السبت 31 كانون الأول (ديسمبر) 2022

“البِشْت” وانفلات الاستشراق العنصري

السبت 31 كانون الأول (ديسمبر) 2022 par لميس اندوني

كشفت ردات الفعل في الصحافة الغربية والإسرائيلية على إلباس أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، نجم كرة القدم الأرجنتيني الحائز لقب أفضل لاعب في العالم، ليونيل ميسّي “البشت” (العباءة العربية)، في بادرة تكريم يفهمها العرب وغيرهم كثيرون، وإن وجدنا من لم يفهمها أو لا يريد أن يفهمها بين بعض العرب، كشفت عن شلالٍ من العنصرية، يشرح كثيرا من مظاهر الاستعلائية في الإعلام الغربي.

الجيد أن الإهانات التي رماها بعض الكتاب الغربيين والإسرائيليين ليست الأكثر انتشارا في الصحف. ولكن، لا يمكن التقليل من مدى تأثيرها على المواطن الغربي. في المجمل، انتهى المونديال باعتراف واسع بنجاحه تنظيما وأجواء فرح وتعدّدية ثقافية، خصوصا أن تسهيلات الدخول إلى قطر أتاحت لأعداد كبيرة من العرب والأفارقة الوجود معا. وبالتالي، ليس الاستمتاع بالمباريات والاحتفالات فحسب، وإنما بالاختلاط مع مشجّعين غربيين ولاتينيين وآسيويين يجمعهم حبّ كرة القدم وحبّ الحياة.

ولكن، لا بد من الوقوف عند الاستشراق العنصري الذي رافق بدايات التحضير للبطولة إلى حفل الاختتام وما بعده، في التشكيك بقدرة دولةٍ عربيةٍ على تنظيم بطولة عالمية، مرورا بحملة استثنائية على صورة قطر. وليست المقصود قطر وحسب، وإنما أيضا أي دولة عربية مكانها، ما يعدّ دليلا على رفض الغرب التخلي عن شعوره بالتميز والتفوق، حصيلة عقود من التنميط الإثني ضد العرب والمسلمين، ويمتد ذلك ليشمل الهنود والصينيين وعرقياتٍ أخرى.

إلى زمن قريب، كانت عبارة “رؤوس المنشفة”، الرؤوس الملتحفة بمناشف الحمّام، تًطلق على من يلبس الحطّة أو الكوفية، وبالتالي على العرب. وأذكر ان ابنة أخي، المولودة في أميركا، لم تكن تُجاوز السادسة من عمرها، غضبت من مَدرستها الأميركية حين استعمل معلّم هذه العبارة، وفهمت أن هذا وصفها ووصف أهلها، فبكت واحتجّت، وطلبت من أهلها تقديم اعتراض شديد، واعتذرت المدرسة، لكن هذه العقلية بقيت عند كثيرين.

الاستهزاء من البشت الذي يعتزّ به العرب، وبخاصة أبناء القبائل، ويعتبر لباس وقار واحترام، يعكس عقلية النظرة إلى العرب بصفة “رؤوس المناشف”، وهي نظرةٌ تنمّ عن جهل كبير، ورفض ما هو مختلف، لكنها في حالة محاولة تتفيه “البشت” لم تكن تنم تماما عن جهل فقط، وإنما محاولة توظيف أفكار قديمة سائدة “لتقزيم” النجاح الباهر لمونديال قطر، وهي كذلك محاولة تكشف أيضا عن عاملٍ مهم في التعامل مع الشعب العربي والفلسطينيين بأنهم أدنى في قيمتهم الإنسانية من الغربي، وبالتالي، من إسرائيل التي تقدّم نفسها معسكرا للدفاع عن الغرب “من المتوحّشين غير الحضاريين”.

واستمرار الحملة، بالسخرية من البشت، دليل على أن المونديال في قطر نجح في إيصال صورة حضارية راقية، وبالتالي، لا يمكن فهم عناوين مثل “انتهى ميسّي لحظة ارتداء البشت” أو “كيف خطف العرب المونديال” (وكأنه حكرٌ على الغرب)، أو “نهاية صادمة للمونديال”. وهبطت صحيفة إسرائيلية إلى مستوى أدنى في مقال لكاتبة إسرائيلية نشرته صحيفة هآرتس، في 22 من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، عنوانه “المفاجأة أن الشخص الأكثر رجولة في العالم، ليون ميسّي، تم تحويله إلى امرأة” حين لبس البشت، مع صورة أمير قطر يساعده في هذا. وتفسّر هذه العقلية العنصرية، إلى حد لا بأس به، صور التعذيب والانتهاك وإهانة رجولة وإنسانية سجناء “أبو غريب” العراقيين! فمن ينسى صور السجّانة الأميركية وزملائها بعد أن أجبرت معتقلين في المعتقل على نزع ملابسهم تحت التهديد، والحبو على الركبتين، وكأنهم كلاب، وهو وضعٌ غير طبيعي للإنسان، واغتصابهم والعبث بأعضائهم الذكرية؟ مشهد مرعب لا يُمحى من الذاكرة.

