليوم) عن أن ردّ الفعل الروسي لن يصل إلى حدود تقليص «حرية عمل» سلاح الجوّ الإسرائيلي في سوريا، إلّا أنه في المقابل أكدت مصادر أمنية (يديعوت أحرونوت) أن المؤسّسة العسكرية تستعدّ لمواجهة سيناريوات مختلفة، وفي المقدّمة منها ما يمكن وصفه وفقاً للمصادر نفسها بـ«الهدوء المؤقت» الذي قد يعمد الجانب الروسي إلى فرضه، في إشارة إلى إمكانية تجميد الهجمات في سوريا. هذه الفرضية كانت محلّاً للنقاش لدى عدد من معلّقي الشؤون العسكرية في وسائل الإعلام العبرية، حيث اعتبر بعضهم (القناة 13) أن «على إسرائيل أن تدرك حجمها، ومَن هو الجار الذي بات لديها في الساحة الشمالية (الجيش الروسي)، إذ إن آخر ما نريده هو مشاهدة تساقط سلاح الجوّ الإسرائيلي في السماء السورية، بصواريخ روسية».
على أيّ حال، وعلى رغم أن التداعيات المنتَظرة إسرائيلياً قد تكون قصيرة الأمد، ومن النوع الذي يمكنها تحييده عبر اتّصالات توضيحية من هذا النوع أو ذاك، إلّا أن القلق الذي يساور إسرائيل فعلياً، وتحديداً المؤسسة الأمنية فيها، هو من اليوم التالي، وبتعبير أوضح من المرحلة التي تبدأ فيها موسكو تلمّس تصاعد عدائية الغرب تجاهها، وإرادته الإضرار بتموضعها العسكري والأمني ومناعتها الاقتصادية، إذ إن ذلك سيدفعها إلى تعزيز علاقاتها مع أعداء أميركا، وعلى رأسهم إيران، ما يعني بالضرورة فوائد لمصالح الأخيرة العسكرية والأمنية في سوريا. ووفقاً لمصادر استخبارية إسرائيلية (هآرتس)، «تخشى المؤسّسة الأمنية من أن يسمح (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين، جرّاء ما يتعرّض له من ضغوط غربية، لإيران بأن تنشط بحرّية أكبر بكثير في سوريا، وبما لا يمكن لإسرائيل أن تحتويه».

- أوروبا تفتح ذراعَيها: أهلاً باللاجئين البيض!

سعيد محمد

لندن | ألمحت جهات أميركية إلى أن ما يصل إلى خمسة ملايين لاجئ قد يفرّون من أوكرانيا نحو قلب القارة الأوروبية. ومن الجليّ أن مجمل القوات الأميركية المتمركزة في بولندا - والتي يبلغ قوامها 5500 جندي - منهمكة منذ أسابيع في العمل مع سلطات وارسو على بناء قدرة استيعاب استثنائيّة لموجة ضخمة من اللاجئين، يبدو أن الأميركيين، وبالتعاون مع الأوروبيين، يسعون لاستقطابها بغرض خلق معضلة لروسيا التي اندفعت قواتها داخل الأراضي الأوكرانية بداية من مساء الخميس الماضي. وقال الناطق باسم الجيش الأميركي إن القوات المتمركزة في بولندا تأخذ مواقع لها على طول الحدود بين بولندا وأوكرانيا للمساعدة في توفير الحماية والمساعدة لفارّين من التقدم الروسي السريع شرقيّ البلاد. وقد جهزّت هذه القوات، بالتعاون مع الجيش البولندي، ما لا يقلّ عن ثمانية مراكز للتعامل مع عشرات آلاف الأشخاص الذين قد يتدفّقون من أوكرانيا المجاورة، وتجهيزهم للانتقال إلى مواقع إيواء داخل البلاد بحسب الحاجة. كما وُضعت أكثر من ألف مستشفى في حال طوارئ، وعُلّقت كلّ الشروط الصحيّة المتعلقة بـ“كوفيد 19”. وتبدي حكومة وارسو، من جهتها، حماسة غير مسبوقة تجاه اللاجئين الأوكرانيين، إذ أعلنت على لسان ماريوش كامينسكي، وزير داخليتها، أنها “على كامل الاستعداد لتوفير المأوى لأي شخص يفر من الصراع نحوها”، و“أن الحدود ستظل مفتوحة بشكل كامل”، مشيراً إلى أن “بلاده تستعد منذ عدة أسابيع لموجة من اللاجئين قد تحدث. وسنبذل كل ما في وسعنا لتوفير مأوى آمن في بولندا لكل من يحتاج إليه”.

