يتماثل المشروعان الوطني، الفلسطيني والقومي العربي، في ترابطهما الوثيق، والتأثير المتبادل لكل منهما في الآخر. كما يتشابهان في عجزهما، حتى الآن، عن تحقيق أهدافهما المتمثلة في التحرير والوحدة، فقد شكّلت القضية الفلسطينية الحلقة المركزية للنضال العربي، وشمل ذلك الأنظمة والأحزاب والنقابات والحراكات، بمختلف مسمياتها وتصنيفاتها. وإذا كان هذا يعكس وعي العرب بمركزية القضية الفلسطينية وأهميتها، وتأثيرها في أوضاعهم الداخلية، وقدرتهم على التقدّم والتحرر وتحقيق الوحدة والرخاء، فإنّ الأمر لم يخلُ من استغلال بعض الأنظمة والقوى السياسية لها، لتبرير ضرب معارضيها واضطهادهم وملاحقتهم، وتسويغ دكتاتوريتها وتمسكها بالسلطة، أو عجزها عن القيام بالإصلاحات الضرورية لتقدّم المجتمع، تحت شعار أولوية المعركة، ومركزية القضية الفلسطينية.
بعد نكبة عام 1948، تركّز الحلم العربي على التغيير والوحدة والتحرّر من الاستعمار والوجود العسكري الأجنبي، وبناء القوة العربية القادرة على مجابهة العدو الصهيوني وتحرير فلسطين، وكان الحلم الفلسطيني جزءًا من ذلك، متعلقًا بأي تغييرٍ يحدث في أي قطر عربي، ومعلقًا الآمال على كل مسعى للوحدة بين قطرين عربيين أو أكثر، ومشاركًا بفاعلية في تأسيس الأحزاب، قومية أم إسلامية، والتي تحمل له آمالًا، وتعد بالتغيير والوحدة وتحرير فلسطين. واندرج المشروع الوطني الفلسطيني، كما عبّرت عنه منظمة التحرير الفلسطينية عند تأسيسها في عام 1964، ضمن هذا السياق، بحثًا عن دور له في إعداد الشباب الفلسطيني، للمساهمة في الحشد والاستعداد العربي لمعركة التحرير، وتضمّن ذلك وضع وحدات جيش التحرير الفلسطيني تحت إمرة قيادة الجيوش العربية في أماكن وجودها.
حفل المسار الفلسطيني والعربي بانتصارات وهزائم، وتقدّم وتراجع. كان متعرّجًا بكل ما تحمله
هذه الكلمة من معنى. من رحم هزيمة عام 1967 اشتد ساعد المقاومة التي كانت قد انطلقت في مطلع عام 1965، وتضامن العرب لإزالة آثار العدوان بعد أعوام من الخلافات العربية، وبزغ التضامن العربي في أبهى صوره في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، قبل أن يفتح الرئيس المصري أنور السادات نافذة مشرعة على التسوية مع العدو الصهيوني في الأيام الأخيرة للحرب. وانساقت القيادة الفلسطينية وراء حديث السادات عن انسحاب إسرائيلي قادم من الضفة الغربية وقطاع غزة، رأت أن في مقدورها إقامة سلطة وطنية، وصفتها حينها بالمقاتلة، وبذلك وضعت أول مدماكٍ في تغيير المشروع الوطني الفلسطيني السابق، المتمسك بتحرير فلسطين كلها، وإقامة دولة ديمقراطية تتعايش فيها جميع الأديان، واستبدلت به برنامجًا مرحليًا عُرف ببرنامج النقاط العشر الذي شكّل أساسًا لمشروع وطني فلسطيني، سُمي “حل الدولتين”، وتضمّن اعترافًا ضمنيًا تحوّل في ما بعد إلى اعتراف علني بحق إسرائيل في الوجود. وتم ذلك ضمن مسار طويل تراوح بين المواجهات المسلحة مع العدو الصهيوني، والتدرّج في تقديم التنازلات المرتبطة بروايتنا التاريخية والثوابت الفلسطينية، وصولًا إلى اتفاق أوسلو، وما تلاه من اتفاقات، وهو ما تناولته بالتفصيل مقالة الكاتب في صحيفة العربي الجديد “كيف نفهم المسار الفلسطيني المتعرّج” (29/1/2020).
