الخميس 11 كانون الثاني (يناير) 2024

العرب والغرب بعد حرب الإبادة في غزة

الخميس 11 كانون الثاني (يناير) 2024 par اسعد ابو خليل

في الوقت الذي يقومُ به عربُ التطبيع (مثل فؤاد السنيورة) بالتملّق لإسرائيل وطمأنتِها أنّ يد الاستسلام ستظلّ مطروحة لها، تطرح الحرب على غزة جملة من التساؤلات عن علاقة العرب بالغرب. والعرب عربان، أو أكثر، لكنّ هناك طبعاً فارقاً بين الرأي العام العربي وبين آراء طغاة التطبيع الذين يقودون الجامعة العربيّة ويتحدّثون، زوراً، باسم كل العرب. نظام العرب الرسمي يعتبر أن محمد بن سلمان هو زعيم العرب، والكلّ يسجد له لأن الإعلام والأعمال والفن، والشباب الـ«كول»، مسخّرون له (مقابل أجر أو منفعة ماديّة). لكن العرب من الناس يعتبرون يحيى السنوار زعيمهم من دون منازع. تكفي الهالة التي تحيط بـ«أبو عبيدة» منذ بدء الحرب كي ندرك الفارق بين الوعي المفروض والوعي العفوي التلقائي (غير الخاضع لتوجيهات حاشية المحمديْن). كشف الغرب عن وجهه الحقيقي في الحرب على روسيا، لكنه كشفَ أكثر عن وجهه في الحرب الإباديّة على غزة. ما الذي تغيّر في الغرب عن السابق؟

1) لم يعد من الممكن لليبراليّين العرب أن يقنعونا أن هناك فروقات بين دول الغرب، وأن هناك عاقلين بينهم وأنه من الظلم الحضاري، والعنصري، وضع الغربيّين كلّهم في سلّة واحدة. لكن الغربيّين هم الذين يضعون أنفسهم في سلة الـ«ناتو» الواحدة، وهم يتنافسون للانضمام إليها. وحلف شمال الأطلسي ليس إلا النادي الحربي التابع للإمبراطوريّة الأميركيّة. سويسرا حظرت تمويل جمعيّات عبّرت عن تعاطف مع شعب فلسطين، والإعلام الألماني والبريطاني يطرد أي موظّف يتعاطف مع فلسطين، الحكومة الألمانيّة نسيت الوعود الديموقراطيّة النظريّة كي تحظر الآراء المزعجة لإسرائيل، وماكرون يريد تشكيل جبهة عالميّة لمحاربة «حماس». الغرب هو حلف شمال الأطلسي الذي كان أوّل من جاهر قائده بعد الحرب الباردة بالقول إن الإسلام بات العدوّ الجديد له بعد الشيوعيّة. والحرب في أوكرانيا منعت أي دولة أوروبيّة، لو أرادت، من الاعتراض على الانصياع. أميركا لم تعد تسمح حتى بالاعتراض الشكلي. الغرب جيش متراصّ يأمره الأميركي. زلّ لسان رئيس الحكومة الكندي قبل أسابيع ولفظ عبارة «وقف النار» لكنه سرعان ما صحّح قوله خشية إغضاب الآمر الأميركي.

2) لم يعد بمستطاع الغرب وعظنا بضرورة نبذ العنف على أنواعه، بما فيه ما يمكن أن نتفق على تصنيفه بالإرهاب. نعلم بالقاطع اليوم أن دعوات اللاعنف من جمعيّات عربيّة ممَوّلة من الغرب ليست إلا مساهمة في المجهود الحربي الإسرائيلي. إن الحكومة الأميركية سارعت بعد ساعات من الاجتياح الروسي ضد أوكرانيا إلى الدعوة إلى الرد بعنف شديد، وبكل الوسائل العنفيّة، ضد روسيا. لم يكن هناك أي تمييز بين أهداف مدنيّة أو عسكريّة، وحتى اغتيال ابنة مفكر روسي لقيت ترحيباً في الإعلام الغربي. عقود من المعاناة الفلسطينية ولا يزال الغرب يحرم الشعب الفلسطيني من حقّه البديهي في الدفاع عن نفسه. كل دعوة إلى السلم أو اللاعنف أو المعارضة المدنية ستلقى السخرية من العرب والتقريع.

3) إمكانيّة رعاية الغرب لمسيرة سلمية مراوغة، بين العرب وإسرائيل، ستصطدم بجدار المواقف الغربيّة المُشارِكة في العدوان على غزة. هناك قوّات غربيّة من بريطانيا وكندا وأستراليا وأميركا وألمانيا شاركت على الأرض في عمليّة الإبادة في غزة (أميركا زعمت أن مسيّراتها كانت تطير فوق غزة فقط للبحث عن الرهائن). وحكومة الدانمارك تهدّد «أنصار الله» في اليمن وشاركت في التحالف الغربي ضدهم.

