كثير من المراقبين تساءل عن دلالات تمديد وزير الخارجية الأمريكية جون كيري زيارته للمنطقة ليمضي ثلاثة أيام “مقاتلاً” على جبهة التسوية الفلسطينية - “الإسرائيلية” بأسلوب الحركة المكوكية بين العاصمة الأردنية عمّان والقدس المحتلة، ولم يفسّر أحد لماذا لم يشمل برنامجه رام الله، حيث اكتفى بلقاء الرئيس محمود عباس في عمّان . إذا كان هناك من يميل لاستنتاج جدوى و”ثمرة” لهذا الجهد الامريكي، فعليه ألا يستعجل، وأن يعود بذاكرته إلى الوراء ليجد أن كيري لم يصل إلى مستوى نشاط كوندوليزا رايس، ومع ذلك لم تتحقق أية نتيجة .
ينبغي الافتراض أن كيري يدرك مدى صعوبة مهمّته، وهو سمع بالتأكيد الإعلانات “الإسرائيلية” المتلاحقة عن مشاريع استيطانية . وهو يدرك أنه إضافة إلى كون الاستيطان عنصراً أساسياً في السياسية “الإسرائيلية” والمخطط الصهيوني، فإن توقيت هذه القرارات الاستيطانية وما يرافقها من تصعيد في حملات الاعتقال في الضفة، يحمل رسالة “أمر واقع”، وتحديد سقف لتحرك كيري .
لكن، ومع كل هذه المعطيات، فإن هناك ما يمكن الخشية منه، وهو استمرار مراهنة فريق التسوية في الجانب الفلسطيني على المنطق التفاوضي ذاته الذي فشل منذ أكثر من ثلاث وعشرين سنة تحت رعاية الوسيط الأمريكي غير النزيه وغير المحايد، بل المصطف إلى جانب “إسرائيل” في كل ما تقوم به وما تتبناه من مواقف، ولعل حجم التوسّع في الاستيطان وعمليات التهويد في القدس التي فاقت ما قامت به “إسرائيل” طيلة سنوات ما قبل مؤتمر مدريد والمفاوضات السرية التي تمخضت عنها اتفاقات أوسلو، يؤشر إلى أن “إسرائيل” لا تريد من المفاوضات سوى إيهام العالم أنها تسعى للسلام، في حين أنها لا تتوقّف عن مواصلة مشروعها الصهيوني في فلسطين والمنطقة العربية .
المخاوف التي تنتاب البعض من أن يعود الفريق الفلسطيني إلى المفاوضات تستند إلى تجارب سابقة، إذ حصل أن استؤنفت المفاوضات قفزاً فوق مطالب فلسطينية لم تتحقق . في هذه الأثناء، ثمة خشية من أن تفضي جولة كيري إلى بعض الإجراءات “الإسرائيلية” الشكلية لتبرير استئناف المفاوضات، وما قيل عن قيام السفارة الأمريكية في “تل أبيب” منذ نحو أسبوعين بجمع معلومات عن المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال منذ ما قبل اتفاق أوسلو، ربما يصب في خانة تقديم مبرر للعودة إلى المفاوضات .
ينبغي للفلسطينيين والعرب جميعاً، الاستفادة من التجربة الطويلة لهذه التسوية التي حملت منذ البداية بذور فشلها، إذ استندت إلى موازين قوى مختلة لمصلحة قوة الاحتلال والاستيطان والتهويد، وإلى رعاية أمريكا غير الفاعلة بسبب انحيازها، وبسبب استبعاد قرارات الشرعية الدولية كمرجعية حد أدنى للمفاوضات .
بعد كل هذه التجارب المريرة مع المشروع الصهيوني، ليس مبرراً مواصلة التعلّق بالوهم، فالحد الأدنى لنجاح التسوية، حتى بمنطق أصحابها، هو برنامج الإجماع الفلسطيني المتمثّل بإنهاء الاحتلال عن كل الأراضي المحتلة عام 6791 وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هجّروا منها، وليس هناك ما يشير إلى قابلية “إسرائيلية” للتجاوب مع هذه المطالب . من دون هذا، ستكون كل جهود كيري وغيره “حركة بلا بركة” .