الأحد 14 آذار (مارس) 2021

السيرة الذاتيّة لأمين الجميّل: عندما يصبح الارتهان للخارج «مقاومة» [8-10]

الأحد 14 آذار (مارس) 2021 par اسعد ابو خليل

لا يزال الحديثُ هنا عن سيرة أمين الجميّل الذاتيّة، والتي صدرت حديثاً بعنوان «الرئاسة المُقاوِمة: مذكّرات». قد تنتهي هذه السلسة النقديّة قبل انتهاء أجزاء مسلسل «الهيبة»، وقد تستمرّ بعد انتهاء «الهيبة». يصرّ الجميّل في كتابه، وبتكرار، على الجزم بأنّ شفيق الوزّان كان شريكاً في القرار الرئاسي في عهده. والوزان نفسه حسمَ الموضوع عندما نفى أن يكون شريكاً أو حتى أن يكون مطّلعاً على قرار الجميّل - على الأقل هذا ما قاله لي، كما أسلفتُ في الحلقة الأولى. لكنّ الوزّان لم يستقلْ من منصبه وتنعّمَ بالمنصب وتنعّم أيضاً بوسائل الإقناع التي كان الحكم يغدقها عليه. وينشر الجميّل ما يقول إنّه «محضر اجتماع» جَمَع الجميل وشفيق الوزان مع قائد الجيش. لكنّ المحضر المنشور (ص. 194) لا يتضمّن أيّ نقاش أو حديث، بل فرماناً من الجميّل بضرورة تدخّل الجيش في الجبل - في حرب ضدّ قسم من الشعب اللبناني. أي أنّ الرئيس «المقاوِم»، كان يقاوم شعبَه. لهذه الدرجة تمّ تبخيس كلمة مقاومة في لبنان، حتى أنّ ميليشيات إسرائيل باتت تحتكر المصطلح أكثر من الذين تعاقبوا على مرّ العقود على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. إنّ هذا «المحضر» عن الاجتماع المزعوم لا يبدو أكثر من محاولة مصطنعة، ومزيّفة، لربط قرار تدخّل الجيش بموافقة رئيس الحكومة.

ونشرَ الجميّل في متن الكتاب، صورة لنصّ رسالة أرسلها إليه رونالد ريغان، في أيلول / سبتمبر من عام 1983. تُدرك كم أنّ حكم الجميّل كان معلّقاً برابط صرّة مع الإدارة الأميركيّة. وبمجرّد أن زال الاحتلال العسكري الأميركي عن لبنان، سقط حكم الجميّل. هل يترك ذلك شكّاً بشأن طبيعة حكم النظام الكتائبي؟ وفي الرسالة يُطمئِن الرئيس الأميركي الجميّل أنّ القوّات الأميركيّة باقية في لبنان ــ كان ذلك قبل أقلّ من سنة من انسحابها جارّةً أذيال الخيبة (وليس هناك في لبنان إدراك بعد بشأن أبعاد طرد قوّات «حلف شمال الأطلسي» من لبنان). ريغان لم يُطلق وصف انسحاب على... انسحاب القوات الأميركيّة، بل وصفها في حينه بـ»إعادة انتشار»، أي أنّ القوّات الأميركيّة في لبنان ما زالت في حالة إعادة انتشار، لأنّ انسحابها الرسمي من لبنان لم يُعلن بعد، ربما بسبب ما يُسمّى بـ»حفظ ماء الوجه». إنّ إعادة انتشار القوات الأميركيّة من لبنان لم تكن إلّا اعترافاً شبه رسمي بفشل المهمّة العسكريّة الاحتلاليّة لأميركا وحلفائها. وترد في الرسالة إشادة وتعويل على الجيش اللبناني: ويكاد النصّ يكون نسخة طبق الأصل عن التصريحات الأميركيّة الحاليّة عن الجيش اللبناني بقيادة جوزيف عون (تمدّ الحكومة الأميركيّة قائد الجيش بكمّامات وصناديق غذاء لتوزيعها في لبنان، إذ إنّ أميركا تحاول أن تصنع زعامة جديدة في لبنان). والنص الذي نشره الجميّل يحمل تسطيراً على الجملة التي تقول: «أشعرُ بأعمق الإعجاب بشجاعتكم التي تواجهون بها التهديدات التي تستهدف حكومتكم». يبدو أنّ الجميّل من شدّة فرحه بالرسالة خطّ سطراً تحتها، ولهذا تظهر في الصورة في الكتاب. لنقُلْ إنّ التسطير هو تعبير عفوي عن فرحة الرئيس اللبناني بثناءٍ من راعيه الخارجي. ويقول ريغان في كلام نسمعه اليوم عن قائد الجيش الحالي (الذي يُعلن أسبوعيّاً عن كامل جهوزيّته - لكن تعريف الجهوزيّة عنده لا يعني صدّ عدوان إسرائيل أو تحرير الأرض، بل هو يعني مطاردة شوالات البطاطا على الحدود الشرقيّة): «نحن أعجبنا كثيراً بأداء رجال القوات اللبنانيّة المسلّحة الشجعان، والذين أظهروا بوضوح، في الأيّام الماضية، النواة لأداة فعّالة لتوسيع السلطة الحكوميّة والأمنيّة في سائر أرضكم المضطربة». أي أنّ هناك كلام كليشيهات تمنحه الحكومة الأميركيّة لأيّ حكومة أو ميليشيا تابعة لها في العالم - لا يختلف هذا الكلام عن ثناء الحكومة الأميركية للجيش العراقي المُرتهن لها. والذي صدّق شديد إعجاب الحكومة الأميركيّة بجيش إبراهيم طنّوس الفئوي الانعزالي، الذي انهزم في مواجهة ميليشيات لبنانيّة، يمكن له (أو لها) أن يصدِّق الإشادات الأميركيّة الحاليّة بالجيش اللبناني، على أنّه الحامي الوحيد للبنان. الجيش الذي يعجز عن منع الحكومة الإسرائيلية من خطف راعٍ، أو دجاجة حسين الشرتوني، لا يمكن له أن يكون حامياً للوطن بوجه عدوان إسرائيل. أي أنّ الحكومة الأميركيّة تريد من لبنان أن يكون ضعيفاً وعرضة لاستهداف إسرائيلي - كما في الماضي - لأنّ ذلك هو مطلب إسرائيلي، وإن كرّرته بعض الأبواق في لبنان.
ويظهر في الكتاب توكيد جديد على ما يعرفه كلّ الشعب اللبناني: الدرجة التي كان فيها عبد الحليم خدّام ضالعاً في الحرب الأهليّة ومسارها، وبأبشع صورة وبالنيابة عن حافظ الأسد. كان يكتب بخطّ يده مشاريع حلّ للأزمة اللبنانية، وكل حلوله كانت تؤدّي إلى مزيد من التعقيد وتفاقُم للأزمة. وانشقاق خدّام عن النظام السوري والتحاقه بالمحور الخليجي، بالإضافة إلى ابتياعه - حرفيّاً - من قبل رفيق الحريري، كلّ ذلك يجب أن يسلّط المزيد من الضوء على دور خدّام في الأزمة اللبنانيّة. لكنّ التحاق خدّام بصف النظام السعودي ضمَن له تغطية إيجابيّة في حياته ومماته من قبل فريق 14 آذار وإعلامه ومن قبل إعلام النفط والغاز. إنّ خدّام كان مسؤولاً - ومسؤوليّته هي مسؤوليّة النظام السوري - عن تعويم وخلق أسوأ نماذج للزعامات اللبنانيّة وعن قمع أصوات حرّة في لبنان (مثل قمع اليسار المتطرّف في سنوات سيطرة النظام السوري، خصوصاً في عامَي 1976 و1977). كيف يمكن أن يكون لخدّام هذا الدور الهائل في كلّ مسار الحرب الأهليّة، وليس هناك من كتاب واحد عنه وعن دوره في الصراع اللبناني بالعربية؟ الجواب أنّ سطوته كانت هائلة، إلى درجة أنّهم كانوا يخافون أن يكتبوا عن دوره، وكلّ ما كان يسمح به هو مقالات تستظهر ما كان يقوله - أو يمليه بالحرف - على الإعلاميّين: مثل مقالات سركيس نعّوم التي أطلقته في «النهار». وقد كتب الأكاديمي عضيد داويشا، عن «سوريا والأزمة اللبنانيّة» بعد حرب السنَتَيْن، وكانت الرواية مبنيّة على شهادة خدّام. وينشر الجميّل نصّاً بخط خدّام يقترح فيه «حلولاً» للأزمة اللبنانيّة. ومحاولة دعاة النظام السعودي إلى التنصّل من خدّام غير مقنعة، لأنّه كان منفِّذاً لإرادة حافظ الأسد، وهو مثلاً رعى احتضان مجرم الحرب، إيلي حبيقة، بالنيابة عن مشيئة الأسد. وقد عامل خدّام اللبنانيّين الذين كان يلتقي بهم بفظاظة وشراسة، وكان يشتم جورج حاوي وغيره من قادة الحركة الوطنيّة، وكانوا يرضخون له. وكان أثرياء لبنانيّون يحملون له الغالي والنفيس في طلب رضاه وطمَعاً بالمناصب في لبنان.

