الأحد 7 شباط (فبراير) 2021

السيرة الذاتيّة لأمين الجميّل: عندما يصبح الارتهان للخارج «مقاومة» [4-5]

الأحد 7 شباط (فبراير) 2021 par اسعد ابو خليل

لا يزال الحديث هنا عن سيرة أمين الجميّل الذاتيّة، والتي صدرت حديثاً بعنوان «الرئاسة المُقاوِمة: مذكّرات» (والسيرة لاقت استحساناً لدى إعلام الطغاة في الخليج وأفردت صحيفة «الشرق الأوسط»، السعوديّة الصهيونيّة، صفحات طوالاً لها، كما أنّ محطّات تلفزيون لبنان نشرت ندوة له في «بيت المستقبل»، حيث تناوب جورج غانم ومروان حمادة وعمرو موسى على الثناء على المذكّرات، التي أستبعد أن يكون المادحون قد قرأوها، بسبب الملل الفظيع الذي تُحدثه في نفس القارئ. وعمرو موسى يثني على ما يرضى عنه طغاة الخليج ويشوّه سمعة عبد الناصر، وذلك أيضاً خدمة لطغاة الخليج الذين رعوا دوره المشين في الجامعة العربيّة). وعن العلاقة مع العدوّ الإسرائيلي، يتحدّث أمين كأنّه كان سائحاً في لبنان وكأنّ حزب «الكتائب» لم يكن حصانَ طروادة إسرائيلياً مزروعاً في لبنان ويتغذّى على التأجيج الطائفي البغيض وعلى الدعم الخارجي (الغربي والعربي والإسرائيلي) الذي عوَّل على ميليشيا الحزب للقضاء على المقاومة الفلسطينيّة واليسار (لا يجب أن ننسى عداء الحزب التاريخي وجرائمه ضدّ اليسار). لا بل تصل بأمين القحّة لأن يقول إنّه حصل على معلومات قبل الاجتياح الإسرائيلي عن قيام ضبّاط إسرائيليّين وعملاء من الـ»موساد» بعمليّات استطلاع على الأراضي اللبنانيّة. لكن كيف حصلتَ على المعلومات، يا أمين؟ من أبيك أم من أخيك أم من ابن عمتك، أم من نسيبك زوج ابنة موريس الجميّل؟ العلاقة مع إسرائيل كانت حزبيّة وعائليّة في آن. ثم، هل كنت أنتَ في منأى عن العلاقة مع إسرائيل عندما كانت بيروت الشرقيّة مرتَعاً ومَضافة لضباط وعملاء العدوّ، حيث افتتح أخوك مكتباً في فيلا ليكون مركزاً للـ«موساد»؟ كيف حصلت على المعلومات؟ ويقول إنّه حذّر حزب «الكتائب» من مغبّة التورّط في حرب إسرائيليّة، لكن ليس هناك من دليل على ذلك إلا في ما يصفه بـ»مدوّنات خاصّة في سجلّ اليوميّات» (ص. 67). لكنّ مصداقيّة أمين متدنّية جدّاً في هذا الكتاب.

هو مثلاً بالرغم من دلائل كثيرة وقراءة، يزعم أنّ علاقته مع بشير الجميّل كان ملؤها التفاهم والحب والوئام. هذا غير صحيح البتّة. لقد سألتُ قبل أيّام واحداً من المستشارين القريبين من بشير الجميّل (وهو يعرف أمين أيضاً جيّداً) وأكّد لي أنّ ذلك باطل، باطل. العلاقة بين الشقيقَين كانت سيّئة للغاية، وكانت تشوبها أشهر من الانقطاع والقطيعة، وكان بيار الجميّل يعمل دوماً على جمع ومصالحة الشقيقَيْن. في الكتاب، يجرؤ أمين على الزعم بأنّ اللقاء الأسبوعي بينهم (بيار وأمين وبشير) كان كافياً لتلافي أي إشكالات. لا، لم تكن العلاقة سيّئة للغاية، بل كان أمين غير مرتاح البتّة من الصعود المفاجئ لشقيقه وسيطرته على الجهاز الحربي للحزب بالرغم من ظهورٍ استعراضي لأمين في مجزرة تلّ الزعتر وغيرها من المواقع الحربيّة في زمن الحرب. وكان بشير يسخر من أمين ويذكر أفراد شلّة بشير ذلك ـــ وإن كانَ أمين لا يعلم ذلك فإنّه علمَ بذلك للتوّ من هذه الصفحةـــ وكان بشير لا يثق بهؤلاء الكتائبيّين الذين كانوا قريبين من أمين، فيما حرص أمين بعد اغتيال شقيقه على اجتذاب مستشاري بشير، وذلك لتلافي حصول تمرّد ضدّه (هو مثلاً قرّب جورج فريحة وعبدالله أبو حبيب وزاهي بستاني وغيرهم). وبشير الجميّل شكّل حالة تمرّد، ليس فقط ضدّ أمين وما مثّل في الحزب، بل حتى ضدّ أبيه. أذكر مرّة عندما اتصل والدي (كان ذلك قبل اجتياح 1982) ببيار الجميّل للمساعدة في تحرير مخطوف مسلم في بيروت الشرقيّة، كان جواب بيار أنّ بشير «بطّل يسمع منّي» أو «لم يعد يردّ عليّ». أذكر ذلك وكنت جالساً بقرب والدي أثناء المكالمة. وهناك حادثة كيف أنّ بيار الجميّل كان يستقلّ السيارة ويتوجّه إلى مقرّ القوات للاحتجاج على سلوك معيّن من بشير، وكان الأخير يختبئ ويرسل من يقول لوالده إنّه غير متواجد (روى ذلك كريم بقرادوني وغيره). وكان لكلٍّ من بشير وأمين جماعته المستقلّة، لا بل المعادية لجماعة الآخر، وكان لأمين وضع تنظيمي – عسكري خاص في منطقة المتن الشمالي، التي أرادها جزيرة في منأى عن نفوذ بشير وكان ذلك مصدر إزعاج لبشير. طبعاً، كان للولاء العائلي القبلي دور في تمنّع بشير عن اقتحام المتن الشمالي وإخضاعه بالقوّة لسيطرته ونفوذه ولم يرِد أن يتسبّب في إغضاب والده. وكان بشير (قبل بعد تنصيبه رئيساً) يريد أن يدفع بمستشاريه الخلّص للانخراط في حزب «الكتائب» لأنّه لم يكن يعتبر أنّ قادته كانوا خاضعين له بما فيه الكفاية.