لم ينجح الرئيس السادات، بعد توقيعه اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني، في جر الأنظمة العربية إلى مربع الاعتراف بالعدو، وقُطعت العلاقات العربية مع النظام المصري، ونُقل مقرّ جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس. ولكن في مرحلة لاحقة، تواكبت المشاريع والتنازلات العربية والفلسطينية، وجرت محاولاتٌ لمواءمة مشروع الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، مع مبادرة الأمير فهد، وبدا وكأنّ الطرفين، العربي والفلسطيني، يتسابقان على تقديم المبادرات، وإثبات حُسن النيات على التقدّم باتجاه وهم السلام، ولكن اللحظة الفاصلة التي فتحت المجال واسعًا للسير في هذا الطريق، وأزالت منه المحرّمات التي منعت لقاء العدو الصهيوني، كانت توقيع اتفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير وحكومة الاحتلال الإسرائيلي (اتفاق أوسلو)، صيف العام 1993.
أفول مرحلة
على الرغم من أنّ هذه المرحلة قد رُسمت ملامحها في أعقاب حرب 1973، حين توهّم عرب وفلسطينيون أنّ بالإمكان الوصول إلى تسوية مع الكيان الصهيوني، قائمة على مبدأ الاعتراف بوجوده، وتطبيع العلاقات معه، مقابل انسحابه من الأراضي التي احتلها في حرب يونيو/ حزيران 1967، فإنّ انقضاء نحو 47 عامًا على هذا الوهم، ونحو 27 عامًا على اتفاق أوسلو، وإعلان السلطة الوطنية الفلسطينية (سلطة الحكم الذاتي المحدود، بحسب التسمية الرسمية) وتراجع سلطتها المحدودة يوما بعد يوم، لم تقنع أصحاب هذه الفكرة بالتخلي عنها بعد، مهما توالت عليهم الإحباطات والهزائم والصفقات المشبوهة، وجديدها صفقة ترامب - نتنياهو المعروفة بصفقة القرن. وأغلب الظن أنّ السبب في استمرار هذا الوهم قائمًا جهل هؤلاء أو تجاهلهم الفكر الصهيوني الموجِّه لقادة العدو، والمتحكّم بحركته السياسية، والمتفق عليه بين مختلف الاتجاهات الصهيونية المؤمنة بأنّ ثمة دولة واحدة يهودية تمتد بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. إضافة إلى أنه، وكما يُشاهد في كل التجارب الاستعمارية، حسب وصف فرانس فانون، يعمل الاستعمار على إيجاد قوى محلية ترتبط مصالحها بمصالحه. وكثيرا ما تكون هذه الفئات من القيادات التقليدية التي تخاف من القوى المجذّرة أكثر من خوفها من المستعمِر. فتبدأ هذه القيادات (على الرغم من حسن نية بعضها) بتبنّي خطاب المستعمِر بعد أن تقولبه، ليظهر بمظهر المدافع عن مصلحة الوطن، فتدعو إلى اللاعنف، لأن العنف لن يؤدّي إلى التحرير، وتدعو إلى التفاوض، لأنه السبيل الوحيد إلى الحرية، وتتجنب المواجهة، وتتبنى سياسات انتظارية، وتعد بمكاسب وهمية جزئية، لا تغير شيئا من المعادلة السائدة، لعلها تقوم مقام الإبر المسكنة والمخدرة لإرادة الشعوب.