يقول الجميّل عن المدّ الأصولي الإيراني إنّه صاحب وصف «الإمبراطوريّة المُحجَّبة». ألم أقل لكم إنّ الجميّل يتوجّه بكتابه إلى الغرب - لا بل إلى اليمين الإسلاموفوبي في الغرب

ويظهر في الكتاب مدى التنسيق الذي كان جارياً بين النظام السعودي وبين النظام السوري في عام 1983، وقد أرسل الملك فهد رسالة خطّية (بخط الأمير بندر) يطلب فيها من الجميّل رسمياً قبول مشروعٍ سوري للحلّ (ص. 203). ويُمعن الجميّل في عناده وإصراره على أنّ أيّ معارضة لـ»الكتائب» وحكم «الكتائب» في لبنان من قبل لبنانيين، سواء أكانوا مسلمين أم دروزاً أم مسيحيّين أم يساراً، لا يمكن أن تكون نابعة من أسباب حقيقيّة خاصّة بلبنان. هو، مثل أبيه من قبله، يردّ الأمر إلى مؤامرة خارجيّة. فـ»المسلمون» (بحسب وصف الطائفي بيار الجميل) لم يكونوا يعارضون «الكتائب» لأسباب تتعلّق بهم أو لاختلافهم مع عقيدة «الكتائب»، بل لأنّ «منظّمة التحرير» كانت تحتجزهم رهائن. لكنّ الصراع اللبناني استعرَ وازداد وحشيّة بعد خروج «منظّمة التحرير». أي أنّ «منظمة التحرير» - وهذا معروف لمَن كان قريباً من المقاومة الفلسطينيّة - كانت دائماً تحاول التخفيف من الصراع الأهلي في لبنان وكان أبو صالح في «فتح»، مثلاً، يستغلّ سفر ياسر عرفات كي يستخدم مدفعية المقاومة الفلسطينيّة في مؤازرة الحركة الوطنيّة. وكان الراحل كلوفيس مقصود يروي لنا حكاية ذلك الاجتماع الذي حضره، بالإضافة إلى عرفات، كمال جنبلاط وقادة المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة، وتناول طلب جنبلاط للسلاح. وكان عرفات قد صادر باخرة سلاح أتت لمصلحة الحركة الوطنيّة. وكان يقتّر في دعمه العسكري للحركة الوطنيّة. وكان بيار الجميّل يتهم منظمة التحرير باحتجاز المسلمين رهينة، ثم يتهم المنظمة بتنفيذ مؤامرة سوفياتيّة ضد «العالم الحرّ»، الذي ضمّ في الحرب الباردة كلّ القوى الفاشية والنازية على طراز «الكتائب». ألم يكن للمسلمين (حتى لا نتحدّث عن المسيحيين والملاحدة) أسبابهم لرفض «الكتائب»؟ هل كان المسلمون بعد مجزرة «السبت الأسود» (هل كانت مجزرة قتل على الهويّة ضد مسلمين هي أيضاً من «مقاومة» «الكتائب» ضدّ مشروع التوطين؟) بحاجة إلى سبب أو إلى ضغط من منظمة التحرير كي يكنّوا عداءً فظيعاً ضد «الكتائب»؟ ألم تكن ممارسات حزب «الكتائب» وصفّه ضدّ الشعب اللبناني (حتى لا نتطرّق إلى الشعب الفلسطيني لأنّ الحزب يقول إنّه ارتكب المجازر ضدّه في سياق مقاومة التوطين) سبباً كافياً لمعارضة الحزب في الحكم وخارجه؟
لا، يقول الجميّل إنّ النظام السوري هو الذي كان يوعز إلى عناصر الجيش بالانشقاق. صحيح. إنّ النظام السوري ودولة الاحتلال كانا يريدان بناء أجنحة موالية لهما في داخل الجيش اللبناني، لكن كانت هناك حالة نقمة حقيقيّة (طائفيّة ووطنيّة) ضدّ الجيش اللبناني ودوره الطائفي والفئوي. إنّ انشقاقات «جيش لبنان العربي» واللواء السادس في 6 شباط / فبراير، كانت بدافع وطني داخلي محض، وليس مؤامرة خارجيّة (في المقابل، كان تشكيل «طلائع جيش لبنان العربي» في البقاع بإيعاز مباشر من النظام السوري كما أنّ العدوّ شكّل له فرعاً للجيش اللبناني في جنوب لبنان المحتلّ، وكانت قيادة الجيش الفئوي تنسّق بانتظام مع جيش سعد حدّاد وأنطوان لحد). يرفض الجميّل وصحبه في القوى الانعزاليّة الاعتراف بالواقع على حقيقته. هم يحتاجون إلى إيهام النفس بأنّ المُحرّك خارجي محض. وهذه لا تختلف عن مقولة إنّ اللبنانيّين الذين بذلوا العرق والدم للدفاع عن أرضهم في الجنوب إنما فعلوا ذلك بإيعاز من النظام الإيراني. ويضيف الجميّل في هذا المجال ثناءً على قائد الجيش (الفئوي الانعزالي)، إبراهيم طنّوس، والذي تحدّث أحمد الخطيب (في مذكراته غير المنشورة بعد) عن دوره في الحرب الأهليّة في صف القوى الانعزاليّة (كان ضبّاط الجيش الكبار في سنوات الحرب وما قبلها، إما يُحسبون على شمعون أو على بيار الجميّل أو في حالات أخرى على سليمان فرنجيّة). وفي الكتاب لا يعترف الجميّل بلبنانيّة خصومه. كلّ الميليشيات في المقلب الآخر من العاصمة كانت في وصفه «ميليشيات موالية لدمشق» (ص. 207). لكن ألم تصطدم هذه الميليشيات الموالية لدمشق بـ... دمشق في عام 1976، عندما استنجدتم بها خانعين، وتدخّلت آنذاك عسكريّاً لإنقاذكم من هزيمة مُذلّة كان يمكن أن توفّر علينا سنوات إضافيّة من الحرب (هذا من دون المبالغة في تقدميّة النظام الذي كان سيُقام - يكفي أنّ عرفات وكمال جنبلاط كانا في القيادة). ثم، ألم تكونوا أنتم موالين لواشنطن وتل أبيب (وحتى دمشق في مرحلة الحرب الأولى؟) ويحاول الجميّل أن يصوّر نبيه برّي على أنّه كان متعاطفاً معه، أو أنه كان - كالعادة في التحليل الكتائبي - مُكرَهاً في مواقفه بسبب «الأيادي الخارجيّة»، وهي إيران في هذه الحالة. لكنّ برّي كان قائد المعارضة ضدّ حكم الجميّل ولم يكن ذلك إلا تعبيراً عن حالة نقمة شعبيّة عارمة، خصوصاً بعد فترة القمع والقصف الوحشي التي عانت منها الضاحية، وبعد توقيع اتفاقيّة 17 أيّار. يستطيع الجميّل أن يقرأ شهادة برّي ضدّه في كتاب نبيل هيثم، «أسكن هذا الكتاب».
