الأحد 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2021

أوهام في العمل الفلسطيني (7-8)

الأحد 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2021 par محسن صالح

ناقشنا في حلقات سابقة 12 وهماً في العمل الفلسطيني، ونناقش في هذا المقال وهمين آخرين.

الوهم الثالث عشر: تأخر الإسلاميين عن المشاركة في المقاومة المسلحة:

يتهم البعض التيار الإسلامي بغيابه عن المقاومة الفلسطينية المسلحة لعقود، وأنه جاء متأخراً بعد انطلاقة حركة حماس سنة 1987؛ وبعد أن حملت القوى الوطنية واليسارية العبء الأكبر لعشرات السنوات.

يخلط هؤلاء ويفصلون عن عمد أو عن جهل بين التيار الإسلامي وبين الإخوان المسلمين وبين حماس. فالتيار الإسلامي “الحركي” الفلسطيني أوسع من الإخوان وأوسع من حماس، ومقاومته المسلحة هي الأقدم والأعرق في التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر. وحماس لم تنشأ من فراغ، والمقاومة المسلحة لتنظيم الإخوان الذي نشأت عنه وتنتمي إليه تعود على الأقل إلى حرب 1948؛ مما تجعله أقدم تنظيم عامل في ميدان المقاومة، وإن شهد فترات من التقطّع كما شهدت التيارات الأخرى.

تعود أولى حركات المقاومة المسلحة الفلسطينية التي تحمل طابعاً إسلامياً إلى مطلع 1919، مع بدايات الاحتلال البريطاني لفلسطين. وكانت هناك جمعيتان سريتان؛ الأولى جمعية “الكف الأسود” التي نشأت في كانون الثاني/ يناير 1919 والتي أصبح اسمها “الفدائية” في شهر أيار/ مايو 1919، وكان لها فروع في يافا والقدس وغزة ونابلس وطولكرم والرملة والخليل واستمرت حتى 1923. وكان زعيمها الذي تدين له بالولاء الحاج أمين الحسيني، ابن مدرسة الدعوة والإرشاد التي كان يديرها العلامة محمد رشيد رضا. وسيكون الحاج أمين بعد ذلك مفتي فلسطين (1921)، ورئيس المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى (1922)، وموجهاً وراعياً للانتفاضات من وراء ستار، ثم قائداً للثورة بعد نزوله للميدان (1936). والجمعية الثانية هي جمعية الإخاء والعفاف التي كان خلفها العلماء، وخصوصاً علماء القدس، وكان يرأسها الشيخ سعيد الخطيب، وفي قيادتها الشيخ محمد يوسف العلمي والشيخ حسن أبو السعود وغيرهم.

يخلط هؤلاء ويفصلون عن عمد أو عن جهل بين التيار الإسلامي وبين الإخوان المسلمين وبين حماس. فالتيار الإسلامي “الحركي” الفلسطيني أوسع من الإخوان وأوسع من حماس، ومقاومته المسلحة هي الأقدم والأعرق في التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر. وحماس لم تنشأ من فراغ، والمقاومة المسلحة لتنظيم الإخوان الذي نشأت عنه وتنتمي إليه تعود على الأقل إلى حرب 1948

وهناك حركة رائدة أخذت شكل التنظيم الإسلامي الحركي هي حركة “الجهادية” التي أنشأها الشيخ عز الدين القسام سنة 1935، والتي بدأت بالمشاركة المسلحة منذ ثورة البراق 1929، غير أن إعلان انطلاقتها كان في تشرين الثاني/ نوفمبر 1935، بعد أن نظمت ودربت سراً نحو ألف من الأعضاء والأنصار، وهي الحركة التي فجرت شرارة الثورة الكبرى في فلسطين في 15 نيسان/ أبريل 1936، بالعملية العسكرية التي نفذها الشيخ فرحان السعدي الذي خلف الشيخ القسام في القيادة بعد استشهاده؛ وهي الحركة التي أطلقت المرحلة الثانية من الثورة الكبرى عندما اغتال أعضاؤها أندروز، الحاكم البريطاني للواء الجليل، في 26 أيلول/ سبتمبر 1937. وقد قادت جماعة القسام أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى، وخصوصاً في مرحلتها الثانية، مناطق شمال ووسط فلسطين.