ضمن هذا السياق، لم يقدّم الصهاينة عبر تاريخهم تنازلًا واحدًا. منذ حرب يونيو/حزيران
1967، لم يوافق الصهاينة على التنازل عن شبر واحد من الأرض الفلسطينية؛ رفضوا التنازل عن القدس والضفة الغربية للملك حسين، وفي “كامب ديفيد” واتفاق أوسلو، لم يكن هناك حديث سوى عن حكم ذاتي محدود على السكان، أو جزء منهم، من دون سيادة فعلية على الأرض، وفي ظل سيطرة صهيونية كاملة على مختلف مناحي الحياة. والمتمعن في خريطة دونالد ترامب يجد أنها لا تختلف كثيرًا عن تقسيم الضفة إلى مناطق ألف وباء وجيم في اتفاق أوسلو، فالصفقة كلها هي محاولة لتشريع أمر واقع وقائم على الأرض، ووضع القدس فيها بُني على ما عُرف باتفاق عباس – بيلين، وإسحاق رابين الذي ترحم عليه الرئيس محمود عباس، في خطبته أمام مجلس الأمن، أفشل خليفته وحليفه إيهود باراك مباحثات كامب ديفيد مع ياسر عرفات، ما اضطر عرفات إلى إشعال الانتفاضة الثانية، فقمعها باراك، ومن ثم حاصر عرفات في المقاطعة، ليأتي قانون الدولة اليهودية العنصري، فيوضح بجلاء نهاية ما رُوّج من أنّ إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وليُظهر بوضوح وجهها البشع نظام أبارتايد وتمييز عنصري.
مُنحت إسرائيل في صفقة القرن كل شيء؛ الأغوار، والمستوطنات، والسيطرة الأمنية والحياتية على جميع مقدّرات الشعب الفلسطيني، ولم يُطلب منها شيء. أما الفلسطينيون فأمامهم أربعة أعوام إضافية، شبيهة بالأعوام الخمسة الواردة في اتفاق أوسلو لبدء مباحثات الحل النهائي، والممتدة زمنا غير معلوم، لإثبات جدارتهم في الحفاظ على الأمن الإسرائيلي، والاعتراف بجميع ما فُرض عليهم من بنود في الصفقة، وقتال بعضهم بعضًا بحجة مكافحة الإرهاب، والقضاء على حركتَي حماس والجهاد الإسلامي، وأي منظمات قد توصف بالإرهابية، والاعتراف بإسرائيل دولة يهودية. وبعد هذه الأعوام، وإثبات حُسن سلوكهم وأهليتهم للعيش تحت سيطرة المستعمر الإسرائيلي، قد يُسمح لهم بالعيش في “دولة” مقطّعة الأوصال، تفصل بين أجزائها نقاط تفتيش تشبه المعابر الحدودية، وأنفاق وجسور مُسيطر عليها. أربعة أعوام هي الفترة اللازمة للكيان الصهيوني لإقامة روابط للمدن ترتبط بالعدو، وتدير المعازل الفلسطينية، بدلًا من روابط القرى التي حاول تأسيسها في سبعينيات هذا القرن، ويكون خلالها قد أنهى ضم الأرض المحتلة وابتلاعها، متعاملًا مع العرب المقيمين فيها أقلية تعيش في كانتونات، يسعى إلى الخلاص منهم، عبر التضييق عليهم وتهجيرهم خارج ديارهم.
تنهي صفقة ترامب - نتنياهو أي وهم ما زال قائمًا حول المفاوضات، مهما تغيّرت إطاراتها، أميركية أم أوروبية أم رباعية دولية أم مؤتمر دولي وهو الذي كان أصل الحكاية. كما أنها تدفن حل الدولتين، وتُنهي وجود السلطة الفلسطينية التي لم يعد العدو يريد منها سوى بعض أجهزتها الأمنية لتسخيرها في السيطرة على تلك الكانتونات المنفصلة، ولعل هذا ما سيبادر إليه العدو فور رحيل الرئيس محمود عباس، لسبب أو لآخر، وإن كان من غير المستبعد أن يلجأ إلى تنصيب بعض المدّعين بانتسابهم إلى التراث الوطني الفلسطيني، محاولًا الإيحاء بأنهم استمرار لتاريخ سبق، لكن حينها سيتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وهؤلاء لن يكونوا قادرين على منع بزوغ فجر جديد، ومصيرهم لن يكون أفضل من مصير حكومة فيشي في فرنسا، أو سعد حداد وأنطون لحد في جنوب لبنان، أو فصائل السلام وروابط القرى في فلسطين.
