السبت 30 أيلول (سبتمبر) 2017

الكرد في تاريخنا المعاصر

السبت 30 أيلول (سبتمبر) 2017 par أ.د. محمد الدعمي

الشعب الكردي هو واحد من أكثر شعوب المنطقة مسالمة وتمسكا بالتقاليد الإسلامية والقومية، ذلك أنه من الشعوب الجبلية التي بقيت طوال قرون محافظة على تقاليدها المتوارثة وعلى انعزالها البيئي ونقاء دمائها وسريرتها. كما أن كرد العراق لعبوا أدوارا طيبة وأساسية في بناء الدولة العراقية الحديثة، وفي تشكيل مجتمعها المتماسك، حيث كان للتصاهر والاختلاط أثر إيجابي في تشكيل المجتمع العراقي المتنوع الذي جعل من وجود الأكراد فيه مجتمعا مختلفا عما يجاوره من مجتمعات الدول العربية وغير العربية. وقد لعبت شخصيات كردية مهمة أدوارا رائدة في بناء صرح الثقافة العراقية، بل والعربية والإسلامية في الماضي والحاضر. ولم نزل نقف أمام مثل هذه الشواخص بكل احترام وتفاخر واعتزاز. ونتيجة لهذا النوع من التلاقح الثقافي والسكاني ظهرت، لأول مرة في التاريخ الشرقي، فئة من “الكرد المستعربين” الذين شكلوا جزءا رئيسا من سكان المدن العراقية الكبرى كبغداد والموصل. وكان هؤلاء كردا، ولكن أنصاف عرب كذلك، وبرز منهم من كبار الساسة والأطباء والأساتذة والمحامين والتجار العديد ممن شكلوا جزءا رئيسا مما يمكن أن نطلق عليه اليوم بـ”النخبة السراتية” العراقية.
وعلى الصعيد السياسي بالتحديد، يمكن للمرء أن يلاحظ هذا الاختلاط والتداخل الاجتماعي الصحي الذي أضفى عليه الكرد صفته الرائعة والجميلة. لقد عمل الأكراد بكل نشاط وذكاء بداخل الحركات السياسية والوطنية والديمقراطية حتى صارت بعض أسمائهم جزءا لا يتجزأ من تاريخ الحركة الوطنية في العراق. كما كان لبعض الأكراد “حصة الأسد” في تشكيل وإدارة الحكومات العراقية الناشئة منذ بدايات القرن الزائل، فكان منهم رؤساء الوزارات والوزراء والمحافظين وكبار الضباط. بل ويقال بأن أقوى شخصية في تاريخ النظام الملكي في العراق طوال 40 عاما، نوري باشا السعيد، إنما كان من أصول كردية. كما كان أقوى وزير داخلية حقبة ذاك رجل وطني كردي لم يزل يذكر من قبل العراقيين لشجاعته وحبه لوطنه، سعيد قزاز. حتى مؤسس الجمهورية العراقية، الزعيم عبدالكريم قاسم، كان نصف كردي، لأن والدته تنتمي عرقيا إلى هذه القومية الطيبة. ومن غرائب الأمور أن يبرز ساسة أكراد في الحركات القومية العربية التي تطالب بالوحدة العربية وبالاندماج العرقي بين القوميتين الرئيسيتين في العراق. حتى حزب البعث الذي حكم العراق لبضعة أشهر (عام 1963) ولعقود (من 1968 إلى 2003) كان يحتوي على “قادة” كرد: ومن هؤلاء الذين تسنموا قيادة هذا الحزب “علي صالح السعدي”، إضافة إلى طه الجزراوي وطه محيي الدين معروف، الرجل الثاني والثالث بعد الرئيس السابق، وهم أكراد كذلك. زعيم الحزب الشيوعي العراقي السابق، الأستاذ عزيز محمد، كان كرديا، كما كانت عليه الحال مع أعداد كبيرة من القيادات السياسية، في النظام وفي المعارضة، ناهيك عن أن الجيش العراقي كان زاخرا بعدد من الضباط الكرد الشجعان.