كلام الجميّل عن أهل الضاحية كلام عنصري يتوافق مع العقيدة اليمينية العنصريّة للجميّل. يحتجّ زعيم الحزب الذي سطا على كل مقدّرات الدولة بالقوّة المسلّحة وبدعم من جيش عدوّ، ويعترض لأنّ هناك من بنى كوخاً له في الضاحية من دون «رخصة بناء» (ص. 207). هل حصل حزب «الكتائب» على رخصة عندما استولى على كلّ مستودعات الجيش اللبناني، وهل حصل على رخصة عندما شيّد بشير الجميّل مبنى خاصّاً لاستضافة محطة الـ»موساد» في بيروت الشرقيّة (وقد روى ذلك مستشار بشير الجميل، جورج فريحة في كتابه «مع بشير»). ويقول إنّه من الطبيعي أن تثير «هذه البيئة اهتمام الثوريّين والمتطرّفين والهامشيّين» (لاحظوا أنّ وصف البيئة في لبنان محصور دائماً بالشيعة، فيُقال بيئة حزب الله وبيئة الضاحية ولا يُقال مثلاً بيئة «الكتائب» أو بيئة «المستقبل» ويعود سبب ذلك إلى نظرة الاحتقار الطبَقي الدوني التي عانى منها شيعة لبنان في تاريخهم المعاصر، خصوصاً في «الزمن الجميل»). لكن ماذا يعني الجميّل بالهامشيّين؟ هل هذا وصف «كودي» للفقراء والمعذّبين؟ لكنّ الجميّل يزهو بأنّه أولى الضاحية في عهده عناية خاصّة. ما دليله؟ دليله أنّه قام ذات ليلة بزيارة عدد من مستشاريه وكان الاستقبال حاراً. نتعجّب كيف أنّ أهل الضاحية قادوا الانتفاضة ضدّ حكم الجميّل الذي زارهم ذات ليلة ليلاء. ألَم تكفِ الزيارة لتهدئة خواطرهم؟ ماذا يريدون أكثر من ذلك؟ زيارة نهاريّة للجميّل؟
ويعترف الجميّل بأنّ حالة خوف اعترت الضاحية، آنذاك، لكنّه ينسبها إلى «تجاوزات إثر مجازر صبرا وشاتيلا» (ص. 208). لكنه لا يُقرّ بأنّ الذي ارتكب التجاوزات في بيروت الغربيّة ومحيطها لم يكن إلّا الجيش الفئوي والميليشيات الانعزاليّة المتحالفة معها. لكن الجميّل انشغل يومها: إذ أنّه يقول للقارئ الغربي (الوهمي) إنّه وجد نفسه «بسرعة كبيرة في مواجهة المدّ الأصولي الإيراني». ها قد أقنع الجميّل نفسه (وأقنع الرجل الأبيض) بأنّ الثورة ضدّ نظامه في الجبل وبيروت والضاحية والشمال، لم تكن إلّا بسبب المدّ الأصولي الإيراني الذي جنّد دروزاً وشيعة وسنّة ومسيحيّين لتنفيذ مآربه.
ويقول الجميّل عن المدّ الأصولي الإيراني إنّه صاحب وصف «الإمبراطوريّة المُحجَّبة». ألم أقل لكم إنّ الجميّل يتوجّه بكتابه إلى الغرب - لا بل إلى اليمين الإسلاموفوبي في الغرب؟ يعترف الجميّل بهوسه العدائي بالحجاب هنا، ويحشره في حديثه عن انتفاضة شعبيّة ضدّ حكمه الظالم. وبالفعل، فقد عبّر عن هذه الأفكار الإسلاموفوبيّة من قبل في كتاب له بالفرنسيّة، بعنوان «الرهان الكبير». ويقول إنّ الإيرانيّين فرضوا سلطانهم على منطقة الضاحية الجنوبيّة والبقاع، تماماً كما كان أبوه يقول إنّ «منظّمة التحرير» فرضت سلطانها على كلّ المنطقة الغربيّة والمناطق ذات الأكثريّة الإسلاميّة. لا يقبل أمثال هؤلاء أن يكون للمختلف عنهم في الطائفة والعقيدة عقل مستقل وإرادة ذاتيّة. هؤلاء دائماً مسيّرون من دون وعي ذاتي، ولهذا فإنّ حزب «الكتائب» يزعم بأنّ حتى الذين يناصبونهم العداء هم في الواقع حلفاء لهم في سرّهم. أي أنّ اللبناني الذي عانى التعذيب والقتل على يد «الكتائب» هو في سرّه متعاطف مع «الكتائب» لولا سطوة «اليد الخارجيّة» (واليد الخارجيّة تتغيّر هويّتها، ينسى البعض كم صرّح بيار الجميّل، الجد، ضدّ «اليسار الدولي». كانت تصريحاته اليوميّة في أول سنة الحرب - وقبلها - تركّز على خطر «اليسار الدولي». وكان ذلك قبل اختراع مقولة إنّ الحزب لم يحارب ويرتكب المجازر إلّا لمنع التوطين). وينقل الجميّل عن كتابه الصادر في عام 1989 ما تحدّث به للغرب عن «إساءة» الحرس الثوري «للتقاليد اللبنانيّة» (ص. 168). لكن ما هي التقاليد اللبنانيّة التي يتحدّث عنها الجميّل؟ التبّولة والكبّة، أم هي المجازر الطائفيّة، أم العتابا والميجانا (طبعاً، معظم ما نظنّ أنّه تقاليد لبنانيّة هو ليس لبنانيّاً صرفاً بل هو مشتركٌ بين شعوب المشرق العربي). ويزعم الجميّل، على طريقة اليمين الغربي الإسلاموفوبي، بأنّ ارتداء التشادور هو مفروض بالقوة. أي أنّه ليس للمرأة المسلمة حرّية ارتداء الملبس (وفرض لباس على المرأة نادر في الدول الإسلاميّة باستثناء إيران والسعوديّة - والأخيرة حليفة الجميّل ودول الغرب). وحزنَ الجميّل على نسيان ربطة العنق عند الرجال، لأنّ ربطة العنق وربطة الفراشة (البابيّون) هما من صلب التقاليد اللبنانيّة التي يتحدّث عنها الجميّل هنا.
وأسف الجميّل لمنع الكحول «كليّاً». وأضاف أنّ «القادم الإيراني» أثّر في طرق التدريس وحتى في أسلوب الوعظ. والجميّل ضليع في شؤون الوعظ الديني الشيعي وهو، من خلال تجواله بين الحوزات، لاحظ فارقاً بعد قدوم «الإيراني». لكنّ الجميّل بعدما استفاض في الحديث عن الإكراه والقسر والفرض يعترف بأنّ الأهالي تضامنوا في ثورتهم ضدّه مع أعدائه «طوعاً أو كرها». لكن كيف حدث الإكراه؟ الحرس الثوري الإيراني لم يكن موجوداً في بيروت الغربية والضاحية أو الجبل حيث انطلقت الثورة ضدّ حكم الجميّل الظالم. ومصطلحات الجميّل تترك القارئ (الغربي، طبعاً) بانطباع أن أعداء الجميّل هم جيوش معادية (يقول عنهم إنّهم «القوتان المعاديتان») فيما هم أهالي البلد الذي نُصِّبَ على رئاسته - بقوّة غزو أجنبي. ويضيف الجميّل أنّ قوى فلسطينيّة كانت تحاول «استعادة» مخيمَي صبرا وشاتيلا، أي أنّه يعترف بأنّ قوّاته الطائفيّة كانت تحتلّ المخيّمات، وبأمر مباشر من العدوّ الإسرائيلي.