تنهي صفقة ترامب نتنياهو أي وهم حول المفاوضات/ واشنطن (28/1/2020/Getty)
لم يعد من المجدي انتظار تغيّر الظروف الدولية، ونتائج الانتخابات الأميركية أو الإسرائيلية، فهذه السياسة الانتظارية تعيق التصدي الفعلي لصفقة القرن، وتمنع وحدة الشعب الفلسطيني التي مزّقها اتفاق أوسلو، وتمنح المبرر لأنظمةٍ عربية على المضي بخطواتها التطبيعية، وتجهض النضال الشعبي ضد الكيان الصهيوني داخل الأرض المحتلة وخارجها، وتحول دون إحياء منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة بنائها.
بات الشعب الفلسطيني في أمس الحاجة إلى مشروع وطني جديد يجمع شتاته، ويوحّد قواه، ويقود نضاله، ويعيد بناء منظمته، ويحظى بالدعم العربي، ويوحّد جهود أحرار العالم إلى جانب قضيته العادلة.
نحو مرحلة جديدة
يتطلب ادعاء وجود حاجة إلى مشروع وطني جديد، وإمكانية تحقيقه، توفر عوامل رئيسة، منها:
1. فشل الاستراتيجية السائدة، وعدم قدرتها على تحقيق تقدّم أو إنجاز، واستسلام القائمين عليها للواقع المفروض عليهم، وفقدانهم القدرة والرغبة في إحداث تغيير فيه، أو الانقلاب عليه. ويتزامن ذلك مع تراجع التأييد الشعبي وانفضاضه من حولهم.
من الممكن ملاحظة تطوّر هذه المؤشرات عبر التاريخ الحديث، عندما فشلت حكومة عموم فلسطين، وتراجع نفوذ الهيئة العربية العليا وتأثيرها، وحين تراجعت الآمال المعلّقة بتحرير فلسطين عن طريق الأنظمة العربية، ويوم استُبدل ياسر عرفات أحمد الشقيري في قيادة منظمة التحرير، وما نشهده حاليًا من انهيار كامل لمرحلة أوسلو. هذه المؤشرات، كلٌ في وقته، دلّت على ضرورة بداية مرحلة جديدة تحمل في داخلها مشروعها.
2. تغير ملموس في البيئة الإقليمية والدولية يخلق فرصا لولادة استراتيجية جديدة. تميّزت التجربة الفلسطينية السابقة بوجود جهاتٍ عربية قادرة على توفير حاضنة للمشروع؛ أدّت مصر دورًا رئيسًا في مرحلتَي أحمد الشقيري وياسر عرفات في قيادة منظمة التحرير، كما أدّت سورية والجزائر ودول خليجية أدوارًا مهمة في بدايات الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة.
حاليًا، يلاحَظ ارتباكٌ في دور النظام العربي وأهميته، إذ يُظهر ضعفًا في قدرته على التأثير في مجريات الوضع الفلسطيني، إن سلبيًا أو إيجابيًا. تمثّل ذلك في عجز الرباعية العربية (مصر والأردن والإمارات والسعودية) عن فرض محمد دحلان على محمود عباس، حين أصدرت بيانها الشهير، ما عنى عجزها عن ترتيب البيت الفلسطيني لما بعد مرحلة عباس، على الرغم من محاولاتها الحثيثة.