لا، ويقول أمين إنّ بشير بات يشاركه الرأي في مسألة التحذير من الانخراط في حرب إسرائيليّة ضدّ «منظمة التحرير». كيف شاركك الرأي يا أمين وهو كان يعتمد في وجوده على جيش العدوّ الذي موّل حملته الانتخابيّة (بالمشاركة مع ميشال المرّ)؟ ويقول أمين (الذي كان وجهه يعكس حالة حداد في يوم تنصيب بشير) إنّ بشير طلب منه المساعدة على الانفتاح على الفريق الآخر. لكن ما حاجة بشير إلى ذلك وهو الذي كان يتواصل سرّاً مع المخابرات السوريّة كما أنّ النظام السعودي كان يدعمه ويطلب من وكيله في لبنان، صائب سلام، مساعدته لجعله مقبولاً من المسلمين؟ والسعي الحثيث من صائب سلام لجعل بشير مقبولاً عند المسلمين هو الذي أنهى زعامة صائب سلام في بيروت. (بلغ خبث الدور السعودي أنّ سعود الفيصل طلب من بشير الجميّل ــ الذي كان مسؤولاً عن مجازر وعمليّات قتل ضدّ الفلسطينيّين في لبنان والذي كان يعد بتحويل المخيّمات إما إلى حدائق للحيونات أو ملاعب تنس، كما أخبر مجلّة «تايم» في حينه ــ أن يتعهّد بحماية المخيّمات الفلسطينيّة (ص. 68). هذه كأن تأتمن الذئبَ على القطيع. ويردِّد أمين الرواية المعهودة كيف أنّ بشير تحوّل إلى «رجل دولة» بعد تنصيبه رئيساً من قبل قوات الاحتلال. يا رجل: لم يمضِ على تنصيبه في الرئاسة إلّا أيّام عندما اغتيل. كيف تلمس تحوّله؟ هل في أنّه بات يرتدي بزّة وربطة عنق وتخلّى عن لباس الميدان (الإسرائيلي)؟ رجل دولة في غضون أيّام؟ رجل الدولة عادة لقب يكتسبه من يقود بلاده في معركة أو من يغيّر الوضع السياسي والاقتصادي في بلاده ويخلق حالة جديدة. صحيح أنّ المصطلح يفتقر إلى العلميّة وهو عادة لقب تسبغه دول الغرب على أدواتها في الدول النامية (حتى السنيورة الذي كان من أكثر رؤساء الوزراء طائفيّة ومذهبيّة في تاريخ لبنان، والوحيد الذي جلب المفتي ليصلّي معه في السراي، وذلك في محاولة لاستثارة العصبيّات المذهبيّة، وهو الرجل الذي قاد معركة غربيّة ضدّ مقاومة إسرائيل في لبنان، وكان دوره في حرب تموّز يتركّز على تقويض رصيد حركة مقاومة إسرائيل في لبنان). ويذكر أمين أنّ كامل الأسعد كان من المتحمّسين «لانتخاب» بشير، لكنّه ينسى أن يذكر أنّ الأسعد نفسه كان تعهّد في تصريح مبكّر لجريدة «النهار»، في الأيّام الأولى للاجتياح، أنّه لا يمكن دستوريّاً إجراء انتخابات في ظلّ الاجتياح الإسرائيلي، لكنّه بعد اجتماع إقناعي وجيز مع ميشال المرّ غيّرَ رأيه هكذ فجأة. لا يُعوَّل على فتاوى أو آراء من تعرّض لإقناع ميشال المرّ في ذلك الصيف الطويل. ويجرؤ أمين الجميّل على القول إنّ «المقاومة اللبنانيّة» نجحت في إيصال «رمزها إلى رئاسة الجمهوريّة» (ص. 69).

أيّة مقاومة هي هذه التي تكون مرتهنة بالكامل لجيش الاحتلال الأجنبي الذي غزا لبنان. هناك تسميات عديدة يمكن إطلاقها على «القوات اللبنانيّة»، مثل القوات الكويزلينغيّة أو أداة الاحتلال أو صنيعة العدوّ الإسرائيلي، لكنّ كلمة مقاومة تليق بالقوات بقدر ما تليق صفة ثائر برفيق الحريري، وبقدر ما تليق صفة المقاومة برئاسة أمين الجميّل المشؤومة.