أما منظمة “الجهاد المقدس” بقيادة عبد القادر الحسيني، التي نشطت خصوصاً في مناطق القدس والخليل، والتي كانت برعاية المفتي الحاج أمين، فقد انسجم فيها الوعاء الوطني مع الروح الإسلامية؛ في تعبير صادق عن الروح الإسلامية المعتدلة المنفتحة للوطنية الفلسطينية المقاومة. وشارك فيها مقاومون مسيحيون، وقدم عبد القادر الحسيني ورفاقه نماذج بطولية كبيرة في الثورة الكبرى وفي حرب 1948.

من جهة أخرى، فإن جماعة الإخوان المسلمين التي تشكَّل تنظيمها الفلسطيني في أربعينيات القرن العشرين، قد شاركت بفعالية في حرب 1948. وعندما انتهت الحرب لم يُلقِ الإخوان المسلمون السلاح، وأعادوا تنظيم أنفسهم في تنظيم عسكري سري في قطاع غزة، خصوصاً في الفترة 1952-1954، برعاية الإخوان المصريين، وبقيادة وإشراف كامل الشريف (وقد سبق أن نشرنا دراسة حول هذا العمل). ولذلك، كان تنظيم الإخوان من أوائل من أطلق العمل العسكري المقاوم بعد حرب 1948، إلى جانب بعض مجموعات المقاومة التي كان يرعاها المفتي الحاج أمين.

كان واضحاً أن حركة فتح خرجت من بيئة الإخوان الفلسطينيين، وخصوصاً تنظيمهم العسكري، وتركزت عضويتها وتجنيدها على أفراد الإخوان في سنواتها الأولى؛ حيث نحت منحى وطنياً بعد أن قام نظام عبد الناصر بضرب تنظيم الإخوان ومطاردتهم

وقد كان واضحاً أن حركة فتح خرجت من بيئة الإخوان الفلسطينيين، وخصوصاً تنظيمهم العسكري، وتركزت عضويتها وتجنيدها على أفراد الإخوان في سنواتها الأولى؛ حيث نحت منحى وطنياً بعد أن قام نظام عبد الناصر بضرب تنظيم الإخوان ومطاردتهم، حتى تتمكن من متابعة المقاومة بعيداً عن حالة العداء للإسلاميين.

ولعل القارئ يعلم الخلفية الإخوانية لخليل الوزير (أبو جهاد)، وعبد الفتاح حمود، وصلاح خلف (أبو إياد)، ويوسف عميرة، وكمال عدوان، ومعاذ عابد، وحمد العايدي، وهاني الحسن، وسليم الزعنون، ورياض الزعنون، ومحمد يوسف النجار، ورفيق النتشة، وأبي هشام المزين.. وكثير غيرهم.

أضعفت المطاردات الشرسة للإخوان، وصعود التيارات اليسارية والقومية، من قدرة الإخوان والتيارات الإسلامية على العمل المقاوم، مما أدخلهم في مرحلة من الكمون والمحافظة على النفس، منذ منتصف الخمسينيات وحتى أواخر الستينيات. غير أن الإخوان عادوا للمشاركة بفعالية في العمل المقاوم من خلال معسكرات الشيوخ (1968-1970) بالتنسيق مع حركة فتح.

ويبدو أن التيار الإسلامي الفلسطيني، أراد أن يؤسس حالة تنظيمية وشعبية قوية عميقة الجذور تستطيع الصمود والاستمرار عند الدخول في العمل العسكري المقاوم؛ ففضلوا التريّث في الوقت الذي نشطوا فيه دعوياً وتربوياً واجتماعياً ونقابياً. وهو تريُّثٌ لم يرضَ عنه عدد من شباب الإخوان؛ فقام الدكتور فتحي الشقاقي وعدد من رفاقه بتأسيس حركة الجهاد الإسلامي (1980)، لتصبح هذه الحركة أحد أبرز قوى المقاومة المسلحة الفلسطينية منذ ذلك الوقت وحتى الآن.