وأثارت تصريحات الوزير البولنديّ سخريّة المراقبين، الذين قارنوا سلوك بلاده الحالي بالأزمة الحدودية الأخيرة لبولندا مع بيلاروسيا، والتي كادت تؤدي إلى نشوب حرب بين البلدين، بعد أن حاول أقل من 25 ألف لاجئ، أغلبهم من الشرق الأوسط، العبور نحو أوروبا مروراً بالأراضي البولنديّة، وتصدت لهم وقتها قوات الجيش ومتطرفون يمينيون وأبعدوهم بالقوّة. ومن الواضح أن عرق اللاجئين وديانتهم يلعبان دوراً في ذلك؛ فالأوكرانيون من ذوي البشرة البيضاء ومسيحيّون غالباً، وهناك بالفعل جالية أوكرانية ضخمة مقيمة في البلاد منذ انقلاب 2014 يُقدر عددها بمليون شخص. لكن الأصابع الأميركية ظاهرة هذه المرّة، وهناك تسابق لدى حكومات “حلف وارسو” السابق على إرضاء الولايات المتحدة عبر استقبال ملايين اللاجئين ليكونوا كورقة ضغط في يد “الناتو” ضدّ موسكو، تماماً على غرار ما حدث خلال الحرب في سوريا في العقد الماضي، عندما سهلّت دول عدة عبور اللاجئين السوريين إليها وعبرها لخلق معضلة سكانيّة لا يسهل حلّها من قبل دمشق.
وإذا نجحت الخطط الأميركية بهذا الشأن، فإن هذه الموجة التي ينبغي لأوروبا استيعابها ستجعل من أزمة الهجرة نحو القارة في 2015 مجرّد نزهة. وكانت تلك الموجة التي شملت حوالي مليون لاجئ قد تركت تأثيراً عميقاً على الأوضاع السياسية والاجتماعية في العديد من المجتمعات الأوروبية، وعززت من صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة فيها. ويتحدّث مسؤولون أميركيون الآن عن خمسة ملايين لاجئ أوكراني (من أصل 44 مليوناً، هم عدد سكان أوكرانيا)، لا شك أن كثيرين منهم لن يكتفوا بالبقاء في دول شرقي أوروبا الفقيرة، وسيحاولون الانتقال نحو الغرب، إلى ألمانيا والنمسا وفرنسا وهولندا وبريطانيا وغيرها من الدول الثريّة. ويتمتع الأوكرانيّون بحق الإقامة لـ90 يوماً بلا تأشيرة في دول الاتحاد الأوروبي. ولكن ازدواجية المعايير الأوروبية ستنكشف سريعاً من دون شك، عندما يسرع لاجئون إلى أوكرانيا من الشرق الأوسط وآسيا بالعبور نحو الغرب، حيث سيواجه هؤلاء معاملة مختلفة، وعلى الأغلب لن يُسمح لهم باستكمال رحلتهم.

هناك تسابق لدى حكومات “حلف وارسو” السابق على إرضاء الولايات المتحدة عبر استقبال ملايين اللاجئين

ومع أن عدداً من الأوكرانيين قد فرّوا بالفعل من بلادهم عبر منافذ بريّة خلال الأيّام القليلة الماضية نحو بولندا وهنغاريا وثلاث دول أوروبيّة أخرى لها حدود مع أوكرانيا – سلوفاكيا ورومانيا ومولدوفا -، إلا أن الأرقام لا تزال إلى الآن محدودة، وتتعلق غالباً بأشخاص وعائلات يعبرون على الأقدام، فيما قدّرت مصادر في الأمم المتحدة أن أكثر من مئة ألف شخص قد تركوا منازلهم وفرّوا إلى مناطق أخرى داخل أوكرانيا الشاسعة. وعلى رغم وقوع ضحايا بين المدنيين الأوكرانيين نتيجة العملية العسكرية الروسية، إلا أن أغلب السكان يترقبون تطورات الأوضاع. وليست هناك إلى الآن تقارير بوقوع أيّ استهدافات مباشرة للمدنيين، حيث نفذت القوات الروسية عمليات دقيقة ضدّ مؤسسات ومواقع عسكرية ولوجستية فحسب. لكن عديدين قد يفرّون لتجنب تجنيدهم في الجيش الأوكراني ودفعهم إلى القتال.
هنغاريا، من جانبها، قالت إنها “مستعدة لاستقبال اللاجئين من أوكرانيا”. وعبرت عدّة سيارات أوكرانية تقلّ مدنيين الحدود، فضلاً عن مشاة يجرّون حقائبهم. واستكمل بعضهم رحلته إلى رومانيا. كما قال مسؤولو الحدود السلوفاكيون إن سيارات أوكرانية خلقت أزمة عبور غير مسبوقة على نقاط الحدود، واضطر بعضها للانتظار لأكثر من 12 ساعة، وذلك بعد تصريحات من إدوارد هيغر، رئيس الوزراء السلوفاكي، قال فيها إن بلاده أيضاً مستعدة لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين - على رغم أنها كانت منعت غير المسيحيين بالعبور إليها في 2015 -. وتجهّز سلطات هذا البلد مواقع استقبال للتعامل مع عدد كبير من اللاجئين. وعرضت جمهورية التشيك - التي لا حدود بريّة لها مع أوكرانيا -، أيضاً، المساعدة في استيعاب اللاجئين، تماماً كما فعلت بلغاريا. وعرضت ألمانيا، بدورها، تقديم مساعدات إنسانية إلى البلدان المتاخمة لأوكرانيا، لكن وسائل الإعلام في البلاد شرعت بتجهيز المواطنين الألمان لتوقع فرار ما بين 200 ألف ومليون شخص من أوكرانيا نحو قلب أوروبا. وكانت ألمانيا قد استوعبت أكثر من نصف اللاجئين الذين فروا إلى البر الأوروبي في 2015.
وفي بريطانيا، النقطة الأبعد أوروبياً من الحدود الأوكرانية، حثت منظمات غير حكومية من بينها الفرع المحلي لـ“منظمة العفو الدولية”، في رسائل مفتوحة نشرتها صحف لندن، السلطات على استقبال آلاف اللاجئين من أوكرانيا، ولعب دور فاعل في توفير الملاذ الآمن لهم، وتعديل قوانين الجنسيّة والحدود الحاليّة لتمكين انتقالهم إليها من دون مواجهة عقوبات. وكانت بريطانيا قد شدّدت، بعد خروجها من عضوية الاتحاد الأوروبي، من ترسانة قوانين الجنسية والحدود المعتمدة، لتُجرّم الوصول إلى البلاد بوسائل غير مشروعة، وتفرض عقوبات تصل إلى السجن المؤبد على الأشخاص الذين قد يسهلون الدخول غير القانوني إليها، الأمر الذي قد يجعل مسألة وصول لاجئين من أوكرانيا أمراً في غاية الصعوبة والتعقيد، ومحدوداً بالأشخاص الذين تقطن عائلاتهم بالفعل في المملكة المتحدة. وقال متحدّث باسم وزارة الداخلية البريطانية إن أولويتها الحالية هي استيعاب الرعايا البريطانيين العائدين من مناطق الصراع، إلا أنها ستعمل مع الشركاء الدوليين حول عدة مسائل، من بينها قضية الهجرة مع تطور الأوضاع على الأرض. وقالت مصادر مطلّعة على نيّات الحكومة البريطانية للإعلام، إن هنالك توجهاً لبناء سيناريوات قد تتضمن استيعاب عدد أكبر من اللاجئين على نسق ما حدث وقت حرب تفتيت يوغسلافيا وغزو العراق والأزمة السورية. ولا يستبعد أن الجانب الأميركي يمارس ضغوطاً على لندن في هذا الاتجاه.
ولعلّ الخبرة التي اكتسبتها روسيا خلال الأزمة السورية بشأن سلاح اللاجئين الذي يشهره الغرب كجزء من منظومة الحرب الهجينة، قد تعني أن إجراءات ستُتخذ سريعاً من قبلها لحسم المعركة في أوكرانيا، ومن ثمّ إغلاق المنافذ البريّة لمنع حدوث تدفقات غير معتادة للسكان عبر الحدود. ولكن الأمور ما زالت إلى الآن مفتوحة على كلّ الاحتمالات، وحتماً سيجد كثير من الأوكرانيين، بفضل جهود “الناتو”، الفرصة متاحة أمامهم بشكل استثنائي للهجرة من الشرق نحو دول الشمال الغنية.

- مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة

أسعد أبو خليل

للمرّة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، تفقد الولايات المتحدة الأميركيّة السيطرة على مقدّرات العالم. تعوّدت أميركا منذ ذلك التاريخ على السيطرة على العالم وعلى إملاء إرادتها بالقوة أو بالتهديد أو بالحسنى على كل دول العالم. لم تكن روسيا ولا الصين في موقع المعارضة لا بل شاركت الدولتان في إرساء معالم نظام عالمي جديد تتحكّم فيه الولايات المتحدة. لم تتوقّف أميركا عن شن الحروب مباشرة أو مداورة في كل العالم. هناك حروب تشارك فيها أميركا من دون إعلانات رسميّة ولا تدري بها من المتابعة اليوميّة للإعلام الغربي أو العربي. أميركا دمّرت الصومال وتمعن في تدمير عدد من الدول باسم محاربة الإرهاب. أحياناً تحارب أميركا بالوكالة وأحياناً بجيوشها المنتشرة. اليوم، أدركت أميركا أن مرحلة جديدة قد بدأت. إن المشكلة ليست في العراق ولا في أفغانستان ولا في مالي. المشكلة أن دولاً شبه كبرى، مثل الصين وروسيا، لم تعد تسمح بالاستمرار في نظام عالمي أميركي. هذه مرحلة بالغة الخطورة في حياة الإمبراطوريّة الأميركيّة لأن الحكومات الأميركيّة المتعاقبة عملت على تجنّبها. أن يشنّ بوتين حرباً على دولة متحالفة مع أميركا هي من الممنوعات. يستطيع بوتين أن يهدّد وأن يرفع الصوت، لكن أن يشنّ حرباً بعد تهديدات ووعيد أميركي من خلال الصحافة الأميركيّة المُطيعة دليل على أن روسيا باتت اليوم في مرتبة من فرض النفوذ: أقلّ من مرتبة الاتحاد السوفياتي لكن حتماً أعلى من مرتبة روسيا قبل 2014. ليست هذه الأزمة وهذه الحرب إلا وليدة جرائم وأفعال أميركا المتفلّتة حول العالم. هذه مرحلة تتطلّب وقف التعاون في الحروب الأميركيّة الجارية باسم مكافحة الإرهاب. هذه حروب لفرض السيطرة الأميركيّة، وأميركا ترعى أنظمة ومنظمّات إرهابيّة.