ويرد الحديث في الكتاب عن اجتماع نهاريا الذي أصبح في الذهن الانعزالي أسطورة من بطولات القائد. في الحقيقة، ليس هناك ما يشنّع سيرة بشير الجميّل أكثر من هذا اللقاء. هناك سرد تفصيلي له مع محاضر في كتاب جورج فريحة «مع بشير» (وكان فريحة أقرب إلى بشير من أخيه بكثير) وهو بحد ذاته يشرح طبيعة العلاقة بين السيّد والتابع. هذا رئيس جمهوريّة لبنان – طبعاً، هو كذلك فقط بحسب السردية الانعزاليّة لأنّه في عرف الكثير من اللبنانيّين لم يمكن إلا أداة نصّبها العدوّ في قصر بعبدا وبتسهيل أميركي وسعودي، ورعاية من إلياس سركيس، أضعف رئيس في تاريخ الجمهوريّة اللبنانيّة إلى أن صعد ميشال سليمان (مع جوازاته المزوّرة) إلى قصر بعبدا برعاية من فريق 8 آذار، قبل أن يتمرّد ضدّه – وهو يتعرّض للمهانة والذلّ والإذلال والتقريع من رئيس وزراء العدوّ الذي استدعاه كما كان بشير يستدعي مساعديه. في لقاء – أو استدعاء – بشير مع بيغن من العزّة والكرامة ما كان لجلوس سعد الحريري على كرسيٍّ في الرياض وتلقّي الصفع والركل والضرب والإهانات.

ويرد في الكتاب ذكرٌ للعلاقة التي كان الجميّل يحافظ عليها مع قادة في «منظمة التحرير الفلسطينيّة». وهذا الفصل من تاريخ «منظمة التحرير»، ومن قيادة عرفات تحديداً، يسلّط الضوء على فشل وتقصير وغباء القيادة الفلسطينيّة التي كانت مستعدّة لأن تقفز على جثث شهداء مجازر الكتائبيّين من أجل الحصول على مكاسب صغيرة (في حمأة حصار بيروت، زار أمين الجميّل المنطقة الغربيّة واجتمع إلى قادة المقاومة الفلسطينيّة ولم يطلب منه عرفات إلّا تهريب جورجينا رزق إلى بيروت الشرقيّة – كان يمكن لعرفات جعل الحصول على ضمانات دوليّة مكتوبة في شأن المخيمات الفلسطينيّة لكنّه وجد في مسألة تهريب جورجينا رزق أولويّة الأولويّات ــ). وهناك مراسلات خطّية بين أبو أياد وبين أمين الجميّل (وهناك صور من هذه المراسلات ممّا يؤكّد صحّتها. هذه الصفحة في العلاقة تساعد على فهم الكارثة التي كانت قيادة «منظّمة التحرير» و«الحركة الوطنيّة» مسؤولة عنها). هذه قيادات فشلت في معركة تشكيل مقاومة فاعلة ضد إسرائيل، وفشلت أيضاً في الحصول على مكاسب من النضال الدبلوماسي والتذاكي الذي كان ياسر عرفات مزهوّاً به طوال السنوات، إلى أن انتهى محاصراً في مبنى المقاطعة. وهذا الرابط السري الذي حافظ عليه قادة «منظمة التحرير» و«الحركة الوطنيّة» مع القيادات الانعزاليّة، كان خيانة لكلّ تضحيات مقاتلي ومناضلي الحركتَيْن، ويُعدّ انقلاباً على شعارات وخطَب طنطَنَ بها هؤلاء القادة. يناشد أبو أياد أمين الجميّل في رسالة في عزّ حصار بيروت (الذي شاركت فيه القوات الانعزاليّة) ويدعوه إلى عدم المشاركة في «المأساة» كي «لا يُسجّل على آل الجميّل أنهم ساهموا في ضرب القضيّة وذبحها» ( ص. 71). ألم يكن أبو أياد على علم بتاريخ آل الجميّل (عائلة بيار وصحبه كي لا نشمل كلّ عائلة الجميّل) في الحرب الأهليّة ومنذ عام 1958؟ إنّ دعوة أبو أياد، الجميّل لتحييد نفسه لا تختلف عن ذهنيّة قيادة عرفات التي آمنت بتحييد الحكومة الأميركيّة. لم تنهزم «منظّمة التحرير» (والحركة الوطنيّة) في صيف 1982، بل هما انتهجتا سياسات ومواقف جعلت من الهزيمة أمراً حتميّاً.