لا يزال الحديثُ هنا عن سيرة أمين الجميّل الذاتيّة والتي صدرت حديثاً بعنوان «الرئاسة المُقاوِمة: مذكّرات». ويتحدّث الجميّل عن حرب الجبل كأنها كانت مؤامرة خارجيّة ضدّه، وليست مؤامرة من رفاقه في السلاح في القوّات اللبنانيّة ضد أهل الجبل أنفسهم (إن مسؤوليّة «القوات» عن حرب الجبل لا يمكن إنكارها، لكنّ ذلك لا يسوّغ أبداً الجرائم الطائفيّة التي ارتكبتها ميليشيا جنبلاط ضد أبرياء مسيحيّين في الجبل). ويعترض الجميّل على وصل الجبل بالضاحية كأن على خصومه التمنّع عن الاتحاد ضد خصمهم المشترك. والجيش، يا أمين، لم ينشقّ بسبب مؤامرة جهنميّة خارجيّة بل بسبب احتجاج أعضاء في المؤسّسة العسكريّة ضد القيادة الطائفيّة الفئويّة الانعزاليّة. تريد من أفراد الجيش ألا يعترضوا على قراراتك في إقحام الجيش في معاركك ضد معارضين لحكمك الحزبي؟ ويعترض الجميّل على تلقّي خصومه مساعدات من الخارج (أي النظام السوري أو المنظمات الفلسطينيّة التي عانت من جرائم الكتائب ومن حكمها). لكن: ألم يعتمد حكم الكتائب، حتى قبل وصوله إلى السلطة، على الدعم الإسرائيلي والخليجي والغربي الخارجي؟ أم أن جهة واحدة في الحرب الأهليّة يحقّ لها الاستعانة بالخارج؟ هذه لا تختلف عن الواقع اللبناني الحالي: المتحالفون مع التحالف الخليجي-الغربي-الإسرائيلي هم الذين يطالبون بالحياد وبوقف التدخّل الخارجي. لا، باتت المطالبة بالتدخل الخارجي أظرف على لسان البطريرك الماروني: هناك اليوم مناشدة لتدخّل خارجي (حتماً يعنون تدخلاً خليجيّاً وغربيّاً) وذلك من أجل تحقيق الحياد والسيادة في لبنان (أطلق موقع «ميغافون» الثاو ثاوي على حملة البطريرك ضد حزب الله وصف «السياديّة»، أي إن طرفاً لبنانياً (ذا غالبيّة طائفيّة) يلخّص السيادة، فيما الطرف الآخر (ذو الغالبيّة الطائفيّة المختلفة) يتناقض مع السيادة، فلا يبقى من حلّ إلا طرد طائفة من اللبنانيين كي تتحقّق السيادة بمقياس «ميغافون» والبطريرك.