خطاب بوتين الشامل عن أوكرانيا أدخل العالم في حقبة جديدة تؤرّخ لنهاية ما بعد الحرب الباردة. من المُبكِّر القطع بأن العالم دخل في منافسة جديدة بين جبّاريْن، لكن شحن الإعلام الأميركي (الليبرالي في معظمه) يشير إلى حالة ذعر تسود العاصمة واشنطن بسبب تقلّص السيطرة الأميركيّة العالميّة. بالرغم من وصف الجنون الذي أسبغه الإعلام الليبرالي على ترامب، فإن حقبة بايدن سرعان ما زادت من منسوب التوتّر العالمي. كان الإعلام الليبرالي وشبكة السياسة الخارجيّة المتنفّذة في واشنطن تثور على ترامب كلّما أعلن نيّته تخفيف التوتر مع بوتين ومع رئيس الصين، جي. التوتّر العالمي وإعلان العداء ضد الصين وروسيا باتا من مستلزمات السياسة الخارجيّة الأميركيّة. الانسحاب الأميركي من أفغانستان أقلقَ المتنفّذين (من الحزبيْن) في واشنطن وسارع حلفاء أميركا من الطغاة في الخليج إلى إبداء القلق من انكفاء أو تراجع أميركي، في وقت لا تزال القوّات الأميركيّة منتشرة في أكثر من 800 قاعدة عسكريّة أميركيّة حول العالم (هذا فقط التعداد الرسمي للقواعد والرقم لا يشمل قواعد سريّة في كل أنحاء الكرة الأرضيّة). إن تحالف السعوديّة والبحرين والإمارات مع إسرائيل هو نتيجة خيبة من هذه الدول (العروبيّة، كما يصفها لنا السنيورة وجعجع والجميّل) من تمنّع أميركي عن شنّ المزيد من الحروب. أميركا لم تُصب فجأة بداء اللا عنف. لا، أميركا أصيبت في الهزيمة في العراق وفي أفغانستان ولم يعد شعبها في وارد تأييد المزيد من الحروب الخاسرة، ولو إرضاء لطغاة محترمين في الخليج. الحروب والالتزامات العسكريّة الأميركيّة أفقرت الطبقة الوسطى هنا وزادت من الأعباء الماليّة للفقراء.
لم يمضِ على بايدن في البيت الأبيض أكثر من أشهر قبل أن يحضّ على تمرير قانون إنفاق هائل بقيمة 200 مليار دولار. القانون الذي مرَّ في مجلس الشيوخ بإجماع لم يخالفه إلا برني ساندرز، الذي صوَّت ضدّه. القانون له اسم «الإبداع والمنافسة الأميركيّة» يهدف إلى مواجهة النفوذ الصيني على أكثر من صعيد. طبعاً، القانون تحدّث عن أجيال أميركيّة جديدة وعن دفع التنافسيّة الأميركيّة قدماً. وقانون بهذا الاسم لا يخفي مضامين عسكريّة وأمنيّة واستخباراتيّة فيه. هذه دولة تسنّ قانوناً لشنّ حرب في بلد ما باسم: «قانون عتق الشعوب». معظم التخطيط والإنفاق الأميركي العسكري والاستخباراتي مُوجَّه نحو الصين لكن العداء لروسيا لم يخفت أبداً. توماس فريدمان ـــــ أشمئزّ من الاستشهاد به بسبب ضحالة فكره وعنصريّة تعبيراته ونفاقه وصهيونيّته ـــــ خالفَ الإجماع المخيف بين اليمين واليسار الليبرالي عندما حاول قبل أيّام، وبلطف، التذكير بمسؤوليّة واشنطن في الأزمة الحاليّة. جذور الأزمة الحاليّة تعود إلى توسيع نطاق حلف شمال الأطلسي. أميركا تريد تطويق روسيا وخنقها من أجل التفرّغ للخطر الصيني. استخفّت أميركا بالخطر الروسي ولهجة بوتين الأخيرة تعكس ذلك. أميركا لا تعبأ لكرامة الشعوب وليس تعاطيها مع العرب عبر العقود إلا دليل على ذلك.

بوتين يتحدّث عن الوضع على حدود روسيا، بصرف النظر إذا كان ذلك حقاً له أم لا. لكن أميركا استعملت الخطاب لغزو بلاد تبعد عنها نحو عشرة آلاف ميل