ويرتكب الجميّل شناعته الأكبر في محاولته البائسة في تلطيخ سمعة حبيب الشرتوني. يصرّ على أنّ الشرتوني جازَفَ بحياته واخترق حواجز الأمن الكتائبيّة مقابل مبلغ من المال (ص. 72). لا، يا أمين. هناك في هذا العالم مَن لا يرتهن للمال ومن لا ينفذ عمليّاتٍ طمعاً بالنفيس ولا ينحني من أجل القليل أو الكثير من الثروة. هناك يا أمين من لم يجُل على سفارات العرب والغرب في لبنان طمَعاً بمال أو نفوذ. الشرتوني انتمى إلى «الحزب السوري القومي الاجتماعي» الذي – اختلفتَ معه أم اتفقتَ – يمثِّل واحداً من الأحزاب العقائديّة التي تتطلّب من عناصرها ولاءً وقناعة، وليس إغراءً بالمال على طريقة بعض أحزاب الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة (مثل «الصاعقة» والحزب التقدمي الاشتراكي و«فتح» – والدكاكين الفاسدة التي أنشأها عرفات في طول لبنان وعرضه وبأسماء مختلفة، وكانت النافذة التي تسرّب العدوّ منها) التي فتحت المجال أمام عناصرها لارتكاب السرقات والشناعات واستغلال الناس – وحدها الأحزاب الشيوعيّة على اختلافها، والحزب القومي، شذّت عن هذا المسلك المشين وإن وصل بعض الفاسدين والمنتفعين إلى صفوفها. لكنّ الجميّل وقع على هذه الخبريّة ووجدها ملائمة لتغيير حبيب الشرتوني الذي يحظى بتأييد كبير من الشعب اللبناني: ينسى الجميّل أن يذكر، كما ينسى جماعة 14 آذار، أنّ تصنيف بشير الجميّل ليس محلّ إجماع بين الشعب اللبناني، مهما قال عنه في الماضي صائب سلام ومهما تقول أبواق النظام السعودي والإماراتي والقطري في لبنان هذه الأيّام. حبيب الشرتوني مجرم عند الانعزاليّين، وهو بطل بنظر مؤيّدي مقاومة إسرائيل في لبنان (العلمانيّون منهم والدينيّون). ومثل الكثير من مضمون كتاب الجميّل ليس هناك من مصدر لهذه المعلومة، لكن هذا كتاب يوثّق فيه الكاتب ما يرد فيه بالاستشهاد بـ»مدوّنات خاصّة في سجلّ اليوميّات». أي أنّ الجميّل يطلب من القارئ أن يثق به «على العمياني». ثمّ، إذا كان هذا الدافع، فلماذا لم يذكره عهد الجميّل ولماذا لم تذكره مواقع «القوّات» وقادتها إلى الآن؟ هكذا فقط يكتشف الجميّل معلومات جديدة ويذهلنا بها كأنّ كتابه مجموعة من وثائق السبق الصحافي الذي استحصل عليه أمين من «مدوّنات خاصة في سجلّ يوميّاته». الجميّل لا يكتفي بهذا المعلومة، بل يتّهم «القوات اللبنانيّة» بالضلوع، بصورة أو بأخرى، تقصيراً أو تواطؤاً مع الشرتوني. أي أنّ الجميل يريدك أن تقتنع بأنّ الشرتوني وضع المتفجّرة ضدّ صنيعة إسرائيل في لبنان، لأنّه طمع بالمال وذلك بالتواطؤ مع «القوّات اللبنانيّة». أجزم أنّ تحليلات جنبلاط أو فارس سعيد البورازانيّة في العلاقات الدوليّة أقلّ جنوناً وتفلّتاً من تحليل الجميّل هنا.

ويقول الجميّل إنّ بشير تغيّر وإنّه بات في آخر أيامه يحظى بعطف المسلمين. ما دليل أمين هنا؟ إنّ صائب سلام (وكيل الأمير سلطان بن العزيز في بيروت والذي كان كمال جنبلاط يصفه بمناسبة وغير مناسبة بـ«العميل السعودي») أحبَّ بشير واستبشر به خيراً (ص. 75)؟ نذكّر أمين بأنّ هناك في المنطقة الغربية من بيروت من اغتبط لمقتل بشير وأنّ الشرتوني يحظى عند كثيرين في لبنان بشعبيّة تفوق شعبيّة أمين نفسه في المتن. وعندما قصدَ البيروتي، فاروق شهاب الدين (وكان مفتاحاً انتخابيّاً لصائب سلام في البسطة) بكفيا للتهنئة بتنصيب بشير، لم يلبث أن تعرّض للاغتيال بعد عودته لأنّ بشير الجميل كان يمثّل نقيض المزاج الشعبي في الكثير من المناطق اللبنانيّة (لا أُنكر هنا أنّه كان هناك مزاج شعبي مسلم، في مناطق مختلفة من لبنان، تقبّلَ بشير الجميل في صيف 1982، وذلك بسبب حالة العداء العنصري التي كانت تسود ضدّ الشعب الفلسطيني آنذاك، والتي كانت مسؤولة عن حالة الترحيب – عند البعض كما أنه كان هناك هذا البعض في بيروت الغربية كما روى مرة زياد الرحباني في مقابلة قديمة مع تلفزيون لبنان – بجيش العدوّ في جنوب لبنان).

ويناقض الجميل نفسه عرضاً (ص. 75): بعدما كان يحاول إقناعنا بأنّه لم يكن هناك بين بشير وأمين إلّا التفاهم والوئام والحبّ والتفاهم، فإنّه في مقطع يعترف بالخلافات ويقول إنّه منذ انتخابات الرئاسة (أي تنصيب بشير من قبل جيش العدوّ) «ولّى زمن الاختلافات السياسيّة وحان وقت التضامن». أي اختلافات سياسيّة، يا أمين؟ ألم تقل لنا في كلّ ما سبق إنّه لم يكن بينك ببين شقيقك إلّا كلّ تفاهم وودّ وتحاب؟

ويجد الجميّل في ذكره لمجزرة صبرا وشاتيلا ضرورة لاعتناق دعاية العدوّ، إذ يتحدّث بسهولة عن «فدائيّي صبرا وشاتيلا» (ص. 76) وأنّ الاتفاق تناول «إجلاءهم عن لبنان». أي أنّ الجميل يفعل ما لم يفعله جيش العدوّ: جيش العدوّ تنصّل من المسؤوليّة وألقى باللائمة على عصابات يمينيّة كان هو قد درّبها على جرائم الحرب، لكنّه لم يجد الوقاحة في تبرير الجريمة نفسها. هذه فعَلها الجميّل بالنيابة عن العدوّ إذ يقول إنّ «منظمة التحرير» أخلّت بالتزاماتها عندما لم تجلِ «فدائيّي صبرا وشاتيلا» عن مخيميْ صبرا وشاتيلا. الجميّل يسوّغ هنا للعدوّ وأدواته جريمة الحرب. لكنّه يستدرك فيقول إنّ قادة حرب العدوّ، شارون ورفول إيتان (ينادي قائد أركان جيش العدو باسم الدلع له) لم يريدوا «التورّط مباشرة في عمليات تنظيف الأحياء الداخليّة والتجمّعات السكنيّة الفلسطينيّة والتي توقع الكثير من الضحايا المدنيّين والعسكريّين، وتنال بالتالي من سمعة إسرائيل ومعنويات جيشها» (الصفحة نفسها). كاتب هذه الكلمات كان رئيساً لجمهوريّة لبنان ويُطلق في الكتاب وصف «المقاوِم» على نفسه، وهو لقب لم يطلقه عليه أحدٌ من قبل، ولا حتى الانعزاليّون أنفسهم.