4) فقد الغرب حظوته النظريّة بالبروز بمظهر ممثّل حضارة غربيّة متفوّقة تصرّ على حرية تعبير مطلقة وعلى المساواة بين المواطنين. من فرنسا إلى ألمانيا إلى أميركا، هناك حملات مكارثيّة ظالمة ضد مظاهر التعبير المناصِر لفلسطين والمناهِض لإسرائيل. لقد أعادوا صوغ تعريف سياسي (باطل) جديد لمعاداة السامية من أجل كبت أصوات فلسطين في الغرب برمّته. هؤلاء لم يعودوا يستطيعون أن يعقدوا ورشات العمل والمؤتمرات عن حريات التعبير وقبول الآخر في عواصمنا العربيّة. حملة «جو سوي» تبدو بلهاء كلياً اليوم بعد عمليات الاغتيال التي طالت عشرات الصحافيّين في غزة والضفة (هي كانت حملة بلهاء وعنصريّة وشنيعة في يومها، يكفي أن تتذكّر الأصوات اللبنانيّة التي شاركت فيها). الغرب هو إسرائيل وإسرائيل هي الغرب. التمييز يبدو ساذجاً من قبل العرب. هم أرادوا التماهي مع إسرائيل ومصلحتها ويجب أن يتحمّلوا ثمن ذلك لأجيال لاحقة.

من المبكر رسم صورة التغييرات التي ستلحق بالعالم العربي بعد النكبة الجديدة. هناك وجهة نظر سوداويّة (وصهيونيّة) تقلّل من إمكانيّة حدوث تغييرات في السياسة العربية لأن المحمديْن يمسكان بمفاصل النظام العربي الرسمي، وبالتشارك مع حلف شمال الأطلسي. وليس دقيقاً الاستعارة من العالم العربي الذي تولّد من النكبة الأولى كي نعقد مقارنة ونتنبّأ بالمستقبل. الظروف تختلف والزعامات تختلف ودور الدول يختلف، وبدلاً من عبد الناصر ومحمد حسنين هيكل لدينا محمد بن سلمان وتركي آل الشيخ. العراق وسوريا وليبيا ولبنان معطّلون بالكامل كدول، ومجتمعات. أنظمة الخليج باتت هي الممثّل الشرعي والوحيد للعرب أمام الغرب المُقرِّر. ولا يمكن الحكم على نتائج الحرب قبل ختامها. غزة المنتصرة ستُعيد تشكيل العالم العربي، وستبرز قيادات «حماس» كالوريثة الشرعيّة للزعامة في العالم العربي. في المقابل، إنّ النظام العربي الرسمي سيترقّب نتائج الحرب بشوق كبير: كان يتوقّع من الحليف الإسرائيلي أن يقضي على «حماس» بالكامل، وأن يذلّ قادتها أمام الكاميرات. وعدوّ إسرائيل هو العدوّ الأول للمحمديْن. أمّا سيناريو فوز «حماس» وخروج قادتها من الحصار للاحتفال بالنصر أمام جمهور غزة سيدفع المحمديْن لتصنّع المؤازرة وسيغدقان المال لإعمار غزة كي تسكت «حماس» على صهيونيّتهما (ولـ«حماس» تاريخ مؤسف في السكوت عن عداء نظام المحمديْن وعلى إجرامهم ضد «حماس». بالكاد اعترضت «حماس» على اغتيال المبحوح في دبي).

العرب سينظرون إلى الغرب نظرة مختلفة بعد غزة. سيكون هناك نتائج انتقاميّة للحرب. ستتعرّض مصالح دول غربيّة إلى الضرر والإيذاء المقصود، كما أن قدرة دول الغرب على نشر دعايتها السياسيّة الترويجيّة ستضعف وتعاني. هذا يعني أن دول الغرب ستحتاج إلى زيادة منسوب الضغط، وحتى العنف، ضد شعوب المنطقة، لفرض إرادتها. لكن الواقع العربي محبط كما أن استكانة سياسيّة تعمّ في العالم العربي، والغضب ضد إسرائيل لم يُترجم شارعيّاً أو عنفيّاً بعد. حدوث ذلك يبدو محتماً لأن الشعب العربي في عام 1948 لم يرَ مشاهد النزوح والقتل إلا بعد أسابيع من حدوثها وبصور بالأبيض والأسود غير واضحة المعالم. اليوم كل عربي هو شاهد على النكبة الجديدة.