أميركا لم تخفِ نيّتها الخبيثة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. أرادت السيطرة على كل العالم أجمع وفرض هيمنتها على كل الشعوب قاطبة. بهذه البساطة. لكن لم تكن توارب في طموحاتها الهتلريّة. وبوريس يلتسين كان مثالياً للسياسة الأميركيّة. أصبح تابعاً لأميركا وكان وزير خارجيّته يتلقّى الأوامر من وزارة الخارجيّة الأميركيّة. لم تمانع أميركا أن يلتسين كان مخموراً أو أنه كان فاسداً أو أنّه خرّج جيلاً من أثرياء الفساد الذين انتشروا في أنحاء أوروبا. سخّرت أميركا صندوق النقد الدولي لضمان انتخاب يلتسين. في تمّوز عام 1996، صدرت مجلّة «تايم» بغلاف يشرح، أو يزهو بِالخطة الأميركيّة السرّية لتثبيت يلتسين في الرئاسة. في حينه، لم تتورّع إدارة بيل كلينتون عن تهديد الشعب الروسي في حال تخلّى عن المرشّح الأميركي. كان ذلك في زمن كان الشعب الروسي يعترف بأنه يحنّ إلى زمن الشيوعيّة بسبب تردّي الحالة المعيشيّة (لا تزال هناك نسبة ملحوظة تحنّ إلى زمن الاتحاد السوفياتي). لم تكتفِ أميركا بالسيطرة على المقدّرات السياسيّة لروسيا وجعلها دولة تابعة بالكامل لها، بل هي أحاطتها بدول معادية تحتضن قوات وسلاحاً أميركيّاً. توسيع حلف شمال الأطلسي أشعل الأزمة الحالية. أميركا لم تتورّع عن ضم جمهوريّات ثلاث كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي إلى حلف شمال الأطلسي. كيف يمكن أن تقرأ روسيا العمل هذا غير أنه عمل عدائي صريح؟
كان معظم خبراء الدراسات السوفياتية أو ما سُمِّي بـ«دراسات ما بعد السوفياتيّة» يعارضون توسيع الـ«ناتو». الخطوة بنظر الخبراء كانت استفزازية وتهدّد بعودة للحرب الباردة. أذكر تلك الفترة كيف أن خبراء الدراسات السوفياتية وما بعد السوفياتيّة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي (وهم ليسوا من اليسار) أجمعوا على معارضة توسيع الـ«ناتو». رأوا في ذلك إشعال حرب مؤجّلة واستفزازاً صريحاً لروسيا. كانت روسيا ضعيفة يومها ولم تكترث واشنطن لمشاعرها. حتى عميد الخبراء الحكوميّين في الإدارات الأميركيّة في الحرب الباردة، جورج كينان، حذّر من مغبّة توسيع الـ«ناتو». والوقاحة الأميركيّة تعتبر أن لبنان في الخمسينيّات والثمانينيّات يمثّل مصالحها الحيويّة، وأن غزو واحتلال العراق ضروري للأمن الأميركي لأن البديل «هو وصولهم لنا وتهديدنا»، كما كان جورج بوش يكرّر في خطبه. العالم كلّه مصالح حيويّة أميركية مما يعطي لأميركا الحق في غزو كل بقعة في العالم. لكن تحرم أميركا روسيا من حقها في أمن حدودها. لأميركا سياسة معلنة بمنع أي دولة في العالم من منافسة سيطرتها العالمية. وسياسة الأمن القومي الأميركي في إدارة بايدن أعادت التأكيد على هذه السياسة. كانت الخطة الأميركيّة حتى في عهد يلتسين تعتمد على تزنير روسيا بمحيط معادٍ لها ومنضوٍ في حلف الـ«ناتو». أميركا أرادت منع أي انتعاش للقوّة الروسية تحت أي مسمّى. والعداء الأميركي يثبت أن الحرب الباردة لم تكن أيديولوجيّة بالنسبة لها. كانت صراع قوّة محض. أميركا أرادت تركيع روسيا إلى الأبد. هي تعاملت مع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كما تعامل المنتصرون مع ألمانيا بعد الحرب العالميّة الأولى. لم يكن هناك أي تفسير عقلاني للإصرار الأميركي على الحفاظ على الـ«ناتو» وضمّ أعضاء سابقين في المنظومة الشيوعيّة فيه. هذا المخطط هو جزء من هيمنة أميركيّة على أوروبا برمّتها ومنع الطرف القوي فيها من الانبعاث مرّة أخرى.