مقابل ذلك، يشهد العالم متغيّرات تتعلق بانتهاء حالة ثنائية القطبين، أو هيمنة القطب الواحد، وتصاعد دور القوى الإقليمية في صوغ السياسات، وفرضها ضمن مناطق تأثيرها، ولعل المثل الواضح هنا يتعلق بالدور الإيراني والتركي في منطقتنا. وهل لنا أن نتخيل كيف كان سيكون حال بلادنا على مستوى الصراع مع العدو الصهيوني لو لم يحدث هذا المتغيّر (كما في حالة قطاع غزة)؟
وينبغي الانتباه إلى الدور المهم الذي يمكن أن يقوم به فلسطينيو الخارج، والشعوب العربية، في احتضان المشروع الوطني الفلسطيني، ما يشكّل قاعدة ارتكاز حقيقيه له، تتجاوز احتضان الأنظمة الرسمية، وتجعله بمنأى عن تأثيراتها.
3. وجود قيادة ثورية شابّة تتبنى هذا المشروع، وتؤمن بأنّ تحرير فلسطين يحتاج إلى جبهة وطنية عريضة، تنضوي تحت لوائها جميع القوى والتيارات والفصائل والأحزاب والمستقلين والشخصيات الوطنية المؤمنة بالثوابت الوطنية والمتمسكة بها.
4. تبلور مشروع عملي قادر على حشد مكونات الشعب الفلسطيني كافة، في الوطن والشتات، لإحداث التغيير المطلوب في مسار القضية الفلسطينية.
سمات المشروع الوطني
1. التمسّك بالرواية التاريخية للشعب العربي الفلسطيني في مقابل الرواية التاريخية الصهيونية، فعلى الرغم من جميع التنازلات التي قُدّمت منذ عام 1974، فإنّ أنصاف الحلول لم تؤدِ إلى إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية.
2. التأكيد على الثوابت الفلسطينية كما دُوّنت في الميثاق القومي والوطني.
3. المحافظة على وحدة الشعب الفلسطيني في الخارج وفي الوطن كله، بما فيه الأجزاء التي احتُلت في عام 1948، فهو مشروع يُعنى بالكل الفلسطيني، وليس بجزء منه.
4. الإيمان بأنّ الحل النهائي للقضية الفلسطينية لن يستقيم إلّا بدحر الاحتلال، وتفكيك نظام الأبارتايد الصهيوني، واستعادة الشعب الفلسطيني حقوقه كاملة، بما فيها حق العودة، متجاوزًا الجدل حول حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة أو الدولة ثنائية القومية. ذلك أنّ القضية الرئيسة هنا هي حقوق الشعب الفلسطيني كاملة في مناطق وجوده كلها، والتي ينبغي الاعتراف بها كاملة غير منقوصة، قبل أن تُقدّم الضحية حلولًا للجلاد.
5. إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية ككيان معنوي للفلسطينيين في كل أماكن وجودهم. تاريخيًا، قام فلسطينيو الخارج بالدور الرئيس في تأسيس هذا الكيان، وتفجير الثورة الفلسطينية المعاصرة، وبناء الحركة الوطنية الفلسطينية، بالتزامن مع تصاعد نضالات إخوانهم في الوطن المحتل. إلا أن منظمة التحرير، ومنذ اتفاق أوسلو، وضعت في ثلاجة الموتى، وازداد تهميشها يومًا بعد يوم، وسط رفض قيادة السلطة أي محاولة لإعادة بنائها.
ولمّا كانت التقديرات تقول إنّ دور السلطة ذاته يتراجع يومًا بعد يوم، فقد بات من الضروري العمل على إنقاذ منظمة التحرير، باعتبارها البيت الفلسطيني الذي يجب أن يضم الكل الفلسطيني في أماكن توزعه الجغرافي، بحيث تتمثّل فيها القوى والتيارات المتمسكة بالحقوق الفلسطينية كافة. ومن أجل تحقيق هذه المهمة، فإنّ حوارًا وطنيًا شاملًا ينبغي البدء فيه. كما يتطلب ذلك من أبناء حركة فتح المناضلين الثابتين على مبادئهم الثورية، ومن فصائل منظمة التحرير، وتحديدًا الجبهتين، الشعبية والديمقراطية، المبادرة إلى نزع ورقة التوت التي يتستر بها القابضون على مقدّرات منظمة التحرير، والرافضون لجميع مبادرات إعادة بنائها.