ويستشهد الجميّل كعادته بمدوّناته الخاصّة (المكتوبة بفرنسيّة مترجمة إلى العربيّة وهي تحمل لغة إنشائيّة تلاميذ المدرسة الابتدائيّة). ويتفهّم الجميل معاناة رونالد ريغان في عام ١٩٨٤، إذ إنه كان عرضة لضغوطات من الحزب الديمقراطي، حسب قوله (ص. ٢٠٩). ينسى أن ريغان هذا كان من أكثر الرؤساء شعبيّة في تاريخ أميركا الحديث، وأن انصرافه عن الشأن اللبناني في ولايته الثانية كان بسبب فقدان أمل إدارته بقدرة الجميّل على الإمساك بالوضع الداخلي، بالإضافة إلى استخلاص درس من مقاومة قسم من اللبنانيّين، وبشراسة، لتواجد القوّات العسكريّة الأميركيّة على أرض تدور فيها حرب أهليّة. أقنع الجميّل نفسه أن ريغان كان يريد عونه ومساندته وإرسال المزيد من قوات الأطلسي إليه، لكنّ الديمقراطيّين «ما خلّوه». الفكرة تداعب غرور الجميّل. ويقول عن استقالة الوزراء المسلمين من حكومته في عام ١٩٨٤ إن استقالتهم كانت تحت ضغط سوري. حسناً، لماذا لم يستقيلوا من قبل، وكان هناك ضغط سوري؟ بعضنا يذكر تلك المرحلة ويذكر جيدّاً أن الضغط على الوزراء لم يأتِ من دمشق بقدر ما أتى من الجمهور اللبناني العادي في مناطق بيروت الغربية والجنوب والشمال والبقاع. جمهوريّة أمين الجميّل ضاقت باستمرار ولم تمتدّ حتى خارج نطاق المتن الشمالي في المناطق الشرقيّة. ونفور الجمهور المعارض (المسلم وغير المسلم) من عهد الجميّل وفساده وخياراته هو الذي منع عدداً من الوزراء من الاستمرار في مناصبهم. طبعاً، تلاقى ذلك مع مصلحة النظام السوري الذي أعطى فرصة لحكم الجميّل واحتفظ معه بعلاقة حتى أثناء المفاوضات بينه وبين العدوّ الإسرائيلي.
ويستشهد الرئيس «المقاوِم» بمدونات يوميّاته، أيضاً وأيضاً، وفيها يرد: «أرسل لي الإسرائيليّون عبر ضبّاط الارتباط رسالة يشجّعونني فيها على عدم الاستسلام» (ص. ٢٠٩). هكذا ترد هذه الجملة من دون تعليق أو استفاضة من أمين. لكن يا أمين: إذا كنتَ رئيساً مقاوماً فلماذا يتشبّث بك العدوّ إلى هذه الدرجة؟ ومَن هم ضباط الارتباط هؤلاء الذين كانوا صلة الوصل بينك وبين العدوّ؟ ومتى انتهى دور ضباط الارتباط هؤلاء؟ وفي تلك اللحظة يستغيث صائب سلام بالجميّل—حسب زعم الجميّل، طبعاً—ويطالبه بـ»السيطرة» على بيروت. وصائب سلام هذا: لم يمرّ خيار إسرائيل على لبنان لم يسرْ فيه، من إعلان تأييده الوحيد لزيارة أنور السادات للقدس المحتلّة في عام ١٩٧٧ إلى مواكبة ومباركة مفاوضات ١٧ أيّار. ويجب احتساب دور سلام هذا من ضمن دور النظام السعودي (وكان سلام مندوباً لنفوذ وزير الدفاع السعودي، سلطان عبد العزيز، على مرّ سنوات طويلة). ويحاول الجميّل أن يوحي أن التأييد «السنّي» له كان يتجاوز صائب سلام فيقحم اسم المفتي وسليم الحص. المفتي حسن خالد كان من أوائل الذين رفعوا الصوت ضد ممارسات وظلم حكم الجميّل فيما كان الشيعيّان محمد مهدي شمس الدين وعبد الأمير قبلان يمدّان الحكم الظالم المتعاون مع إسرائيل بشرعيّة لم يكونا يملكانها. لا بل إن الاثنيْن عارضا المقاومة العسكريّة ضد الاحتلال الإسرائيلي. هذا تاريخ لا يمكن إنكاره، وهو يفيد لمنع ترسّخ فكرة إلصاق الوطنيّة بطائفة وحرمان أخرى منها. وغريب أنه غاب عن ذهن الجميّل أن مخابرات الجيش في عهده كانت وراء اغتيال معارضين للحكم، بمن فيهم سليم الحص وأمين الجميّل ووليد جنبلاط (لا يزال سيمون قسّيس، مدير المخابرات في عهده، حيّاً يُرزق، وهو لم يُحاسب بعد على الجرائم الكثيرة التي ارتكبتها مخابرات الجيش). لكن لم يثلج قلب الجميّل إلا أن مسؤولي الإدارة الأميركيّة كانوا «مرعوبين» من فكرة استقالته. أي هو يعترف أنه لم يتمسّك باستمراره في الحكم إلا حكومة العدوّ والإدارة الأميركيّة وصائب سلام. هذا ما اعتبره الجميّل إجماعاً لبنانيّاً حول قيادته. ويبدو أن الجميّل لا يزال يكنّ ضغينة كبيرة ضد وليد سكريّة لأنه تمرّد ضده وضدّ قيادة الجيش الانعزاليّة وانضمّ إلى صفوف الذين انتفضوا ضد حكم الجميّل (ص. ٢١٠). وبالرغم من مساندة مدفعيّة المدمّرات الأميركيّة لحكم الجميّل وقذف الحمم ضد قرى وأماكن سكنيّة في الضاحية والجبل، فإن القصف لم يكن قويّاً بما فيه الكفاية (بنظر الرئيس «المقاوِم») وينقل عن قائد بحري أميركي قوله إن القصف أحدث غباراً «أكثر مما ألحق أضراراً بالعدوّ» (العدو هنا هو منازل الآمنين في الضاحية والجبل). هذه تصلح لتحليل أدوات الاستعمار في بلادنا: من نَسَق أمين الجميّل إلى نَسَق وليد جنبلاط في عهد بوش إلى نَسَق أنور السادات. كل هؤلاء لا يقتنعون بحدود قدرة راعيهم الغربي على حمايتهم من شعبهم: لم تستطع أميركا حماية السادات وهي التي كانت تولّت تدريب فريق حماية السادات. كما أن الأدوات المحليّة الصغيرة تبالغ في رغبة الاستعمار الغربي في الذهاب بعيداً للحفاظ على الأدوات المحليّة المُطيعة، أو لتولية مصالح الأدوات على مُشغّليهم الغربيّين. لا، ويعتب الجميّل على القوات الغربيّة لأنها لم تحرّك ساكناً فيما كان حكمه ينهار. وعتب الجميّل على المدفعيّة الأميركيّة لأنها لم تقصف بالعنف الكافي، تماماً مثلما كان جوني عبده ينتقد (في محادثاته مع ضباط جيش العدوّ في صيف ١٩٨٢) ضعف القصف الإسرائيلي على بيروت الغربيّة. ولم يتفهّم موقف الجميّل إلا مبعوث رونالد ريغان، دونالد رمسفلد، الذي كان من أنصار دعم الجميّل ضد كل معارضيه، وقد أشاد رمسفلد في مذكّراته بشجاعة الجميّل لأنه بقي في القصر الجمهوري. لكن نقل الجميّل عن مذكرات رمسفلد (صدرت بعنوان «المعلوم والمجهول») غير دقيق على الإطلاق. الجميّل كان يريد من أميركا أن تقصف وتدمّر في لبنان أكثر مما قصفت ودمّرت لإنقاذ حكمه المتهاوي فيما يعترف رمسفيلد أن المهمة كانت مستحيلة ومذكّراته لوزير الخارجيّة أفصحت عن ذلك. لكنّ الجميّل (في كتابه الموجّه إلى الرجل الأبيض في الغرب، والتي لن يقرأ كتابه) دائماً يُشهِّد الرجل الأبيض في الغرب على ما يقوله ويزعمه.