خطاب بوتين إعلان ظهور القوة الروسية العالميّة، على الأقل في نطاق إقليمي. بدأت ملامح التململ الصيني والروسي في عام 2011 في قرار مجلس الأمن 1973 القاضي بحماية المدنيّين في ليبيا. اتخذته إدارة أوباما ذريعة لغزو ليبيا وتدميرها ـــــ تدميرها وطناً ومجتمعاً كما فعلت في العراق وفي أفغانستان. والرئيس الأميركي الحالي، مع مساعده أنتوني بلينكن آنذاك، حاججا بضرورة تفتيت العراق وتقسيمه إلى ثلاثة كانتونات. علمت روسيا والصين أن شهية أميركا للسيطرة والهيمنة لا حدود لها وأن الانصياع الصيني- الروسي لها في مجلس الأمن إنما يزيد في غيّها. بوتين يستعين بخطاب الأمن القومي الأميركي الذي تستعمله أميركا حول العالم للدفاع عن مجاله الحيوي حول حدوده. المفارقات لا نهاية لها في الوضع العالمي الحالي. الحكومة الكنديّة تفرض إجراءات قمعيّة بوليسيّة ضد محتجّين سلميّين في أوتاوا وتجمّد أرصدتهم وأرصدة من يتعاون معهم، فيما تتشدّق بشعارات الحرّية. السفارة الصينيّة في كندا لم يفتها المقارنة بين الخطاب الكندي في الدفاع عن حقوق المحتجّين في هونغ كونغ مقارنة بقمع المحتجّين في أوتاوا. بوتين يتحدّث عن الوضع على حدود روسيا، بصرف النظر إذا كان ذلك حقاً له أم لا. لكن أميركا استعملت الخطاب لغزو بلاد تبعد عنها نحو عشرة آلاف ميل.
لم تبدُ الإمبراطوريّة الأميركيّة في حالة ارتباك لا بل ذعر كما تبدو هذه الأيّام. وهي لم تتحضّر لهذه اللحظة. أحسن نيكسون وكيسنجر التحضير للحظة التوتر في العلاقة بين الجبّارين عبر تحسين العلاقة مع الصين. أمّن ذلك إمكانيّة محاصرة الاتحاد السوفياتي بجبّاريْن، لا يتشاركان في الأيديولوجيا. لو أن الاتحاد السوفياتي استثمر في تحسين العلاقة مع الصين وإنهاء الشقاق الروسي - الصيني لكان ذلك قد أمدّ في عمر الاتحاد السوفياتي. أميركا اليوم تضرب خبط عشواء وتستعدي الصين وروسيا معاً. صحيح أن الصين لم تساند الإعلان الروسي لكنها لم تعارضه. هي تراقب مستخلصة الدرس حول مواجهة محتملة (أو حتميّة) حول تايوان. السلوك الأميركي سهّل التوقّع: تصنّع التفوّق الأخلاقي والنطق بلغة القانون الدولي وإطلاق كلام يسهل توجيهه لإدانة كل سلوك الولايات المتحدة منذ الحرب الباردة (أو منذ الحرب العالميّة الثانية). أميركا بعدوانيّتها تدفع بالصين وروسيا لرصّ الصفوف وتدفع بهما لاتخاذ مواقف أكثر تشدّداً في مواجهة الولايات المتحدة في مجلس الأمن. خسرت أميركا مجلس الأمن حتى إشعار آخر.
العقوبات الأميركيّة باتت سلاحاً مفضّلاً وهو سلاح قاتل. التبادلات التجاريّة خاضعة للسيطرة الأميركيّة بحكم هيمنة الدولار وهي سهلة المراقبة في العصر الإلكتروني. إرسال مبلغ بضع مئات دولارات يتطلّب ملء قسيمة طويلة في مكاتب «وسترن يونيون». قضت أميركا بعد 11 أيلول على حريّة التبادل… المالي الرأسمالي. لكن سلاح العقوبات له أجل محدّد. يمكن تشكيل جبهة عالميّة لإيجاد بدائل. الصين وروسيا تتحضّران لذلك (كتب عامر محسن هنا قبل أيّام عن استبدال نظام «سويفت»). وهل إن الحكومة الأميركيّة في عهد الرئيس الأقل شعبيّة قادرة على تحمّل أعباء مالية جديدة بسبب تدهور الاقتصاد ونحن على أعتاب أقلّ من سنة للانتخابات النصفيّة التي ستنهي على الأرجح السيطرة الديموقراطيّة على الكونغرس؟ والعقوبات رفعت سعر برميل النفط إلى مئة دولار وهذا سيفيد روسيا وسيضرّ أميركا التي تتقرّر فيها مصائر الحزب الحاكم أحياناً بناء على أسعار المحروقات في محطات البنزين.