يزيّف أمين طبيعة لقاء بشير الأخير في نهاريا مع مناحيم بيغن (وكلّ الإعلام اللبناني بات واقعاً ضحيّة تزييف الرواية الانعزاليّة عن اللقاء): بشير الجميّل لم يدخل في شجار مع بيغن، ولم يكن هذا اجتماعاً. بيغن استدعى الجميّل وعامله بفظاظة، بعدما كان الأخير يعتقد أنهم سيتعاملون معه في تل أبيب كرئيس دولة محترم، متناسياً أنّهم هم نصّبوه رئيساً بالقوّة المسلّحة. بشير لا يختلف عن مصطفى دودين في روابط القرى، أو عن سعد حدّاد. وفي الاجتماع، تعرّض لتوبيخ وتقريع وخرجَ من الاجتماع ذليلاً مُهاناً يبكي بسبب أنّ راعيه بيغن عامله كالأطفال. يُروى أنّه بكى على كتف والده قائلاً: عاملني معاملة فظّة. لكنّ شارون الذي يعترف أنّه كان صاحب فكرة ترشيح بشير، عادَ إلى لبنان، وبعد تناول أطباق أعدّتها له سولانج الجميّل (التي بحسب مذكّرات شارون كانت تتخصّص في إعدادها له)، وكانت عبارة عن خروف محشي وكبّة مشويّة وكبّة بالصينيّة والكنافة، بالإضافة إلى أطباق أجنبيّة،وسعى إلى مراضاة الجميّل وطبعاً رضي الجميل (جورج فريحة، «مع بشير»، ص. 215). ويزعم أمين أنّ بشير عارضَ بصورة «قاطعة» (ص. 77) مشاركة «القوات اللبنانيّة» في «تنظيف المخيّمات» بعد الاجتياح (والتنظيف في مصطلحات النازيّة الألمانيّة واللبنانيّة لا تعني إلّا عمليّات إبادة جماعيّة). لا، كان بشير كما يظهر في المحاضر التي نشرها جورج فريحة في كتابه «مع بشير»، وهي تتناقض مع محاضر استشهدَ بها أمين وإن لم ينشرها كي نحكم، مطيعاً وموافقاً على كلّ الخطط الإسرائيليّة عن المخيّمات، وحتى عن الوجود الإعلامي لـ«منظمة التحرير» في لبنان. لكنّ هذا أسلوب معهود في الكتاب الخالي من المصداقيّة. محاضر فريحة تقول إنّ شارون عاد في الحديث إلى موضوع مخيّمات صبرا وشاتيلا، وقال لبشير، آمراً: «ستذهب قوّاتنا وراء جيشك إلى المدينة الرياضيّة وصبرا وشاتيلا؟ فأجاب الجميّل: نعم. إذا شئتَ التحدّث عن هذه التحرّكات فعليكَ أن تقول إنّ الجيش اللبناني هو الذي دخل هذه الأماكن، وإنّ القوّات الإسرائيليّة ما جاءت إلّا بعده لتأخذ علماً بأنّ كلّ شيء جرى على ما يرام. في وسعكم أن تأتوا بعدنا لتروا أنّ العمليّات تُنفَّذ على الوجه الملائم. لا يجوز أن يظنّ أحد أنّكم تنسّقون مع الجيش اللبناني. نسّقوا ما شئتم مع «هورس» (فادي أفرام) وميشال عون (ما غيره) وأمير دروري... إننا نقوم بعمليّة «سلامي». ردَّ شارون: «إذاً، فالوقت غير مناسب للقيام الآن بأعمال استعراضيّة في بيروت الغربيّة؟». أجابه الجميّل: «ليست هذه المنطقة آمنة. قد يتعرّض جنودكم للخطف والقتل... سيحصل تنسيق بين إيلي حبيقة وجوني عبده على أرفع مستوى. وهما ينسّقان مع جماعتك على مستوى رفيع أيضاً» (ص. 222). حتى في قمع حريّة التعبير للشعب الفلسطيني في لبنان، فإنّ بشير أبدى تأييداً لقرار العدو بقمع تلك الأصوات. يقول شارون للجميّل - بعدما ذكّره بأنّ تنصيبه رئيساً كان فكرته - بصفاقة: «إذا تلقّينا معلومات عن تحرّك أحد مراكز الفلسطينيّين، كمركز شفيق الحوت، مثلاً، أو غيره، وتدخّل مغاويرنا لقمعه، فما هو الموقف الذي ستتخذونه من هذا الأمر؟». أجابه بشير: «إفعلوا ما تسمح به إمكاناتكم» (ص. 223). تحوّل هذا الحوار في كتاب الجميّل إلى رفض قاطع من بشير لمشاركة قوّات في المجازر المُخطّط لها مُسبقاً في المخيّمات (ويغفل أمين أنّ بشير كان ينوي ضمّ «القوات اللبنانيّة» إلى الجيش اللبناني).
تتهاوى سرديّة تتهاوى بسرعة، إذ إنّه يزعم بأنّ بشير بعدما تلقّى التقريع والإهانة من بيغن (هل كان ذلك مثل تلقّي سعد الحريري الإهانات في الرياض بعد ضربه وصفعه وركله؟ وما حكاية هذا الوطن «العاجق الكون» في أنّ زعماءه يتلقّون التقريع من حكّام أجانب وهو لا يزال يحتفل بعيد استقلاله - الصوري - سنة بعد سنة؟)، فإنه رفض أوامر شارون (الذي نصّبه رئيساً) ثم اشتكى أمرَه لوليّ أمره المباشر في لبنان، أي «ماندي»، ضابط الاستخبارات الإسرائيليّة المكلّف العلاقات مع «القوات اللبنانيّة» (ص. 78) وكلّ هذا في رواية الجميّل «المقاوِم» نفسه. لكنّ رواية أمين تكشف مدى الأكاذيب التي رواها جوني عبده (خصوصاً في سلسلة مقابلات «شاهد على العصر» على محطة «الجزيرة») لا سيّما في معرض نفيه أنّه لم يلتقِ بإسرائيليّين وأنّه استضاف شارون - باعترافه - في منزله، لكن من دون أن يلتقيه. نحن نعلم الآن أنّ عبده هذا زار شارون في مزرعته في النقب المحتل، وأمين الجميل يفضح الكثير عن وجود عبده في كلّ الاجتماعات التنسيقيّة بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وأدواته في لبنان. والمراجع العبريّة تقول عن جوني عبده (هل تلقّى وساماً من الجمهوريّة اللبنانيّة أم ليس بعد؟) إنّه كان يعيب على قادة الجيش الإسرائيلي لينَهم في قصف بيروت الغربيّة في صيف عام 1982. هذا الرجل ذاته الذي كان رفيق الحريري يريده رئيساً لجمهوريّة لبنان (تحدّث محمد حسنين هيكل عن ذلك في أكثر من مناسبة). تختلف رواية أمين عن رواية جورج فريحة في أنّ شارون كان مثل بيغن يقرّع بشير الجميّل ويوبّخه، مثلما كان يفعل مناحيم بيغن. هذا يقولون عنه إنّه كان يدافع عن سيادة لبنان. يقول أمين إنّ بشير الجميّل لم يقم بـ«تنظيف» المخيّمات (في إشارة إلى مجازر صبرا وشاتيلا)، لكنّ ذلك يعود لسبب بسيط: أنّه لم يُتح له ذلك، وكانت هناك خطط موضوعة تنتظر تسلّم بشير مهام الرئاسة بالتنسيق مع جيش الاحتلال الذي انتخبه.