الرجل الذي شارك شخصيّاً في ارتكاب مجازر في المخيّمات بات يتصنّع التعاطف مع الشعب الفلسطيني

ويذكر الجميّل مسؤول محطة المخابرات الأميركيّة في بيروت، ويليام باكلي (يعرّفه بصفته الملحق السياسي في السفارة الأميركيّة ويكتب اسمه «بيل أوكلي»، وهو اسم دبلوماسي أميركي. لكنّ الأخطاء البارزة من هذا النوع تتكرّر في الكتاب، وهي دليل أن الجميّل كان واثقاً من ذاكرته ولم يعرض الكتاب على محرّر للتدقيق في معلوماته. لا، هو أكبر من ذلك). وتعرّض باكلي (لا أوكلي) للخطف والقتل في بيروت. ويقول عنه: «كان بيل رجلاً لطيفاً وفعّالاً عرفته جيداً، وشارك في تنظيم أمني الشخصي» (ص. ٢١٢). يا أمين: الملحق السياسي في السفارة الأميركية في بيروت ينظّم أمنك الشخصي؟ كيف ذلك؟ بالسياسة؟ ويتأسّف الجميل كيف أن خطف باكلي أدّى إلى التعجيل في الانسحاب الأميركي من لبنان.
ونعلم من الكتاب أنه كان هناك خيار أكثر إسرائيليّةً من الخيار الذي انتهجه الجميّل في حكمه قبل الانتفاض عليه في شباط ١٩٨٤. فقد فاتحه جوزيف أبو خليل وفادي أفرام في اقتراح إٍسرائيلي بتطبيق اتفاقيّة ١٧ أيّار من جانب واحد، على أن يستعين الجميّل، وبطلب رسمي «من الحكومة اللبنانيّة» (ص. ٢١٧) (كأن الجميّل يمثّل حكومة لا طرفاً ضالعاً في الحرب الأهليّة الجارية) بطيران العدوّ الإسرائيلي ضد خصومه. ولا يتورّع الجميّل من تسمية هذا الخيار باسم «الخيار الإسرائيلي»—أي إن الرئيس المقاوِم كان يفكّر في انتهاج «الخيار الإسرائيلي» لكن الغضبة الشعبيّة ضد حكمه بالإضافة إلى تنامي المقاومة ضد العدو الإسرائيلي فشّلا هذا الخيار على الأرجح مع أن الجميّل لا يوضّح أسباب إقلاعه عن تبنّي هذا الخيار. (وجوزيف أبو خليل الذي روّج للخيار كان يجول على الشاشات اللبنانية على مدى السنوات ليحاضر في موضوع سيادة لبنان). ويشير الجميّل إلى سلاح «الوشاية» الذي استخدمته إسرائيل ضدّه، ولعلّ هذا تعبير عن مرارته من تسريب إسرائيل لأخبار اجتماعاته مع قادتها وحتى لاتفاقات سريّة عقدها معهم، مثل «وثيقة شارون» في كانون الأول من عام ١٩٨٢، والتي كانت اتفاقاً سريّاً بين مستشار الجميّل الأقرب، سامي مارون، وأرييل شارون. لم يعد الجميّل يثق بقدرة الإسرائيليّين على حفظ أسراره معهم.
لكن لم يكن للجميّل خيار إسرائيلي واحد، إذ إن العدوّ، بعد انسحاب القوات الأميركيّة من لبنان، ظهرَ متمسّكاً بالجميل وباتفقايّة ١٧ أيّار. إذ إن الجميل تلقّى من ديفيد كيمحي اقتراحات مكتوبة بخط اليد لتحسين وضعه (لماذا ينشر الجميّل رسائل أبو أياد وعرفات إليه ولا ينشر الرسائل والاقتراحات الإسرائيليّة إليه؟ كيف نثق برواياته وهو لا يزال يتكتّم عن طبيعة العلاقة مع إسرائيل، مثله مثل كل الانعزاليّين الذين تعاملوا مع العدوّ، بمن فيهم التائبون مثل أسعد الشفتري الذي لا يزال، للساعة، متكتماً عن كل تفاصيل علاقاته مع الإسرائيليّين. حتى إيلي حبيقة لم يكن بعد انضمامه إلى خط النظام السوري (الذي—مع رفيق الحريري—رعاه واحتضنه) يتكلّم عن تاريخ علاقته مع الإسرائيليّين وهو الذي كان صنيعة مخابراتهم. وكان مشروع كيمحي يهدف لإنقاذ حكم الجميّل المتهاوي وتأمين «السيادة اللبنانيّة» عبر انسحاب كل القوّات الأجنبيّة من لبنان إلا تلك «المدعوّة من الحكومة اللبنانيّة إلى البقاء» (أي إن إسرائيل كانت مستعدّة لأن تتدخّل لطرد الجيش السوري من لبنان مقابل دعوة «رسميّة» من حكم الجميّل للتدخّل والانتشار الإسرائيلي في كل لبنان). وبهذا أرادت إسرائيل تطبيق اتفاقيّة ١٧ أيّار بالقوّة. لكنّ مشروح كيمحي كان يحمل ذلك المضمون الطائفي الذي كان في صلب المشروع الانعزالي اللبناني. السرديّة الانعزاليّة الحالية لا تعترف إلا بمحاربة «الفلسطيني» لمنع التوطين، لكنّها لا تتحدّث عن مجازر طائفيّة ضد لبنانيّين وعن عمليّات تطهير طائفي في مناطق بيروت الشرقيّة. فالمشروع الانعزالي كان في الشق الداخلي منه يهدف إلى منع أي تغيير في بنية النظام اللبناني للحفاظ على نظام الهيمنة الطائفيّة الذي ساد قبل سنوات الحرب (وساد بعدها مع تغيير في طائفية السيطرة). ويرد في مشروع كيمحي (كي يدرك الشعب اللبناني أغراض التدخّل العسكري الإسرائيلي في لبنان وأهداف المشروع الانعزالي آنذاك—والذي تعرّض للطمس تحت وابل من الأكاذيب والأباطيل) بالحرف: «بهدف الحفاظ على الهيمنة المسيحيّة، سوف تُتخذ إجراءات قانونيّة لتحويل البنية السياسيّة والإداريّة في لبنان إلى نظام كانتونات، مكوّن من كانتون مركزي ذي أكثريّة مسيحيّة يضم العاصمة ومقرّ الحكومة، وكانتونات أخرى تبعاً لتركيبة السكان» (ص. ٢١٧).
إن هذا المشروع هو الجانب الخَفيّ من الحرب. القوى الانعزاليّة كانت تهدف برعاية إسرائيليّة إلى تقسيم لبنان إلى كانتونات، وكانت عمليات التهجير الطائفي من ضمن هذا المشروع الخطير. لكن صعود الليكود في إسرائيل في عام ١٩٧٧، وتبوّؤ أرييل شارون منصب وزير الدفاع في عام ١٩٨١، زادا من شهيّة بشير الجميّل، وبدعم إسرائيلي مباشر، للسيطرة على كل لبنان وليس فقط على كانتونيْن منه (واحد في المنطقة الشرقيّة من بيروت وآخر في الشريط الحدودي). ويتضمّن المشروع الإسرائيلي توسيع مهمة الـ»يونيفيل» حتى البقاع. وهنا نتأكد أن الـ»يونيفيل» لم تكن منذ إنشائها إلا ميليشيا مساندة للعدوّ الإسرائيلي، تمدّه بالمعلومات وتغطّي على خروقاته اليوميّة. هذه النيات الانعزالية-الإسرائيليّة لا تزال غير معلومة من الشعب اللبناني. أي إن ديفيد كيمحي (المدير العام لوزارة الخارجيّة والمسؤول الثاني في الـ»موساد» في السابق، ورئيس وفد العدوّ إلى مفاوضات ١٧ أيّار—كم أن تعيينه كان إذلالاً مقصوداً للبنان، لكن لبنان الذي يتفاوض مع العدوّ على اتفاقيّة سلام يستحق كل الإذلال) أنعشَ المشروع الانعزالي-الإسرائيلي من عام ١٩٧٥. وفي هذا الوقت بالذات، تلقّى الجميّل عرضاً لـ»خيار سوري» مقابل، وقدّمه إليه رفيق الحريري وهو يقضي بفتح المفاوضات بين حكمه المنهار وبين النظام السوري مقابل إلغاء ١٧ أيّار. وعندما يزهو الجميّل في السنوات الأخيرة بإلغائه لاتفاقيّة ١٧ أيّار فإنه يخفي أنه كان مكرَهاً لا «مقاوِماً». هو درس بين الخيار الإسرائيلي وبين الخيار السوري ووجد أن الخيار الإسرائيلي لم يعد قابلاً للحياة لأن موازين القوى في المنطقة الغربية من بيروت والضاحية والبقاع والشمال اختلّت ضدّه، وضد مصلحة الاحتلال الإسرائيلي. كان الجميّل يفضّل الخيار الأميركي الذي يؤمّن التغطية الأميركيّة-الإسرائيلية لحكمه لكن أميركا نفضت يدها عن لبنان وتركت الجميّل وحيداً في قصر بعبدا. ويبدو أن النظام السعودي هدّدَ الجميل عبر تحذيره من تغييرات ميدانيّة إذا لم يسرْ بالخيار السوري. ورفيق الحريري كان عرّاب التدخل السوري هذا—رفيق الحريري الذي جعلوه رمزاً لمعارضة وجود النظام السوري في لبنان، لكن بعد وفاته.
وبكثير من الحزن وبقلب ملؤه الأسى، يذكر الجميّل «حرب المخيّمات». أي إن الرجل الذي شارك شخصيّاً في ارتكاب مجازر في المخيّمات الفلسطينيّة بات يتصنّع التعاطف مع الشعب الفلسطيني. هذه تماماً مثلما تصنّع العدوّ الإسرائيلي تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني عندما يكون ضحيّة لقتل من عرب من أعدائه. وحرب النظام السوري ضد المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان لا يجب أن تبقى مجهولة وغير خاضعة للسرد والتأريخ. هذا فصل دامٍ من التاريخ المأساوي للشعب الفلسطيني في لبنان. وقد شاركت ميليشيات حليفة لدمشق، مثل حركة «أمل» في تلك المعارك الدمويّة (ومجازر في بعض الحالات) ضد المخيّمات الفلسطينيّة. وقد استفاد النظام السوري من حالة من التعبئة العنصريّة البغيضة ضد الشعب الفلسطيني عند الكثير من شيعة جنوب لبنان (وساءلتُ في ذلك أكثر من مرّة داوود داوود، مسؤول حركة «أمل» في صور، والذي كان تجسيداً للعداء الجنوبي الشيعي في حينه ضد الشعب الفلسطيني. وقد شاركَ داوود داوود في تظاهرة في صور في عام ١٩٨٥ هتفت «لا إله إلا الله والفلسطيني عدوّ الله»—ليس هناك من كتابة عن حرب المخيّمات، ربما باستثناء ذلك الكتيّب بالإنكليزيّة الذي ساهمتُ فيه، وحرّرته إيلين هاغوبيان بعنوان «أمل والفلسطينيّون: فهم حرب المخيّمات»، ونُشر في عام ١٩٨٥).