يبدو أن التيار الإسلامي الفلسطيني، أراد أن يؤسس حالة تنظيمية وشعبية قوية عميقة الجذور تستطيع الصمود والاستمرار عند الدخول في العمل العسكري المقاوم؛ ففضلوا التريّث في الوقت الذي نشطوا فيه دعوياً وتربوياً واجتماعياً ونقابياً. وهو تريُّثٌ لم يرضَ عنه عدد من شباب الإخوان

من ناحية أخرى، قام أبناء الحركة الإسلامية من فلسطينيي 1948 بإنشاء “أسرة الجهاد” أواخر سبعينيات القرن العشرين، برعاية الشيخ عبد الله نمر درويش، وقيادة فريد أبو مخ وعدد من رفاقه، ونفذوا العديد من العمليات. غير أن الاحتلال الإسرائيلي تمكن من ضربها، واعتقال الكثير من أفرادها.

وفي أوائل الثمانينيات أنشأ الشيخ أحمد ياسين تنظيماً عسكرياً في قطاع غزة، غير أن سلطات الاحتلال تمكنت من ضربه، ومن اعتقال الشيخ أحمد ياسين وعدد من رفاقه 1984. وقد أفرج عن الشيخ أحمد في صفقة تبادل الأسرى في السنة التالية.

لذلك، فإن ظهور حركة حماس 1987 هو استمرار لمسيرة طويلة من العمل الإسلامي الفلسطيني المقاوم، الذي لم يتوقف على مدار المائة سنة الماضية.

الوهم الرابع عشر: إطلاق حركة فتح للرصاصة الأولى سنة 1965:

كما لاحظنا في مناقشة الوهم السابق، فإن المقاومة الفلسطينية المسلحة أصيلة وعميقة الجذور في التاريخ الفلسطيني الحديث؛ وقد قام رجالها بمواجهة الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني منذ البداية. ونشأت تنظيمات مسلحة سبقت انطلاقة حركة فتح بأكثر من أربعين عاماً. وانطلقت رصاصات أبطال المقاومة في ثورات القدس (1920)، ويافا (1921)، والبراق (1929)، والقسام (1935)، والثورة الكبرى (1936-1939)، وحرب فلسطين (1948).

وقد يجادل مؤيدو فتح بأن المقصود بالرصاصة الأولى هو الثورة التي تلت نكبة حرب 1948؛ غير أن (كما أشرنا) العمل المقاوم لم يتوقف بعد النكبة، فنشأ التنظيم العسكري للإخوان في قطاع غزة في النصف الأول من الخمسينيات، وقام بعدد من العمليات، وكان في قيادته خليل الوزير وعدد من رفاقه ممن أنشأوا فتح لاحقاً.

وحتى إذا كان المقصود بالرصاصة الأولى فترة الستينيات، فقد كانت هناك تنظيمات فلسطينية انشغلت بالعمل الفدائي أو التحضير له، مثل فرع فلسطين في حركة القوميين العرب الذي شكّل في أيار/ مايو 1964 “الجبهة القومية لتحرير فلسطين”، ومارس العمل الفدائي، وقدّم أول شهدائه في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1964 قبيل انطلاقة الجناح العسكري لفتح بنحو شهرين. كما أطلقت “جبهة تحرير فلسطين” عملها العسكري في منتصف 1965.

ثمة تجاهل في الأدبيات الفلسطينية للعمل المقاوم في الفترة 1949-1956، حيث نفّذ أفراد فلسطينيون ومجموعات صغيرة الكثير من العمليات. وتعترف التقارير الإسرائيلية بعشرات الآلاف من الاختراقات الحدودية، كان جزء منها مرتبطاً بالعمل المقاوم

ومن الناحية التاريخية، ثمة تجاهل في الأدبيات الفلسطينية للعمل المقاوم في الفترة 1949-1956، حيث نفّذ أفراد فلسطينيون ومجموعات صغيرة الكثير من العمليات. وتعترف التقارير الإسرائيلية بعشرات الآلاف من الاختراقات الحدودية، كان جزء منها مرتبطاً بالعمل المقاوم. كما تعترف هذه التقارير بمقتل نحو 280 إسرائيلياً مدنياً، ونحو 260 جندياً إسرائيلياً في الفترة نفسها، حيث قُتل عدد كبير منهم على يد رجال المقاومة، أو من تسميهم التقارير الإسرائيلية “المتسللين”.