ليس صحيحاً ما يقوله الجميّل عن أنّ اتفاقيّة 17 أيّار لم تكن تتضمّن بنوداً وملاحق سرّية مثل كلّ الاتفاقيّات بين دولة عربيّة وإسرائيل

وفي الوقت الذي كان أمين قد نفى فيه أن تكون قد شابت حالة من العداء والصراع علاقته مع بشير في سنوات الحرب، فإنّه يعود ليعترف بأنّ المقرّبين من بشير ناصبوه العداء بعد تنصيبه رئيساً (ص. 99). لكن إذا كانت علاقتك مع بشير قد اتّسمت بالتفاهم والمحبّة والود، فلماذا يناصبك المقرّبون منه العداء؟ كان يجب أن يستمرّوا في مسار التفاهم الذي تكلّمتَ عنه. أنت تقول إنّ حفلة العشاء الأسبوعي الذي جمعكم مع أبيكم كان كافياً لإحلال التفاهم، بالرغم من مرور «غيمات صيف» في العلاقة كما تقول، وإن أضفتَ أنّ التنافس بينكما لم يكن إلّا على خدمة لبنان. وهل أضرّ لبنان وأسال دماء بنيه أكثر من تنطّح حزب «الكتائب اللبنانيّة» لـ«خدمة لبنان»؟ لو أنّ هذا الحزب، وإفرازاته التنظيميّة تتوقّف مرّة واحدة، وإلى الأبد، عن «خدمة لبنان» (وهل كان التمويل الإسرائيلي وغير الإسرائيلي لحزب «الكتائب» في الانتخابات منذ الخمسينيّات من أجل «خدمة لبنان»؟)
ويكون أمين يحدّثك عن بشير وزواريب بكفيّا، وإذ به فجأة يستشهد من دون مناسبة أو سبب بقول لهنري برغسون (ص. 99). هنا، تتيقّن أنّ أمين كان يضع كتاب الاستشهادات - أو واحداً منها - الذي يستعين به رجال الأعمال والساسة المنعدمو الثقافة العامة، وذلك من أجل إضفاء طابع عميق ومثّقف على خطبهم وكتاباتهم. ما علاقة برغسون في كتابه «التطوّر الخلّاق» بعلاقتك مع أخيك بشير؟ وهل هناك رأي لشيشرون أو أرسطو في مسألة انتخابات المتن وفوز المرشّح العوني ضدّك؟
وعندما يتحدّث أمين الجميّل عن فيليب حبيب (يسمّيه «فيل» بسبب العلاقة الوثيقة)، فإنّه يستشهد برأيٍ معادٍ للسامية لديفيد كيمحي (المسؤول الموسادي السابق الذي انتدبته بلاده لتمثيلها في مفاوضات 17 أيّار - إمعاناً في إذلال لبنان - فيما اختارت هي اسم المفاوض اللبناني، أنطوان فتّال، بسبب كتابه الاستشراقي المعادي للمسلمين والذي صدر بالفرنسيّة) ويقول عن قوله إنه بليغ - مع أنه معادٍ للسامية (ص. 101). وتقول المراجع الإسرائيليّة عن حبيب هذا، إنّه في المفاضات مع إسرائيل كان يقول لمناحيم بيغن إنّه صهيوني من أيامه في بروكلين، في نيويورك. (ومرّة سألتُ حبيب بعد تقاعده إثر إلقائه محاضرة في جامعة جورجتاون، في أواخر الثمانينيّات، عن حقيقة قوله لبيغن إنّه صهيوني وذكرت اسم الكتاب الإسرائيلي الذي يذكر ذلك، فقال لي إنّ ذلك غير صحيح، وإنّ الكتاب يتضمّن مغالطات أخرى).
ومع أنّ الجميّل غير معروف بروح النكتة أو خفّة الظلّ، فهناك بعض الطرائف والبدائع في الكتاب. هذا أمين مثلاً يقول لنا: «أردتُ، منذ بداية عهدي، تحصين الإدارة ضدّ فيروس الفساد، والحؤول دون إهدار المال العام، يقيناً منّي أنّ هذه الصفقات تفتح عادة شهيّة السماسرة» (ص. 101). ليس عهد الجميّل هو الوحيد الفاسد: معظم العهود الرئاسيّة كانت فاسدة، من عهد بشارة الخوري إلى شمعون (وشمعون قد يكون من أكثر الرؤساء الذين استعملوا صفتهم الرئاسيّة بعد خروجهم من الحكم لعقد صفات وسمسرات، بما فيها صفقات الزجاج عندما كان يشغل وزارة الداخليّة في حرب السنتَيْن)، وعهد شارل الحلو وخصوصاً عهد سليمان فرنجيّة، وصفقات الوزارات التي شغلها طوني فرنجيّة، إلى العهود الأخرى. لكنّ عهد الجميّل شهد اتساع الفساد على نطاق واسع بالإضافة إلى بداية انهيار العملة اللبنانيّة وخروج رؤوس أموال من لبنان. وينسى البعض أنّ الحملة العنصريّة ضدّ الفلسطينيّين في لبنان في عهد الجميّل، أدّت إلى خسارة أموال طائلة من المصارف اللبنانيّة. وإصرار الجميّل على تسليحٍ هائل للجيش اللبناني (المنقسم والفئوي والذي لم يكن إلّا اليد الضاربة بيد التحالف الأميركي - الإسرائيلي وذراع الجميّل الميليشياوي في الحرب الأهليّة)، زاد من منسوب الهدر والفساد. وفساد صفقة البوما لن يمحوها صكّ براءة في تصريح من إيلي فرزلي.