لا يزال الحديثُ هنا عن سيرة أمين الجميّل الذاتيّة والتي صدرت حديثاً بعنوان «الرئاسة المُقاوِمة: مذكّرات». ويعترض الجميّل على عبد الحليم خدّام لأنه لم ينجح في «إعادة المعارضة إلى بيت الطاعة» (ص. ٢٢٩). لم يتغيّر أمين الجميّل رغم كلّ هذه السنوات. لا تزال أحقاده كما كانت في سنوات الرئاسة: يرفض «العنيد» أن يعترف بأنّ المعارضة اللبنانيّة العارمة ضدّ حكمه لم تكن مجرّد أداة بيد النظام السوري. هذه كانت معارضة حقيقيّة وشعبيّة وعريضة: تراوحت بين «أمل» والتقدمي في الجهة الطائفيّة إلى أحزاب يساريّة وقوميّة متنوّعة وزعامات تقليديّة إسلاميّة ومسيحيّة. ألم يقتنع الجميّل بعد أن المعارضة كانت لها أسباب وجيهة تتعلّق أولاً برفض اتفاقيّة ١٧ أيّار الشنيعة، كما أنها شكّلت تمرّداً ضدّ فرض حكم بوليسي في كلّ المناطق التي كانت خاضعة لحكمه ولحكم جيشه الفئوي الانعزالي ـــ والذي كان منذ أولى المعارك في ١٩٧٥ طرفاً في الحرب الأهليّة يخوضها من دون تقيّة. وسيرة ميشال عون في الحرب الأهليّة (قبل أن يصبح قائد جيش في عهد الجميّل) هي مثال: سخّرَ عون، الذي عمل بجانب بشير الجميّل، خبرته العسكريّة في المدفعيّة لدكّ المخيّمات والمناطق الخاضعة لسيطرة الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة. وكما أن هناك اليوم من يرفض أن يرى أن لحزب الله أجندته الداخليّة الخاصّة به، وغير الخاضعة لتسيير من قِبل النظام الإيراني، فإنّ حزب الكتائب لم يعترف يوماً أنه كانت لخصومه في لبنان أجندتهم الداخليّة الخاصة وغير المرتبطة بأجندات خارجيّة، بصرف النظر عن تحالفات الخصوم.

(هيثم الموسوي)

ويذكر الجميّل عرَضاً إنشاء «مكتب ارتباط لبناني ـــ إسرائيلي» في صيف ١٩٨٢. والمقيت أن الجميّل يذكر ذلك عرَضاً، ومن دون أن يلاحظ أن إنشاء المكتب كان قبل بدء مفاوضات ١٧ أيّار. وهو من دون أن يدري يفضح تواطؤ رئاسته مع سلطات العدوّ عند فتح المكتب إذ تجده يزهو بأنه «أصرّ» على أن ينتقل المكتب من مركزه الأوّل في اليرزة إلى بلدة ضبيّة في المتن. لم يتوقّف الجميّل عند المفارقة أن يتمّ إنشاء مكتب اتّصال إسرائيلي ـــ لبناني قرب أنقاض مخيّم فلسطيني لم يعُد يذكره أحد، أي مخيّم ضبيّة والذي قُتل فيه نحو ستين ضحيّة على يد ميليشيات القوّات اللبنانيّة (وبمشاركة من بشير الجميّل حسب شهادة واحد من الناجين). لكن مجزرة مخيّم ضبيّة تثبت أن وحشية الانعزاليّين في لبنان لا تفرّق بين طائفة وطائفة، إذ أن غالبيّة سكّان مخيّم ضبيّة كانوا من المسيحيّين. والجميّل يقول إنه لم يُرِد أن يكون مكتب الارتباط الإسرائيلي بقرب القصر الجمهوري، كأنّ إصدار الأوامر من المكتب إلى السلطة السياسيّة في لبنان وإلى قيادة الجيش في حينه يختلف بين مكان ومكان. هل «إصرار» الجميّل على نقل المكتب التنسيقي مع العدوّ من اليرزة إلى ضبيّة هو نموذج عن روح «المقاومة» التي أسبغها الجميّل على نفسه في عنوان الكتاب؟ ويستفيض الجميّل، بوقاحة، في سرد منافع مكتب إسرائيلي رسمي على أرض لبنان (وبرعاية رئاسة الجمهوريّة) ويقول إن المكتب شكّل «إطاراً مفيداً لمعالجة القضايا العاديّة المتعلّقة بوجود جيش احتلال أجنبي على أرضنا». هذه هي نظريّات حزب الكتائب في التعامل مع جيش احتلال أجنبي: أن تقوم السلطة القائمة بتشريع إقامة مكتب تنسيق وخيانة بين رئاسة الجمهوريّة وبين جيش الاحتلال الإسرائيلي. لا، ويقول الجميّل عن منافع إنشاء المكتب أنه شمل «لمّ شمل العائلات، وإدارة تنقّل الأشخاص والسلع بين المناطق اللبنانيّة». (ص. ٢٢٩). هذا عن جيش احتلال كان يخطف في أنحاء لبنان ويقتل. يريد الجميّل أن ينسب إلى جيش الاحتلال فضيلة لم شمل عائلات لبنانيّة، إلّا إذا قصد بـ«لمّ الشمل» قتل أفراد عائلة ودفنهم سويّةً. وأي تنقّل للبضائع عمل جيش الاحتلال عليه وهو الذي كان يمنع القوت عن بيروت الغربيّة؟ ولا يذكر الجميّل مهام أخرى للمكتب، ألا وهي إصدار الأوامر والتعليمات للقيادة السياسية والعسكريّة وتبادل المعلومات حول المقاومة اللبنانيّة والفلسطينيّة والتنسيق في عمليّة مطاردة الوطنيّين ممن رفضوا القبول بالاحتلال ونتائجه.
ولا يزال الجميّل ـــ «المقاوِم» كي لا ننسى ـــ حانقاً من إغلاق المكتب. لعلّه يعتبر ذلك من إنجازات عهده النادرة. ويزعم أن النظام السوري كان يطالب بإغلاقه كأنه لم يكن هناك لبنانيّون رافضون لوجود المكتب من أساسه. والذي أعلن إغلاق المكتب لم يكن الجميّل بل رشيد كرامي في ٢٦ أيّار ١٩٨٤. وردّ مدير الـ«موساد» على إقفال المكتب بالتهديد: «إقفال مكتب الارتباط سيُوجِّه حتماً ضربة قاضية إلى أيّ التزام محتمل للحكومة اللبنانيّة في الجنوب، وسيلغي أي نفوذ قد تمارسه في المنطقة. إذا أُقفل المكتب، فستضطرّ إسرائيل، لغياب الاتصالات المباشرة، إلى اتخاذ تدابير أحاديّة الجانب في الجنوب». وينسى الكثير من اللبنانيّين تلك الحقبة، وينسون أيضاً الحدّ الذي جاهر فيه العدوّ بالسيطرة على لبنان. والأكيد أن الذي ردع العدوّ مذّاك، هو ليس جان قهوجي أو جوزيف عون، بل المقاومة اللبنانيّة الذي علّمت العدوّ الدرس الذي لم يتعلّمه منذ عام ١٩٤٨، ثم علّمته أبلغ درس في حرب تمّوز عندما حاول أن يتقدَّم على أرض لبنان. ومكتب ضبيّة (واليرزة قبل ذلك) لا يثير أي ذكريات في لبنان، ولا يثير أيّ استفظاع. هذا المكتب كان «عنجر»، قبل «عنجر»، لكنه خلافاً لـ«عنجر» امّحى عن الذاكرة السياسيّة وليس هناك من يشير له. كأنه لم يكن هناك مكتب للتنسيق والارتباط والتوفيق والتعاون بين لبنان وإسرائيل. هل جرى تحقيق في هوية السياسيّين الذين كانوا يتقاطرون إليه من أنحاء مختلفة في لبنان ويقفون على أعتابه؟ وهذا المكتب هو غير مقرّ الـ«موساد» الذي تولّى بشير الجميّل تشييده خصيصاً للـ«موساد» في بيروت الشرقية في زمن الحرب. أي إن مركز الـ«موساد» كان للتنسيق غير الرسمي فيما كان مكتب الارتباط، الذي لا يزال الجميّل يشيد به، متخصّصاً في التنسيق الرسمي بين رئاسة الجمهوريّة وحكومة العدوّ. ويزعم الجميّل أن الوزراء اللبنانيّين «خصوصاً المتحدّرين من الجنوب أو الجبل» ماطلوا في موضوع إغلاق المكتب هذا. وهذا يجوز لأن حكومة الجميّل كانت تضمّ متخاذلين ومتعاونين.