تمتلئ أدبيات حركة فتح بأنها أطلقت الرصاصة الأولى، حتى بدا وكأن ذلك بديهية لا تقبل النقاش. ونحن هنا معنيون ابتداء بإثبات الحقائق التاريخية، وحركة فتح لن تخسر كثيراً بالتخلي عن هذا الادعاء، فما هو أهم أنها عندما أطلقت رصاصتها استمرت دونما توقف، وعملت في أجواء وظروف صعبة وقاسية. وقد نجحت فتح في التعبير عن هموم الإنسان الفلسطيني العادي “غير المؤدلج”، كما قادت المشروع الوطني، وحافظت على شعبية واسعة على مدى عشرات السنوات. وكانت العمود الفقري للمقاومة المسلحة حتى منتصف الثمانينيات، وشاركت بفعالية في الانتفاضات الفلسطينية، وما زال أسراها هم الأكثر عدداً في السجون الصهيونية.

ومن ناحية أخرى، فيجب التنبيه إلى أن عدداً من منتسبي فتح يستخدمون هذه المقولة في التوظيف السياسي، بشكل يلغي أو يقلل من دور الآخرين، ويحاول أن يعطي الشرعية لمن أطلق هذه الرصاصة للتحدث باسم الفلسطينيين وتمثيلهم أو لإسكات الخصوم والناقدين والمنافسين؛ خصوصاً بعد أن تبنت فتح مسار التسوية السلمية وتولت قيادة السلطة الفلسطينية.. وهو ما أشرنا إليه في مقال سابق.تحدثنا في المقالات الماضية عن 14 وهماً، واليوم نختم بوهمٍ أخير:

الوهم الخامس عشر: تحرير فلسطين بعيداً عن الإسلام:

إذا كانت أرض فلسطين أرضاً إسلامية، وشعبها شعبٌ مسلم، وانتماؤها الحضاري والثقافي انتماء إسلامياً، وحاضنتها الشعبية مسلمة، وبيئتها الاستراتيجية مسلمة، فمن الطبيعي أن تكون هوية مشروع التحرير هوية إسلامية. وأولئك الذين يريدون إبعاد الإسلام عن مشروع التحرير يقعون في وهم كبير، لأنهم يكونون كمن يفصل الروح عن الجسد، وكمن ينزع عناصر الطاقة ومحركات العمل من القوى الفاعلة على الأرض.

وقد يقول قائل إن صفة “عربية” تنطبق أيضاً على ما سبق، فتقول إن هذه الصفة تؤكد مقولتنا، فهذه الصفة ارتبطت بالإسلام فتحاً وانتشاراً ولغة وتعريباً وحضارة، والفاتحون “العرب” حملوا رسالة الإسلام وانتموا إليها، فاستظلت بظلها الشعوب والقوميات الأخرى، في انفتاح وتفاعل حضاري يستوعب الجميع في أمة واحدة تحت راية الإسلام العظيم. وكانت وما زالت هوية فلسطين العربية جزءاً طبيعياً منسجماً ومتناغماً مع هويتها الإسلامية الأوسع.