ونكتشف في الكتاب: كما أنّ جو بادين هو الصديق الحميم لوليد جنبلاط (ألم يلتقِ بجنبلاط مرتَيْن، كما التقى بنائلة معوّض؟ ألا يثبت ذلك صداقة حميمة؟) فإنّ فرانسوا ميتران هو صديق حميم للجميّل، مع أنّ الرجل على ما نُقل عنه في حينه لم يكن مُعجباً بصديقه اللبناني. لكنّ الجميّل يقدّم القرائن هنا، إذ يقول إنّ ميتران دعاه إلى العشاء في «شقّة موضوعة في تصرّف الرئاسة»، حيث لاقى صديقه خفية برفقة خليلته وابنته التي لم تكن معروفة يومها. ضمنَ أمين قبوله «ضمن الحلقة الحميمة لهذا الثنائي كعلامة ثقة» (ص. 106). لكنّ فرحة أمين لم تتم إذ أنّ السائق أنزله من السيارة بعد منتصف الليل في باريس، تاركاً إياه من دون أوراق ثبوتيّة أو نقود. لكنّه وقع على خفير فقال له: «أنا أمين الجميّل، رئيس جمهوريّة لبنان، وثمّة من ينتظرني في قصر ماريني». كادت هذه الحادثة أن تشعل الحرب العالميّة الثالثة. «الله ستر»، كما يقول المؤمنون والمؤمنات.
ويُفرط الجميّل في الثناء على شفيق الوزّان، واحد من أضعف رؤساء الوزراء في تاريخ لبنان، ووصوله إلى سدّة رئاسة الوزراء بعد سليم الحصّ، كان لسبب بسيط: أنّ الحصّ لم يرتضِ أن يكون شاهد زور على القرارات الطائفيّة والسياسية المنحازة للثلاثي سركيس - بطرس - عبده، وكان يعترض عليها في مجلس الوزراء. أراد سركيس بعدما حزم أمره، وبالتفاهم مع الحكومة الأميركيّة والسعوديّة، في دعم ترشيح بشير الجميّل رئيساً، اختيار رئيس للوزراء مطواعاً، ينفّذ ولا يعترض. ولم يكن هناك أضعف من الوزّان. وكان يساعد في ذلك السخاء المالي على المطيعين من قبل أطراف داخليّة وخارجيّة كانت تسعى لإيصال الجميّل إلى الرئاسة. وكان الفريق الانعزالي برمّته يكنّ كلّ الاحتقار لشفيق الوزان ويتعامل معه بفوقيّة طائفيّة. وقبل ترشّح الجميّل في مطلع عام 1982، طلب الجميل أن يجري معه عرفات حجازي مقابلة تلفزيونيّة (مع المحطة التابعة للدولة يومها) كي يُبشّر فيها بالاجتياح الإسرائيلي (هو لم يستعمل في المقابلة صفة الاجتياح لكن تحدّث عن «القرار»، وكان حجازي يلحّ عليه كي يفصح أكثر في تعريف «القرار» لكنّه لم يستجب). وبعد المقابلة، طلب بشير الجميّل من حجازي أن ينقل له رسالة لشفيق الوزّان وكانت الرسالة عبارة عن شتائم وتهديدات سوقيّة وبذيئة - وقد أخبرني عرفات حجازي بذلك بعد سنوات. ونقل حجازي الرسالة للوزّان الذي اعتبرها بمثابة تهديد شخصي له. لكنّ أمين يستعين بيوميّاته كي يقصّ لنا كيف أنّ الوزّان كان يجيب عن الجميّل في الاجتماعات مع المسؤولين العرب كي يُجنّب الجميّل أيّ إحراج (ص. 118). المشكلة أنني سألت الوزّان في منتصف الثمانينيّات (بعد خروجه من السراي) - وقد رويتُ ذلك في حلقة سابقة - عن زعم الجميّل تعاونه معه وإشراكه في القرار، فنفى ذلك نفياً قاطعاً وقال بلجهة انكسار: لم أكن أعلم بما يُدار ولم يشركوني بأيٍّ من القرارات.