الوضع الاقتصادي الأميركي ليس مريحاً، والرئيس الأميركي يبدو حائراً في ما عليه أن يفعله. هو يحثّ أوروبا على اتخاذ مواقف صلبة، لكنه لا يستطيع أن يجاريها في ترجمة هذا التصلّب

الحرب الباردة لم تتوقّف بالنسبة لأميركا لأن عنوانها لم يكن فقط صراعها ضد الاتحاد السوفياتي. هي كانت تحارب كل الحركات والأنظمة التي كانت تعارض المشيئة الأميركيّة. أميركا كانت تحارب عبد الناصر حتى عندما كان يمنع العمل الشيوعي في مصر لأن الأساس بالنسبة إليها هو منع حرّية الشعوب وحماية مصالح الغرب وإسرائيل. هذه الحرب الدعائية التي تخوضها أميركا تستعير من زمن الحرب الباردة. ودور الإعلام الغربي (الليبرالي في معظمه) لا يزال إعلاماً حكوميّاً دعائيّاً. إعلام الغرب حرّض للحرب لا بل إن إجماعاً ساده هذا الأسبوع تمحور حول خطيئة عهد أوباما لأنه لم يقصف سوريا كما يجب عندما وضع «خطاً أحمر». إعلام الغرب وإعلام الخليج بات يتوافق على ضرورة استخدام المزيد من القوّة في السياسة الخارجيّة الأميركيّة. يلومون أميركا لأنها وديعة ومسالمة بإفراط.
عالم العلاقات الدوليّة يتشكّل من جديد. نشبت الحرب أم لم تنشب الزمام يتملّص من يد أميركا. لن تصبح روسيا اتحاداً سوفياتياً ولن تعزف أميركا عن محاولة السيطرة على العالم لكن جرائم أميركا وأكاذيبها تلاحقها منذ نهاية الحرب الباردة. هي تدفع اليوم ثمن أكاذيبها لروسيا. أميركا وعدت روسيا بعد سقوط جدار برلين بأن الـ«ناتو» لن يتوسّع شرقاً. والصحافة الألمانيّة (كما كتب «ذا ديسيدنت») وجدت دلائل على صحّة خبر الوعد الأميركي الذي تنفيه الحكومة الأميركيّة والصحافة الغربيّة الموالية عن أن أميركا كانت قد وعدت روسيا في عام 1991 بأنها لن توسّع الـ«ناتو» نحو الشرق. وأميركا عريقة في الحنث بالوعود والتعهّدات والمعاهدات، منذ عهد الاتفاقيات التي كانت توقّعها مع قبائل السكّان الأصليّين. وليس نقض الاتفاقيّة الخاصّة بالسلاح النووي الإيراني إلا مثالاً على سلوك أميركا في العلاقات الدوليّة. أميركا توقّعت أن يكون يلتسين مثالاً للحاكم الروسي الدمية الذي يطيع الأوامر مقابل تمويل (لحكومته ولعصابته من الفاسدين). أميركا تعاملت مع العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كما المنتصرين في الحرب الثانية: أن العالم لها، لا تتقاسمه مع أحد، ومن يعترض هناك القوة المسلّحة بانتظاره مصحوبة بعقوبات قاتلة ــــ حرفياً قاتلة، لأن عقوبات أميركا تقتل الشعوب.
مجلس الأمن كان مطواعاً للمشيئة الأميركية، وشكّل مصدر ذرائع ومخرج تفسيرات للحروب والغزوات الأميركيّة. وكانت الحرب ضد الإرهاب بعد 11 أيلول الطريق السهل لأميركا كي تنشر قواتٍ حول العالم. الصين وروسيا راقبتا السلوك الأميركي وتعاونتا على تمرير المشاريع الأميركيّة والحروب لكن بعد غزو ليبيا باتت الدولتان تخشيان على مصالحهما. تقول الـ«إيكونومست» في تعليقها على الأحداث في أوكرانيا إن بوتين سيشكّل الدافع الأكبر للقومية الأوكرانيّة أكثر بكثير من لينين في احترامه لحق الشعوب في تقرير مصيرها في الإمبراطورية. لكن أميركا في سلوكها تغذّي ليس فقط القوميّة في الصين وروسيا بل أيضاً تلعب دوراً في حث الدولتيْن، ومعهما دول أخرى، على تشكيل جبهة عالميّة مناهضة للهيمنة الأميركيّة. أميركا كانت متحمّسة لتغذية الصراع في أوكرانيا أكثر من أوكرانيا وهي التي حثّت ألمانيا على توقيف أنبوب الغاز. أميركا استثمرت في تصليب موقف الحكومة الأوكرانيّة، وفرض شراء باهظ للسلاح الأميركي. أميركا لا تريد حلولاً سلميّة وهي نشرت قواتٍ لها في عدد من دول أوروبا الشرقيّة (أكثر من 14 ألف جندي) قبل أن تتحرّك القوّات الروسيّة في الإقليميْن المنفصليْن. أميركا صمّمت أن تبقى أوكرانيا، على حدود روسيا، دولة تابعة لها للضغط على روسيا ومحاصرتها من كل الجهات. وهي لا تفهم سبب القلق الروسي مع أنها نشرت صواريخ لها في سلوفانيا ورومانيا، وقريباً ستنشر في بولونيا.
الإمبراطوريّة الأميركيّة تعلم أنها لن تخلّد لكنها لن تسلّم بذلك سلميّاً. العمليّة ستستغرق سنوات وربما عقوداً لكنها ستحتاج إلى حروب وغزوات لتثبيت المواقع. لكن الإمبراطوريّة ليست في وضع يسمح لها باستعمال القوة المسلّحة بنفس سهولة الثلاثين سنة الماضية. حرب العراق وأفغانستان كانت فشلاً ذريعاً، والوضع الاقتصادي الأميركي ليس مريحاً، والرئيس الأميركي يبدو حائراً في ما عليه أن يفعله. هو يحثّ أوروبا على اتخاذ مواقف صلبة، لكنه لا يستطيع أن يجاريها في ترجمة هذا التصلّب. هذه أزمة بدأتها أميركا عندما دعمت انقلاباً في أوكرانيا في 2014، ثم دعمت موقف الحكم الدمية الجديد في إهمال اتفاقيّة «منسك» التي كانت تقضي باحترام وضع الإقليميْن الشرقيّيْن في أوكرانيا واللذيْن كانا يتعرّضان لقصف مستمر على مدى ثماني سنوات. التدخّل العسكري الروسي سيرسم خريطة جديدة من المواقع والتحالفات وأميركا ستزيد من أفعالها الاستفزازيّة ومن حروبها وعقوباتها ضد الشعوب. لكن الموقف العربي المتحمّس للتدخل الروسي لا مبرّرَ له، كما ذكّرَ إبراهيم الأمين، إلا من ناحية أن هناك مَن يتحدّى أميركا للمرّة الأولى في أوروبا بعد الحرب الباردة. صحيح أن بوتين صديق إسرائيل (كما أن الرئيس الأوكراني هو صهيوني صفيق) لكن تحدّي الإرادة الأميركية يشفي ـــــ وإن قليلاً ـــــ غليل من عاش ومات تحت وطأة القنابل والصواريخ الأميركيّة في بلادنا.