يتطلب تحقيق ذلك قوة شعبية كبيرة ضاغطة داخل الوطن المحتل وخارجه، ويمكن تحقيق ذلك، على سبيل المثال، من خلال الدعوة إلى انتخابات لاختيار أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، التزاما بالمادة الخامسة من النظام الأساسي للمجلس، وفي المناطق التي لا يمكن إجراؤها يتم إيجاد حلول تقنية باستخدام التكنولوجيا الحديثة، ويمكن أن تشارك الجاليات الفلسطينية في انتخاب ممثليها. وعقد مؤتمرات شعبية واسعة تضم الطيف الفلسطيني كله، وتفعيل الحوار بين مختلف القوى والفصائل. وفي فلسطين المحتلة منذ عام 1948، يمكن الدعوة إلى عقد انتخابات للجنة المتابعة العربية، وهو هدف قديم يجب تجديده لما فيه من إبعاد لشعبنا وقواه الحية عن شباك الأسرلة. وذلك كله يعني إيجاد قوة تمثيلية كبيرة تستطيع أن تفرض إعادة بناء منظمة التحرير، وأن تحافظ عليها كيانا وطنيا معنويا وتمثيليا للشعب الفلسطيني.
أين هي الحلقة المركزية؟
ثمّة حلقة مركزية في كل مرحلة ترسم المسار النضالي، فمن السعي إلى تغيير الواقع العربي، إلى ترقّب الوحدة، وحرب الجيوش العربية لتحرير فلسطين، وصولًا إلى الكفاح المسلح، وشعارات
“الحل النهائي للقضية الفلسطينية لن يستقيم إلّا بدحر الاحتلال، وتفكيك نظام الأبارتايد الصهيوني”
حرب الشعب طويلة الأمد، والانتفاضة الشعبية، ومن ثم الانكفاء نحو الحل المرحلي لإقامة السلطة الفلسطينية، واستبدال ذلك بالاعتراف بالعدو المحتل، وحماية وجوده عبر التنسيق الأمني معه، وإعلاء قيمة المفاوضات في الوصول إلى الأهداف الوطنية، ووصف ذلك بأنه المشروع الوطني الفلسطيني.
من البديهي أنّ أساليب النضال كلها، بما فيها الكفاح المسلح، هي أشكال مشروعة للنضال الفلسطيني، فمن حق الشعوب أن تناضل بمختلف الوسائل ضدّ مستعمريها، إلّا أنّ ثمة وجهًا رئيسًا للنضال في كل مرحلة، تحدّده معطيات الواقع وموازين القوى، وتجعل له الأولوية على ما سواه. ومن الأهمية بمكان التقاط الحلقة المركزية في كل مرة، من دون إغفال أشكال النضال الأخرى. ولا يعني تفضيل شكل على آخر إهمال غيرها، والتي قد تصبح أكثر أهمية في ظرف آخر، أو إدانتها.
متظاهر فلسطيني يرمي الحجارة على قوات الاحتلال الإسرائيلي عند السياج الحدودي مع غزة (6/12/2019/Getty)
للتدليل على ذلك، كانت المقاومة الشعبية الحلقة المركزية في الانتفاضة الأولى التي عُرفت باسم انتفاضة الحجارة، وتعني المقاومة الشعبية مشاركة الجماهير الواسعة في النضال عبر التظاهرات، والاعتصامات، والعصيان المدني، ولجان الحراسة، ومقاطعة البضائع وغيرها. ولنا أن نتخيّل لو أن أحد المناضلين مثلًا أطلق النار على قوةٍ صهيونيةٍ جاءت لتفريق تظاهرة من الأهالي الذين يواجهون هذه القوة بالحجارة والإطارات المشتعلة، فإنّ الجمهور سينفضّ ويذهب كل إلى بيته، ما دام الأمر قد تحوّل إلى اشتباكٍ مسلّحٍ بين نخبة ثورية وجيش الاحتلال، ذلك أنّ دور المجموعات المسلحة يجب أن يكون بعيدًا عن الحراكات الجماهيرية، وقد يتمثّل في ردع اعتداءات العدو في أماكن بعيدة عن تلك الحراكات. ينطبق ذلك أيضًا على المراحل التي سادت فيها العمليات الخارجية، لاعتبارات كان هدفها لفت أنظار العالم، لنخلص من ذلك كله إلى أنّ المهم هو اختيار الوسيلة النضالية الأنسب لتحقيق الأهداف المنشودة، مع الاهتمام بالضوابط السياسية والأخلاقية لها، وعدم اعتبار الوسيلة هي الهدف بحد ذاته.