إذا كانت أرض فلسطين أرضاً إسلامية، وشعبها شعبٌ مسلم، وانتماؤها الحضاري والثقافي انتماء إسلامياً، وحاضنتها الشعبية مسلمة، وبيئتها الاستراتيجية مسلمة، فمن الطبيعي أن تكون هوية مشروع التحرير هوية إسلامية

طبيعة الأرض:

أرض فلسطين ليست كأي أرض، فهي أرض مقدسة مباركة، وهي أرض الأنبياء وأرض المسجد الأقصى، وأرض الإسراء؛ وهي في قلب العالم الإسلامي وقلب العالم العربي. وهي التي تميزت بأنها أرض الصراع بين الحق والباطل عبر التاريخ، حيث يحسم أهل الحق المعركة لصالحهم في النهاية في كلّ مرة؛ وسيستمر ذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولذلك، لم يكن غريباً أن يجعل الله سبحانه مقام الطائفة المنصورة الثابتة على الحق في هذه الأرض “بيت المقدس وأكناف بيت المقدس”. فطبيعة الدور الذي تميزت به هذه الأرض كـ“ساحة جهاد” يقتضي وجود هذه الطائفة في هذا المكان، وأبرز صفاتها أنها “ثابتة على الحق” وأنها “لا يضرها من خذلها ولا من خالفها”؛ وهو ما يقتضي سلامة المنهج وإسلامية المنهج.

ضبط الثوابت والمسارات:

أرض فلسطين التي فتحها عمر رضي الله عنه واكتسبت هويتها الإسلامية منذ أكثر من 1400 عام، ودخل أهلها في دين الله أفواجاً وتعرّبت لغتهم، صارت أرض وقف إسلامي على جميع أجيال المسلمين في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم إلى يوم القيامة. ولا يجوز لأحد كائناً من كان أن يتنازل عن أي جزء منها مهما كان صغيراً؛ لأنها ليست للفلسطينيين أو العرب فحسب، بل هي ملك للمسلمين جميعاً.. وعلى المسلمين في كل مكان أن يقدموا أموالهم ودماءهم لتحريرها، بعد أن أصبح ذلك من فروض العين.

وهوية فلسطين الإسلامية تضبط الثوابت، كما تضبط البوصلة والمسارات؛ وتضبط أسقف ومساحات العمل الوطني، ومجالات المناورة والبرامج المرحلية؛ فلا مجال للعبث بالحق الكامل في فلسطين الكاملة من نهرها إلى بحرها، ولا مجال للاعتراف للمحتلين الغاصبين بأي شرعية أو حقّ لهم على أي جزء من فلسطين.

القضية المركزية للأمة:

وعندما يتعلق الأمر بقضايا التَّحرر والصراع مع أعداء الأمة والاستعمار، فإن قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة الإسلامية؛ ليس فقط لمكانتها الدينية والاستراتيجية، وإنما أيضاً لكون المشروع الصهيوني مشروعاً عالمياً عدوانياً، مدعوماً بقوى كبرى غربية إمبريالية، ويتّخذ من فلسطين قاعدة لإضعاف الأمة وتمزيقها ومنع نهضتها. وبالتالي، تكون فلسطين والقدس والأقصى القضية الجامعة للأمة، والموحدة لبوصلتها ضدّ عدوها المركزي المشترك، وتكون الرافعة لنهضة الأمة وقوتها لأن تحرير فلسطين لا يتم دون ذ

هوية فلسطين الإسلامية تضبط الثوابت، كما تضبط البوصلة والمسارات؛ وتضبط أسقف ومساحات العمل الوطني، ومجالات المناورة والبرامج المرحلية؛ فلا مجال للعبث بالحق الكامل في فلسطين الكاملة من نهرها إلى بحرها، ولا مجال للاعتراف للمحتلين الغاصبين بأي شرعية

لك؛ كما أنها الفاضحة الخافضة لمن يخذلها ويتخلى عنها.

لقد كان حصر قضية فلسطين في الإطار القومي العربي ثم في الإطار الفلسطيني، ثم في فصيل فلسطيني وقيادة متنفذة في منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية؛ أحد أبرز الكوارث في التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر. ولذلك، فإن جانباً أساسياً في إدارة الصراع مع العدو أن تسترجع القضية جوهرها الإسلامي، إلى جانب أبعادها الوطنية والعربية والإنسانية، بشكل متناغم فعَّال.