لا يمكن أن ينظر العرب إلى حضارة الغرب (إذا كان المصطلح جائزاً في عصر التلاقح والهجرة والاستيلاء الغربي على عقول الدول النامية) على أنها حضارة منزّهة أو محايدة. حتى العلوم ليست محايدة. سارعت شركة «فايزر»، مثلاً، إلى إيصال الدفعة الأولى من لقاح كورونا إلى إسرائيل، قبل أي دولة في العالم النامي (وقبل كثير من دول الغرب). واعترف نتنياهو بأن أولوية إسرائيل على غيرها من دول العالم النامي كان بسبب التواصل والتفاهم الصهيوني والديني مع رئيس الشركة. ووكالة المخابرات الأميركيّة نظّمت حملة تلقيح مزيّفة في باكستان وذلك من أجل الوصول إلى ابن لادن وأخذ عينة من حمضه الجيني (حتى الساعة، لا يزال الناس في باكستان ينظرون بعين الريبة إلى اللقاح الأجنبي. أي إن اللقاح المزيّف تسبّب بموت كثيرين ممن أخافهم التلقيح). الجامعات الغربيّة كانت جوهرة دول الغرب بنظر العرب. اليوم، أسفرت الجامعات عن وجه سياسي وقح. حتى رؤساء مستشفيات بحثيّة هنا أدلوا برأيهم في الصراع العربي الإسرائيلي، وإلى جانب وحشيّة إسرائيل طبعاً. يعلم العربي الذي يلتحق بالجامعات الغربيّة أنه سيكون ممنوعاً من التعبير بحريّة كما حاله في بلاده العربيّة. أساتذة جامعة جورجتاون حذّروا تلاميذهم من ارتداء الكوفيّة الفلسطينيّة لأنها قد تعرّضهم للأذى الجسدي. ثلاثة طلاب عرب في مدينة برلنغتون الوادعة في ولاية فرمونت تعرّضوا لإطلاق رصاص فقط بسبب ارتدائهم للكوفية والحديث بالعربيّة. الغرب صدّر حروبه وباع بضاعته لنا عبر الاتكال على سمعة العلم والمعرفة في الغرب.

المشروع السياسي الغربي أعلن مشاركته الفعليّة في الحرب ضد الشعب العربي في غزة. لا ينفع بعد اليوم الانتقاد الموسمي للمستوطنات أو التوبيخ اللطيف لوزيريْن عنصريّيْن في حكومة العدوّ. الغرب وإسرائيل هما واحد في الحرب في غزة. والإعلام لا يدع مجالاً للشك حول الاندماج الغربي الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر. المثقّفون العرب بعد غزة سيضطرّون إلى تحديد موقفهم من المشروع السياسي الغربي. المنضوون في خانة النظاميْن السعودي والإماراتي سيمضون في تبنّي خيارات أولي الأمر الذين يثقون بهم بصورة عمياء: هؤلاء هم الكتّاب الذين دعوا إلى الجهاد ضد اليهود عندما دعاهم أولو الأمر، وهم أنفسهم الذين دعوا إلى التطبيع مع إسرائيل عندما دعاهم نفس أولي الأمر، أو أولادهم. على الغرب أن يختار بين إسرائيل وبين العرب، وهذا الخيار يمكن أن يصبح المشروع السياسي العربي في التعاطي مع الغرب. لكن ذلك يحتاج إلى تحدّي الأنظمة التي يرزح تحت حكمها كل عربي (خارج لبنان).
العلاقة الحديثة بين العرب والغرب تأسّست في سلسلة من الخداع والرياء: من مراسلات الشريف حسين وماكماهون إلى تقسيمات سايكس بيكو إلى وعد بلفور ووعود أخرى كاذبة من الحكومة البريطانيّة قبل النكبة. بعد الحرب العالمية الثانية تولّت الحكومة الأميركيّة الخداع والمراوغة بالنيابة عن الغرب وإسرائيل (كتاب رشيد الخالدي عن الدور الأميركي في تاريخ «مسيرة السلام» يحمل عنوان «وسطاء الخداع»). قدرة الحكومة الأميركيّة على الكذب والخداع مدعومةٌ من قبل طغاة العرب الراضخين بالكامل للمشيئة الأميركيّة (الرئيس التونسي نجح في حملته الانتخابيّة عبر استغلال العداء الشعبي للتطبيع مع إسرائيل، لكنه لا يزال يعطّل رغبة البرلمان في تجريم التطبيع مع إسرائيل). لكنّ غزة مرشّحة كي تطيح بالنظام العربي الرسمي، إلا أن ذلك يحتاج إلى إرادة شعبيّة وفعل (خارج مواقع التواصل).

لا يمكن النظر إلى النموذج الغربي بنفس العين بعد غزة. لا نتحدّث هنا عن حد صغير من النقد تحت عنوان «المعايير المزدوجة». المعايير ليست مزدوجة بل ثابتة وواضحة. حياة العرب لا تساوي حياة الإسرائيليّين، والحريات الأكاديمية والشارعيّة مضمونة إلا إذا أزعجت الحركة الصهيونيّة في كل بلد عربي. نحن على أبواب حظر رسم البطّيخ في عدد من الدول لأن الصهاينة يعترضون عليه (تعرّضت ابنة الممثّل بن عفلق والممثّلة جنيفر غارنر إلى حملة لئيمة لأنها ارتدت قميصاً عليه رسم بطّيخ على شكل خريطة فلسطين التاريخيّة). إدوارد سعيد عاب على العرب في آخر قسم «الاستشراق» أنهم لم يدرسوا الغرب بما فيه الكفاية. أعتقد أن العرب، في القرن الحالي، يفهمون الغرب أكثر بكثير مما يعرف الغرب عن العرب، وصورة العرب عن الغرب مركّبة وشاملة بالمقارنة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2183938

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع د.أسعد أبو خليل   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2183938 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40