يتحدّث الجميل في الكتاب عن الجيوش الأجنبيّة ويفصّلها على أنّها تضمّ السوريّين والإسرائيليّين والفلسطينيّين (ص. 118). أي أنّه كان - على طريقة الدعاية الصهيونيّة - يعتبر كلّ الشعب الفلسطيني في لبنان بمثابة جيش مثل جيش الاحتلال الإسرائيلي. ويعترف الجميّل بأنّ شارون كان يستعين بأدواته من الأحزاب والسياسيّين اللبنانيّين من أجل تحقيق تنازلات إضافيّة من الحكومة اللبنانيّة. لكنّ تخريجة الجميّل لقصّة «وثيقة شارون» في كانون الأوّل/ ديسمبر 1982 ليست مقنعة البتّة. و«وثيقة شارون» هي اتّفاق سرّي توصّل إليه واحد من أقرب مستشاري الجميّل في عهده، سامي مارون (والذي ارتبط اسمه بالكثير من صفقات الفساد في العهد) مع أرييل شارون، والاتفاق قدّم من التنازلات أكثر ممّا ورد في اتفاقيّة الخضوع المعروفة بـ«17 أيّار». وقدّمت حكومة لبنان الكثير من التنازلات في الاتفاق إلى درجة أنّ فيليب حبيب غضب شديد الغضب من الجميّل، وبذل هذا الأخير جهداً لتهدئته وأعدّت جويس الجميّل طبق مجدّرة لحبيب، وكان يحبّها «كثيراً» (ص. 120). لكنّ زعم الجميّل أنّ سامي مارون أقدم من تلقاء نفسه على عقد اتفاق مع وزير الحرب الإسرائيلي من دون علم أو مشورة الجميّل، لا يمكن أن يقنع من عاصر تلك الفترة لأنّ مارون كان من أقرب مستشاري الجميّل. هل مِنَ المعقول أنّ مارون كان يمكن أن يقوم بتلك المفاوضات مع الوزير الإسرائيلي النافذ من دون إعلام الجميّل، خصوصاً أنّ شارون عقَدَ مؤتمراً صحافيّاً في وسط بيروت في 14 كانون الأوّل/ ديسمبر أعلن فيه التوصّل إلى اتفاق مع حكومة لبنان؟ وبالرغم من تاريخٍ طويل من الأكاذيب والأباطيل والأساطير والأضاليل في الدعاية الرسميّة للدولة العبريّة، فإنّ البتّ في الحقيقة بين مسؤول إسرائيل وبين مسؤول عربي تكون لصالح الطرف الإسرائيلي لأنّ الطرف العربي يخادع ويوارب ويزيّف عندما يتعلّق الأمر بمفاوضات أو اتفاقات سرّية بين الطرفَيْن. وفي دفاعه عن نفسه، يقول الجميّل: لم يكن هناك نصٌّ مكتوب وموقَّع، كأنّ الاتفاقيّات السريّة تكون مكتوبة وموقّعة وممهورة بختم كاتب العدل. هذا يعني أنّ الجميّل كان يمكن أن يمضي في اتفاقيّة استسلام مع العدوّ تفوق في شناعتها اتفاقيّة 17 أيار، على شناعتها. لم يتوضّح في الرواية سبب غضب فيليب حبيب، وقد يعود ذلك إلى أنّ الحكومة الأميركيّة آنذاك كانت تريد أن يكون لبنان تابعاً وملحقاً لها، وليس تابعاً أو ملحقاً لإسرائيل.
وليس صحيحاً ما يقوله الجميّل عن أنّ اتفاقيّة 17 أيّار لم تكن تتضمّن بنوداً وملاحق سرّية، مثل كلّ الاتفاقيّات بين دولة عربيّة وإسرائيل، خصوصاً عندما تكون الحكومة الأميركيّة تلعب دور الرعاية والوساطة التي يصفها ميشال عون بـ«النزيهة». ثمّ، لا ننسى أنّ إجهاض الاتفاقيّة الذليلة جرى في فترة قصيرة نسبيّاً، وكان يمكن تطوير الاتفاقيّة وزيادة ملاحق إضافيّة عليها. لكنّ الجميّل يجهد في الكتاب في تعداد فضائله بحيث تصبح موافقته على الاتفاقيّة فضيلة بحدّ ذاتها. ويشكو الجميّل أمره للوسيط الأميركي كأنّ أميركا يمكن أن تختار حليفاً عربيّاً على الحليف الإسرائيلي. ورواية الجميّل عن الموقف الأميركي منه، هي ترداد للازمة ترد في سرد الجميّل: أنّه كان هو المُحقّ والصائب وأنّ أميركا خذلته ولم تدرك أهميّة الجميّل في العلاقات الدوليّة، خصوصاً في الصراع بين الجبارَيْن. لو أنّ أميركا استمرّت في دعم الجميّل، لعلّ الاتحاد السوفياتي كان سيسقط في منتصف الثمانينيّات لا في آخرها.

(يتبع)



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 284 / 2184525

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع د.أسعد أبو خليل   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2184525 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40