ولكن لا بد من تذكّر سجن أبو غريب حين تتعمّد صحافية إسرائيلية عنصرية تشويه البشت، في إهانة لا تقصد بلدا بعينه، وإنما الثقافة العربية وثقافات مشابهة. ويبدو أن هؤلاء يفهمون الرجولة في استعمال ترسانات الأسلحة في غزو الشعوب واحتلال البلاد، فلا يمكنهم فهم بعد حضاري، ورمز ثقافي يتحدّى استعمارهم واحتلالهم فقط، بإظهاره على الساحة العالمية، يلبسه أحد أهم أبطال كرة القدم في تاريخها.

القصة مرّة أخرة ليست قطر، وإنما نجاح مونديال كانوا يريدون له الفشل، مونديال في بلد عربي، يرون به كل الدول العربية. الطريف أن تكريم ميسّي في لحظة تتويجه لم تكن أكثر من عادة عربية بالتكريم والاحترام، فلم يكن يدور ببال أحد أنها ستُؤخذ كأنها تحد للرؤى العنصرية، فلم تحدُث مثل هذه الضجة عند تقديم قبعة “السومبريرو” لنجم كرة القدم البرازيلي بيليه في مونديال المكسيك في عام 1970، فقد بدا رد الفعل الهستيري وكأن الغرب لم يلبس رجاله الأثواب في تاريخهم. ماذا، إذن، عن التنورة الاسكتلندية (الكيلت)، التي يلبسها الرجال في اسكتلندا بفخر واعتزاز، ويحق لهم ذلك، لكن ما رأيناه من تناقض تعبير صارخ عن نفاق الاستعلاء الغربي.

كما أن كل الحملة على رداء يفخر العرب بارتدائه كانت تهدف إلى تشويه لحظة جميلة لاقت تجاوباً من الأرجنتينيين وغيرهم، واعتبروها لحظة تتويج ليو ميسّي ملكاً لكرة القدم، وتزاحموا على شرائها ولبسها في اليوم الثاني، إذ لم يكن صعباً فهم مغزى إلباس ميسّي، الذي بدا مرتاحا في البشت. ومع أن الحملات لم تنجح في تشويه تلك اللحظة الجميلة، إلا أنها قد تكون غذّت العنصرية والنمطية في وسط تصاعد نفوذ اليمين المتطرّف في أميركا والعالم. والقصة ليست في الحملة على البشت وحدها؛ وإنما في تعامل أصوات مؤثّرة في الغرب مع المونديال وقطر منذ البدء.

مفهومٌ أن فوز قطر بأن تكون مضيفة مونديال 2022 سلط الضوء عليها، ويمكن أن نفهم أن دور منظمات حقوق الإنسان هو كشف النواقص والانتهاكات، فواجبنا وبقوة العمل على إعلاء حقوق الإنسان في العالم العربي، لكن التوظيف العنصري واستعمال حقوق الإنسان سلاحاً في استهدافٍ متعمّد أمر مرفوض. الأسوأ هو حين يبدأ من تبرير غزو الشعوب وارتكاب المجازر وتدمير العراق واحتلال فلسطين ومن صمت على معسكر غوانتنامو، حين يبدأ بإلقاء الدروس “الأخلاقية”، وهو لا يملك الحق بذلك.

لا يعني ذلك التخلي عن دورنا في الدفاع عن حقوق الإنسان، فقد بثّ فينا مونديال قطر الأمل في عالم أفضل، فالخيار ليس بين الخضوع لاستشراق عنصري وللانغلاق، فالدفاع عن تراثنا، والبشت أو القمباز الفلسطيني أو أي لباس تراثي ليس انغلاقاً، بل هو ينمّ عن احترامنا أنفسنا، وبالتالي دافع لاحترام باقي الشعوب وثقافاتها وتراثها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2184563

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع لميس اندوني   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2184563 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40