- النتيجة الأولية للحرب: انجلاء العجز الغربي

وليد شرارة

هل كان من الممكن أن تتدخّل روسيا عسكرياً ضدّ «الثورة البرتقالية» في أوكرانيا في 2004، والتي هدفت إلى تصفية بقايا نفوذها في هذا البلد، وضمّه إلى المعسكر الأطلسي؟ من الممكن طرح السؤال نفسه بالنسبة إلى الموقف الروسي من «ثورة الورود» التي وقعت في جورجيا قبل عام من أحداث أوكرانيا، في 2003، وسعت إلى تحقيق أهدافها عينها. روسيا كانت مدركة أن هذه «الثورات الملوّنة» كانت مندرجة ضمن استراتيجية الغرب لاحتوائها وتطويقها، لكن موازين القوى بينها وبين الغرب لم تكن تتيح لها التحرّك بسرعة وبقوّة للتصدّي لها. التدخّل العسكري الروسي في أوكرانيا مؤشّر حاسم إلى انقلاب هذه الموازين. يقول نيل فيرغسون، المؤرّخ البريطاني ــــ الأميركي المحافظ والمسكون بالحنين الماضوي إلى أمجاد الإمبراطوريّتين، البريطانية ومن ثمّ الأميركية، في مقال له على موقع «ذي سبيكتاتور»، بعنوان «فلاد الغازي: بوتين يسعى إلى إعادة بناء الإمبراطورية الروسية»، إن «الحرب، وفقاً للمنظّر العسكري البروسي كلاوزفيتز، هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى. أجيال من الديموقراطيين، الأميركيين والأوروبيين، يرغبون في نسيان هذه الحقيقة. ذعرهم من عنف الحروب دفعهم إلى البحث، بلا جدوى، عن بدائل تغنيهم عن خوضها. عندما أمر بوتين بضمّ القرم في 2014، كان ردّ أوباما عقوبات اقتصادية. وعندما تدخَّل الأوّل في الحرب الأهلية السورية، لجأ الثاني وغيره من القادة الغربيين إلى الخطابات المستهجَنة. وعندما أصبح واضحاً أن بوتين ينوي القيام بتوغّل عسكري جديد وواسع في أوكرانيا، اختار بايدن وفريقه الردّ بالعقوبات مرّة أخرى… والذين يخشون الحرب يقاربون الدبلوماسية بطريقة خاطئة، ويَفترضون أنها بديل من الحرب. إن لم تكن مستعدّاً للحرب، ولو كخيار أخير، فإن المفاوضات ستسمح بأفضل الأحوال بتأجيل عدوان الطرف المقابل».

عدم استعداد الغرب، وفي الواقع عجزه المتزايد، عن خوض حروب كبرى وتحمّل أكلافها، بعد التجارب الدامية في أفغانستان والعراق، ومعارضة القطاع الأعظم من شعوبه لها، وخاصةً إذا لم تكن مرتبطة بالدفاع عن بلاده ضدّ تهديد مباشر لها، هو من بين أبرز العوامل التي تفسّر القرار الذي اتّخذه الرئيس الروسي حيال أوكرانيا. نقطة أخرى ينبغي الالتفات إليها عند تناول القدرة العسكرية للولايات المتحدة، وهي أن الأخيرة، منذ صيرورتها قوة دولية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم تخض حروباً سوى ضدّ أطراف تتمتّع تجاههم بتفوّق نوعي ساحق، ككوريا الشمالية وفيتنام وكمبوديا وأفغانستان والعراق. وهي بالنتيجة، هُزمت في جميع هذه الحروب بعد سنين طويلة من الصراع. غير أنها لم تتورّط أبداً في نزاع مباشر مع قوّة لديها قدرات عسكرية متساوية، بدرجة أو بأخرى، لتلك التي تمتلكها. هي تُشهر في وجه روسيا، التي تَعتبر أنها في خضمّ معركة تذود فيها عن أمنها القومي، سلاح العقوبات الاقتصادية، وتراهن على وقوعها في شرك احتلال مديد لأوكرانيا يُحوّلها إلى أفغانستان جديدة. يتناسى أصحاب مثل هذه الرهانات، من مسؤولين وخبراء أميركيين، أن القيادتَين السياسية والعسكرية في روسيا لن تُكرّرا خطأ أفغانستان، على عكس الولايات المتحدة التي كرّرت خطأ فيتنام عندما غزت أفغانستان والعراق. وحتى مفكّر معادٍ لبوتين كفرغسون، في المقال المذكور سابقاً، يؤكد أن «بوتين لن يرتكب مجدّداً خطأ بريجنيف في أفغانستان أو بوش الابن في العراق. الرئيس الروسي، على الأغلب، سيشنّ عملية عسكرية سريعة ومدمّرة غايتها إلحاق أضرار بالغة بالقوات العسكرية الأوكرانية وببناها التحتية، يليها تغيير نظام، عبر استبدال فلودومير زيلنسكي برئيس من نوعية فكتور يانوكوفيتش، الذي أُطيح به منذ 8 سنوات».
ستكون لمآلات المواجهة الاستراتيجية الدائرة في أوكرانيا، وما يتبدّى خلالها من ضعف وعجز أميركي وغربي، تداعيات مهمة على تلك المرشّحة للاحتدام بين واشنطن وبكين. تعزيز موقع روسيا في مقابل الولايات المتحدة، المضطرّة إلى حشد المزيد من القوات في الدول الأعضاء في «الناتو» على المسرح الأوروبي، يحول دون تركيز الولايات المتحدة لقدراتها حصراً ضدّ الصين. أنجيلا ستينت، الخبيرة في شؤون روسيا في جامعة جورج تاون، رأت في مقابلة مع «نيويوركر»، أن «فلاديمير بوتين ما كان ليُقدِم على هذا العدوان، في هذا التوقيت، ما لم يكن أكيداً من الدعم الصيني. هو عرف أن الصين ستسانده مهما حصل. إدراك هذا الأمر أساسي لفهم ما يفعله الرئيس الروسي». الوقوف مع روسيا لإلحاق هزيمة سياسية جديدة بالولايات المتحدة، بعد خروجها المذلّ من أفغانستان، وإضعاف هيبتها ومكانتها على الصعيد العالمي، ضرورة استراتيجية بالنسبة إلى القيادة الصينية، لأنه سيقود إلى تراجع أكبر في هيمنتها. هو سيشجّع كذلك خصومها في الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وغيرها من بقاع الجنوب على تصلّب أشدّ في مواجهتها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2184542

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف الأعداد  متابعة نشاط الموقع العدد 7 السنة 11   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2184542 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40