أن تشرّع السلطة إقامة مكتب تنسيق وخيانة بين رئاسة الجمهوريّة وجيش الاحتلال: تلك سياسة حزب الكتائب في التعامل مع إسرائيل

وحتى عندما كان ثلاثة من أعضاء «مكتب الارتباط» الإسرائيلي يتجولون في شمال بيروت (متنكرين كسيّاح)، لا يرى الجميّل غضاضة في ذلك. وقد أسر الجنود السوريّون يومها هؤلاء الإسرائيليّين الثلاثة، لكن الجميّل يعترض على أسرهم. ويتأسف الجميل أيضاً على إغلاق المكتب ويقول إن الإغلاق النهائي أدّى إلى إنزال العقوبة «بنا في الجنوب» ـــ تكاد تظن أن حزب الكتائب والجميّل شخصيّاً حملا معاناة وعذاب أهل الجنوب. وكأن جيش الاحتلال كان سيتعامل مع لبنان برفق وحنان مقابل إبقاء المكتب مفتوحاً. ثم: ما حجم المفارقة أن الرئيس الذي يتغنّى بالسيادة لا يزال بعد كل هذه السنوات يتمسّك بهذا المكتب الذي يصلح عنواناً لعهده برمّته. وينقل الجميّل عن «رئيس غرفة الأوضاع ـــ أي أوضاع؟ ـــ في القصر الجمهوري، العقيد منير رحيّم» تهديداً من قبل ديفيد كمحي نقله له «صديقه» ــــ أي صديق الرحيّم اللبناني الجنسيّة ـــ في مكتب الارتباط الإسرائيلي. وهل يحدّثنا الجميّل باستفاضة ضرورية وقانونيّة عن هذه الصداقة التي ربطت بين رئيس «الأوضاع» في القصر الجمهوري السيادي وبين عضو في مكتب الارتباط الإسرائيلي؟ أم أن هذه التفاصيل ترِد في مدوّنات الجميّل الشخصيّة (والمملّة) ولا تصلح للنشر في كتابه؟ وانسحب العدوّ من دون تنسيق. وهناك من لا يزال يتأسّف عن أن العدوّ انسحب من الجبل ومن الجنوب من دون «تنسيق». وقد انسحب العدوّ من الجنوب في عام ٢٠٠٠ بسبب إذلاله في عمليات مقاومة لم تنتهِ، وكان أجمل ما في هذا الانسحاب الذليل أنه تمَّ من دون تنسيق. التنسيق يكون عادة لترتيب أوضاع عملاء العدوّ قبل انسحاب الجيش الذي يرعاهم. هل هذا ما يتأسّف عليه الجميل؟ لكن الواقعة الكبرى كانت عندما أرسل له سفيره في واشنطن، عبد الله أبو حبيب، يُعلمه عن عدم رضى أميركا عن إغلاق المكتب. هذه كانت كارثة عند الرئيس السيادي الذي علّق على الخبر بالقول: «هكذا، وقع المحظور الذي كنتُ قد سعيتُ جاهداً إلى تداركه» (ص. ٢٣٠). وينقل الجميّل حواراً جرى بين عبد الحليم خدّام ووليد جنبلاط من حزيران ١٩٨٤ يظهر فيه عمق الموضوع الاستراتيجي والأيديولوجي الذي حكم العلاقة بين الطرفين، إذ يقول جنبلاط لخدّام: «نريد بيع السلاح الموجود عندنا. طفِرنا». فيردّ خدام: «نجد لك زبوناً. ما هي العمولة؟» فيرد جنبلاط: «مقدار ما تريد. لم ندفع في الأساس ثمن السلاح». هذا كان نمط العلاقة الاستراتيجيّة. ويتبيّن في الأحاديث المنقولة في الكتاب عن عام ١٩٨٤ كم أن خلق جهاز «أمن الدولة» كان لأسباب طائفيّة محضة (لمراضاة الشيعة آنذاك). ويظهر أن جنبلاط كان مؤيّداً لترشيح إميل لحوّد قائداً للجيش، في مقابل الأسماء الانعزاليّة التي أصرَّ عليها الجميّل (تمسّك الجميّل بترشيح ميشال عون). إميل لحّود هذا كان أوّل وآخر زارع عقيدة وطنيّة مقاوِمة للجيش والذي لم ينجح الفاسدون (مثل رفيق الحريري، المُفسِد الأكبر في تاريخ الجمهوريّة) في إغرائه أو جذبه بالمال. لكن غازي كنعان زكّى ترشيح ميشال عون (تاريخ لبنان الحديث يحتاج لكتابة سيرة لغازي كنعان. وسرديّة إيلي الفرزلي عنه لا تفي لأن الفرزلي كان شديد القرب ـــ غير المتكافئ ـــ منه). وإذا كان هناك من يستشهد بأنبياء وقدّيسين في طلب المشورة قبل اتخاذ خطوة في الحياة، فإن أمين عندما يخلو إلى نفسه يسألها: «ماذا كان ليفعل الشيخ بيار لو كان مكاني؟» (ص. ٢٣٣). ويرسم أمين صورة خياليّة لأبيه بيار فيجعل منه بطلاً في مقاومة الاستعمار الفرنسي فيما كان ذلك عبارة عن المشاركة في متظاهرة متأخرة جداً بعد أن حرّك الاستعمار البريطاني أدواته في لبنان ضد فرنسا. لا، ويزعم أمين الجميّل أن بيار «تصدّى منذ ١٩٦٩ للفلسطينيّين والإسرائيليّين». لكن متى تصدّى بيار للإسرائيليّين؟ هل في ذلك الاجتماع الذي حضره أرييل شارون ورواه في مذكراته عندما طفق بيار (السيادي) ينتحب وهو يستجدي المساعدة الإسرائيلية إلى درجة أن كميل شمعون الجالس بقربه لكزه وقال «ما تبكي»؟ هل كان يتصدّى للإسرائيليّين وهو يبكي أمام وزير الدفاع الإسرائيلي؟ إن تعريف حزب الكتائب للتصدّي لا يختلف عن تعريفه للسيادة أو المقاومة (كما في عنوان الكتاب). ويزعم الجميّل أن منزل العائلة كان يستضيف «أمثال صائب سلام وكمال جنبلاط ورشيد كرامي». الذي أذكره في سنوات طفولتي وصباي (أي الستينيات والسبعينيّات) أن الثلاثة ــــ بما فيهم سلام ــــ كانوا على خصومة مع بيار الجميّل في معظم تلك السنوات. ويشيد الجميل بنزاهة والده لكنه لا يصنّف التمويل الإسرائيلي السرّي لحزب الكتائب اللبنانيّة.
لكن الجميّل يتطرّف أكثر عندما يُسبغ على الشيخ بيار لقب «أبا الأمّة» اللبنانيّة (ص. ٢٣٤). كيف يمكن أن يُسبغ أمين الجميّل على زعيم حزب طائفي عنصري فئوي لقب أبي الأمة؟ عن أي أمّة يتحدّث أمين هنا؟ هل الأمة هي أمة الكتائب؟ أم أن تعريفه للبنان منزوع الطوائف والأحزاب والأفراد الذين يختلفون مع الحزب؟ هذا الحزب لم يكن له أن ينشأ من دون غطاء من الاستعمار الفرنسي (الذي كان يحارب الشيوعيّين فيما كان أفراد الكتائب يتجوّلون في عرّاضات شبه عسكريّة) وتلقّى دعماً خارجيّاً وأوامرَ في كل سنواته قبل وصوله إلى رئاسة الجمهوريّة عبر الارتهان لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
ويعترف الجميّل على مضض أن انهيار العملة والاقتصاد بدأ في عهده لكنه كعادته يتنصّل من المسؤوليّة ويرميها على غيره. يشكو من قلّة الدعم الخارجي ومن تقهقر سمعة «نظامنا المالي» (ص. ٢٣٦). لكن لماذا تقهقرت هذه السمعة؟ أليس سبب الفساد المستشري في عهده؟ أليس بسبب تسخيره الدولة اللبنانيّة لصالح زعامته وتسلّط حزبه الطائفي؟ صحيح أن منظمة التحرير الفلسطينيّة سحبت أموالاً طائلة من لبنان (وهذه الأموال تعرّضت للسرقة فيما بعد من قبل شخص ائتمنه ياسر عرفات على كل مال منظمة كانت تعبّر عن تطلّعات الشعب الفلسطيني) لكن حكم الجميّل ساهم في تهجير أموال الشعب الفلسطيني. لقد مارس حكم الكتائب (قبل الانتفاضة عليه في عام ١٩٨٤) أبشع أنواع العنصريّة ضد كل أفراد الشعب الفلسطيني ما دفع بالكثيرين منهم إلى ترك لبنان. ومرة استقبل الجميّل في القصر الجمهور مدير «البنك العربي» بعد أن تعرّض للمهانة من قبل عناصر للجيش اللبناني. كانت إهانة الشعب الفلسطيني عادة يوميّة في حكم الجميّل. يريد الجميّل أن يضع الشعب الفلسطيني ثروته في مصارف لبنان فيما كان جيش الجميّل وعناصره الأمنيّة يُمعنون في إهانة كل فرد فلسطيني. أما لوم الفساد اللبناني أو لوم ميزانيّة الجيش الضخمة فهذا عند الجميّل من «السخف أيضاً». يسوِّغ قضيّة تسليح الجيش في زمن افتقار الدولة إلى موارد بالقول إن التسليح هذا كان «بأقساط طويلة الأجل» (ص. ٢٣٧) ـــ أي أن تحميل أجيال قادمة أعباء نفقات حروب الجميّل الداخليّة لا يزعج الجميّل. (هناك مَن روى لي نقلاً عن شهادة لكريم بقرادوني أن السفارة الأميركيّة كانت تقدّم للجميّل فواتير عن حمم القذائق التي كانت البوارج الحربيّة الأميركيّة تطلقها ضد خصوم الجميّل في الضاحية والجبل).
ويظهر من نشر محاضر (حسب الجميّل) لاجتماعاته مع حافظ الأسد كم كان الجميّل يهابه. يظنّ القارئ أننا أمام جلسة بين معلّم وتلميذ. لكن الجميّل لم يذهب إلى دمشق إلا بعد أن خسر بالكامل رهانه السابق على الخيار الأميركي-الإسرائيلي. لم يبقَ عنده إلا الانصياع إلى الخيار السوري، ما أضعف موقعه التفاوضي ووضعه رهينة لمعارضيه اللبنانيّين (المتحالفين مع النظام السوري). والجميّل لم يتفاوض مع النظام السوري في أوّل عهده عندما كان يحظى ببعض الدعم الشعبي والدولي، بل انتظر حتى خسارته كل أوراقه. ويسخر الجميّل من المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي عندما يقول عنها إنها ليست إلا حليفة النظام السوري «تحت مسمّى المقاومة». الجميّل، الرئيس المقاوِم، يصنّف ويخوِّن المقاومين الحقيقيّين لا المزيّفين. يضع الجميّل المقاومة تحت خانة «توتير» الجنوب لخدمة مصالح النظام السوري، كأن الذين ضحّوا بحياتهم ورزقهم في مقاومة إسرائيل فعلوا ذلك خدمة لجهة خارجيّة، سوريا أو إيران. والاستعانة بطرف خارجي من قبل أي مقاومة لا ينزع عنها صفة المقاومة. وهل هناك من مقاومة لم تستعِن بطرف خارجي؟ إن حرب استقلال البيض (الميسورين) ضد الاستعمار البريطاني في أميركا اعتمدت على دعم فرنسي لا تزال الجهوريّة هنا تحفظ جميلَه. الجميّل يذهب أبعد من ذلك ويتهم المقاومة اللبنانيّة في الجنوب (على اختلافها آنذاك، يساريّة وقوميّة وإسلاميّة) بأنها كانت «تقاتل بالنيابة» عن حافظ الأسد. هذه الإهانة لشهداء من الجنوب تصبّ في خانة السرديّة الإسرائيليّة عن المقاومة الحقيقيّة، والتي يعتنقها الجميل بحذافيرها. واليوم، الجميل وحلفاؤه يتهمون الذين يقاومون إسرائيل بأنهم يقاتلون بالنيابة عن إيران، وفي زمن الاتحاد السوفياتي كانوا يقولون إن اليسار اللبناني يقاتل بالنيابة عن الشيوعيّة العالميّة ـــ هذا كان خطاب بيار الجميّل عشيّة الحرب. يتعنّت الحزب في طائفيّته وتزمّته الفاشي: الآخر هو خائن، والوطني هو الانعزالي فقط. ويأخذ على حافظ الأسد أنه لم يرد «عرقلة المقاومة في الجنوب». أي أن الجميّل يعترف وبصريح العبارة أن عرقلة المقاومة كانت في صلب أجندته. وكان يريد توكيل الجيش اللبناني (تماماً كما الأجندة الأميركيّة اليوم) تولّي عمليّة عرقلة عمل المقاومة لصالح إسرائيل وأميركا. وكان الجميّل يرد استخدام الجيش من أجل الحصول على رضى جيش الاحتلال الإسرائيلي وذلك للقيام بمهام إسرائيل من ناحية منع أعمال مقاومة ضد الاحتلال. وهذا تماماً كان الدور الذي أوكلته أميركا وإسرائيل إلى الجيش بعد حرب تمّوز للحد من قوة مقاومة إسرائيل. صحيح أنه كان لحافظ الأسد أجندته الخاصة بالنظام لكن أسباب اندلاع المقاومة وتوسّعها كانت داخليّة. (وينسى الجميّل أن العلاقة بين النظام السوري ومخابراته في لبنان من جهة، وبين حزب الله كانت سيئة للغاية. ينسى الجميّل تدشين غازي كنعان والنظام السوري لدخول بيروت الغربيّة بمجزرة «ثكنة فتح الله»).



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 112 / 2184510

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع د.أسعد أبو خليل   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2184510 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40