بيد أن شيئا غريبا قد حدث على سنوات الحرب العراقية الإيرانية العجاف، حيث أعفى الرئيس السابق الشبان الأكراد من الخدمة العسكرية. ثم ما لبث وأن أطلق حملات إعادة توطين، لم تستهدف المقاتلين الكرد، بقدر استهدافها لقرى ومدن، الأمر الذي مهد الطريق لتحويل كردستان العراق إلى جيب مستقل تحت حماية الدول الغربية. لقد تذوق الأكراد العراقيون، لأول مرة في التاريخ الحديث للكرد بالعالم، معنى الحرية والديمقراطية والوفرة بدرجة أنهم لم يعودوا قادرين على التخلي عن مثل هذه الخيرات والفضائل، المادية والاعتبارية، حتى بعد إزالة النظام السابق الذي مهد الطريق للتطلعات الانفصالية بنفسه، موجها قواته إلى دول الجوار بدلا من أراضي العراق. وهكذا اختلطت الأوراق بدرجة التعامي وغياب الرؤية الواضحة.
لقد استبشر العراقيون بوجود زعماء أكراد كبار في الحكومات العراقية المتعاقبة بوصفهم رموزا للوحدة الوطنية. كما لعب تعيين عدد من الشخصيات الكردية في مناصب قيادية ووزارية ذات الدور التماسكي المتسق. ولم يشر أحد من هؤلاء الزعماء الأكراد إلى المطالبة بشيء من الاستقلال، باستثناء دعوة الرئيس مسعود البرزاني إلى نظام فيدرالي ضمن النسيج الإداري الموحد للعراق. لهذا السبب يبدو “الاستفتاء” لتقرير المصير (أو الانفصال) ظاهرة غريبة للغاية: فمن ناحية أولى، إجراؤه وكأنه “تصويب لخطأ”، ذلك أن حكومة كردستان لا تملك صلاحية إجراء مثل هذا الاستفتاء، خاصة في إقليم “خارج” عن السيطرة المركزية لأكثر من عقد من الزمان، أي منذ سنة 2003. كما أن مثل هذا الاستفتاء (إذا ما أردنا استحضار التجارب العالمية السابقة) لا يمكن أن يكون مقبولا أو مباركا بدون إدارة الأمم المتحدة وبعد عمليات معقدة ومطولة وشائكة حول توثيق أعداد السكان وحملة الجنسية العراقية في إقليم مفتوح الحدود على ملايين الكرد الإيرانيين والأتراك، بل وحتى الروس. وبغض النظر عن الرفض الأميركي الضمني لفكرة الانفصال، فإنه من الضروري لإخواننا من أصحاب فكرة الانفصال أن يتذكروا بأن الأكراد في العراق لا يمثلون سوى 20% أو ربما أقل من عدد الأكراد في الدول المجاورة، الأمر الذي يجعل المطالبة بالانفصال نوعا من “إعلان الحرب” على تركيا وإيران وسوريا وما يتبقى من العراق. وبكلمات أخرى، لا توجد المقومات الكافية لقيام دولة كردية في منطقة جبلية كأداء وقليلة الموارد ولا تمتلك حتى منفذا واحدا على البحر. كما أن الفكرة لا تأخذ بنظر الاعتبار أن الانفصال وتأسيس دولة كردية مستقلة إنما يعني تأسيس دولة مجهضة حتى قبل الولادة لأنها في حالة حرب، خاصة وأن جميع دول الجوار تلوح بغزو الإقليم الكردي في حالة تبلور أحلام من هذا النوع. إن العراقيين جميعا يتمنون حالة موحدة قوامها التنوع العرقي على نحو مشابه لما هو موجود في سويسرا، حيث تعيش التنوعات العرقية في فردوس سلمي مستقر تسوده الحرية والديمقراطية. وإذا كانت هذه هي الرؤيا الوحيدة الممكنة والمقبولة ـ كما أرى ـ فإنه يتوجب على الجميع الدفع بهذا الاتجاه وتحاشي وضع العقبات في طريق بناء المستقبل المنتظر، بل ودون إراقة قطرة من الدم.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 97 / 2160483

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2160483 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010