النضال ضدّ نظام الأبارتايد الصهيوني
يشكّل النضال ضدّ نظام الأبارتايد والتمييز العنصري الصهيوني الحلقة المركزية في النضال الفلسطيني في المرحلة الراهنة، من أجل التحرير والعودة، وتفكيك الكيان الصهيوني، تمهيدًا لإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية حرّة، تتعايش فيها جميع الأديان.
يعمل نظام الأبارتايد الصهيوني المفروض على الشعب الفلسطيني كله، على مبدأ الاحتلال والطرد والتهجير والسيطرة، وتفتيت الشعب الفلسطيني، سياسيًا وجغرافيًا، لبسط السيطرة اليهودية وإدامتها، وتقويض الهوية الفلسطينية الجامعة ووحدتها. وتعبيرًا عن تمسّك المجتمع الصهيوني بالرواية التاريخية الصهيونية، تم إقرار قانون دستوري (أساس) ليهودية الدولة، ما يجعل من دولة الكيان الصهيوني النموذج العالمي الأخير لدول التمييز العنصري والأبارتايد.
طرد الصهاينة الفلسطينيين من أراضيهم، ومنعوهم من العودة إليها، ويسري هذا المنع حتى على
“يشكّل النضال ضدّ نظام الأبارتايد والتمييز العنصري الصهيوني الحلقة المركزية في النضال الفلسطيني في المرحلة الراهنة، من أجل التحرير والعودة، وتفكيك الكيان الصهيوني”
عودتهم إلى المناطق المحتلة في عام 1967. وفي اتفاق ترامب – نتنياهو، لن يُسمح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم كما هو منصوص عليه في القانون الدولي، ولن يسمح لهم بالعودة حتى إلى “الدولة” المزمع إقامتها إلا بأعداد محدودة توافق عليها إسرائيل. وسيُسمح فقط بتوطين اللاجئين في بلدان إقامتهم إضافة إلى توطين 50 ألف فلسطيني في دول منظمة التعاون الإسلامي، إذا ما وافقت هذه الدول على ذلك، سيُسمح بعودة 50 ألف فلسطيني فقط، بعد سنوات من الاتفاق، وعلى مراحل، من أصل نحو 6.5 ملايين فلسطيني خارج وطنهم إلى “الدولة” المزمع إقامتها. في حين يُسمح لأي يهودي في العالم، لكونه يهودي الديانة، بالحضور الفوري إلى فلسطين المحتلة. الطرد، والتهجير، والحرمان من حق العودة، واستبدال الفلسطيني بوافد غريب، كلها أشكال سافرة من نظام الأبارتايد والتمييز العنصري الصهيوني. لذا، فإنّ تعزيز دور فلسطينيي الخارج في إعادة بناء المشروع الوطني، وتمسّكهم بحقهم في العودة، ودعمهم أهلهم في الأرض المحتلة، وتعزيز علاقاتهم مع المنظمات الأجنبية المناهضة للأبارتايد والتمييز العنصري، ومساهمتهم في تحقيق عزلة هذا النظام، تُعتبر مكونات أساسية في هذه الحلقة المركزية.
وضمن السياسة ذاتها، يحتل الكيان الصهيوني أراضي الضفة الغربية، ويقوم بتجزئتها إلى كانتونات، ويقيم المستوطنات الخاصة باليهود، ويعيش المواطنون الفلسطينيون تحت القانون العسكري الإسرائيلي، وسط اعتداءات الجيش وهجمات المستوطنين، بينما يعاني سكان قطاع غزة من الحصار الخانق، والهجمات العسكرية المتكرّرة، ويندرج هذا كله ضمن سياسات نظام الأبارتايد الصهيوني التي يجب مقاومتها عبر العمل على دحر الاحتلال، والتأكيد على حق الشعب الفلسطيني في استخدام كافة أشكال المقاومة ضدّه، ودعم الانتفاضات والهبّات الشعبية. والعمل على رفع الحصار عن قطاع غزة، وتعزيز المقاومة فيه.
شعار دحر الاحتلال يعني إطلاق جميع الطاقات لمقاومته، وفي الوقت ذاته، يمكن أن توحّد الجهود، حتى مع الذين لا يزالون يؤمنون بحل الدولتين، فثمّة قاسم يجمعهم هو دحر الاحتلال خطوة أولى. كما يمكن تسويق هذا الشعار على المستوى الدولي بديلا لشعار حل الدولتين الذي يتمسك به المعسكر الأوروبي لتغطية موقفه المتردد والعاجز عن تأييد الحق الفلسطيني، فإنّ شعار دحر الاحتلال، وتفكيك المستوطنات، يعيد المسألة إلى أنّ هذه الأرض محتلة، وليست متنازعًا عليها، أو محلًا للتفاوض.
ويعاني المواطنون الفلسطينيون في فلسطين المحتلة عام 1948 من القهر والتمييز والإقصاء، في مواجهتهم يهودية الدولة، جوهر المشروع الصهيوني الذي يعمل على إبقائهم أقلية ديمغرافية غير قادرة على تحدي طبيعته اليهودية الصهيونية. نضال الفلسطينيين في هذه المناطق هو جزء أصيل، ومكوّن طبيعي من مكونات نضال الحركة الوطنية الفلسطينية، ويقع في صلب المشروع الوطني، ورأس حربة له، من أجل إقامة دولة فلسطينية واحدة على الأرض الفلسطينية كلها، بعد الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، وفي مقدمتها حق العودة، وتفكيك الكيان الاستعماري الصهيوني الجاثم على أرض فلسطين.
مشروع قومي عربي ودولي
مكافحة نظام الأبارتايد والتمييز العنصري الصهيوني ليس مشروعًا وطنيًا فلسطينيًا فحسب، بل هو مشروع قومي عربي ودولي في الوقت ذاته؛ على المستوى العالمي ينبغي تضافر الجهود لتعزيز حركات المقاطعة، وتقديم مجرمي الحرب الصهاينة للمحاكم الجنائية، وتحقيق عزلة دولية كاملة للكيان الصهيوني، شبيهة بالتي عاناها الكيان العنصري في جنوب أفريقيا عندما اقتربت نهايته، فالقانون الدولي لا يحاسب فقط مرتكب جريمة الأبارتايد والتمييز العنصري، بل يحاسب أيضًا الداعمين لها والصامتين عليها.
على المستوى العربي، الأمر يتجاوز ذلك، باعتبار مكافحة الأبارتايد الصهيوني جزءًا من حالة الربيع العربي التي ستستمر وتنتصر، وهي معركة أساسية في قلب العالم العربي الذي تحاول صفقة القرن إجباره على قبول الكيان الصهيوني جزءًا طبيعيًا منه، بل والدخول في حلف عسكري معلن معه، لمواجهة أعداء افتراضيين آخرين، في إعادة عالمنا العربي إلى سياسة الأحلاف الاستعمارية التي نبذها وقاومها في خمسينيات هذا القرن. لذلك، هي معركة تخص كل مواطن عربي من أجل الحفاظ على هويته واستقلاله وكرامته.
من شأن هذا المشروع المقاوم أن يعيد صهرنا في بوتقة جديدة تواجه ما يُخطط لأمتنا بأسرها، وتنسج بنضالها ومقاومتها أول خيوط نصر قد تأجل وطال انتظاره.