خطوط عمل متوازية:

إنّ الحديث عن توسيع دائرة الصراع مع العدو إلى الدائرة الإسلامية لا يعني انتظاراً لقيام الخلافة أو لتحقيق الوحدة الإسلامية، أو تضييعاً وتمييعاً للمسؤولية تجاه فلسطين؛ لأن العمل لفلسطين والعمل للنهضة والوحدة الإسلامية هما عملان متوازيان متكاملان، يمكن أن يسيرا جنباً إلى جنب، ويكون أحدهما رافعة للآخر، دون أن ينتظر أحدهما الآخر أو يُعطّله. غير أن استعادة الصراع مع العدو هويته الإسلامية شرط أساس في شعور أبناء الأمة بالمسؤولية وقيامهم بالواجب، دونما مَنّ أو أذى من أي مسلم؛ وفي المقابل دونما حواجز “قُطرية وطنجية” من أي فلسطيني يريد أن يستفرد بفلسطين ومصيرها على هواه؛ ويتعامل مع الآخرين وفق حاجته، أو كضيوف أو كمجموعات خدمات. فالمسلمون جزء حيوي من الجسد المقاوِم والمُحرِّر، والفلسطينيون هم أبناء الثغر وأهل الرباط، والأثقل في المسؤولية وأداء الواجب، وهم رأس الرمح وهم الصف الأول.

الإسلام هو الأقدر على حشد الجماهير:

إن الإسلام هو الأقدر على حشد الجماهير وتعبئتها وتفجير طاقاتها، وتقديمها للتضحيات. وإن انسجام الفلسطيني (والعربي والمسلم) مع نفسه وعقيدته وثقافته وتراثه، مكوّنٌ أساس في استنهاض الهمم والتضحية بالروح والمال. فهو عندما يؤمن أن النصر من عند الله، وأن الله تكفل بالنصر لعباده الصادقين، وأن فلسطين بقدسيتها وبركتها وأقصاها ومسراها جزء من دينه، وأنه مؤتمن عليها باعتبارها وقفاً للأمة ولأجيال المسلمين، وأن صموده ومعاناته تتحول إلى أجر وحسنات، وأن انتصاره عز للأمة وكرامتها، وأن استشهاده يرفعه إلى الفردوس الأعلى... فعند ذلك لن تجد أيديولوجية لها من الطاقة والحيوية ما لهذا الإسلام العظيم من قدرة وتأثير.

رصيد التجربة التاريخية:

ولذلك، فإن التجربة التاريخية أثبتت أن تحرير فلسطين ارتبط بالإسلام، منذ الفتح العمري مروراً بالحروب الصليبية ومواجهة التتار إلى وقتنا المعاصر.

لقد فشلت الأيديولوجيات المختلفة التي هيمنت على البيئة العربية والفلسطينية في تاريخنا الحديث، سواء كانت يسارية أم قومية أم قُطرية منغلقة، في أن تقود مشروعاً حقيقياً للتحرير؛ وما زلنا ندفع أثمان مُرَّة للهيمنة الرسمية لهذه الأيديولوجيات.

فشلت الأيديولوجيات المختلفة التي هيمنت على البيئة العربية والفلسطينية في تاريخنا الحديث، سواء كانت يسارية أم قومية أم قُطرية منغلقة، في أن تقود مشروعاً حقيقياً للتحرير؛ وما زلنا ندفع أثمان مُرَّة للهيمنة الرسمية لهذه الأيديولوجيات

وبالرغم من أنَّ الاتجاه الإسلامي حُورب بشراسة في المنطقة، وحُرم من وسائل النهضة والتمكين، خصوصاً في البيئة الاستراتيجية المحيطة بفلسطين، فإن الإسلام ظلّ المُحرِّض الرئيس (أو محرضاً رئيساً على الأقل) في ثورات الشعب الفلسطيني ومقاومته وانتفاضاته طوال المائة عام الماضية، بدءاً من انتفاضة القدس 1920، مروراً بهبَّة البراق 1929، وثورة القسام 1935، والثورة الكبرى 1936-1939، ومنظمة الجهاد المقدس، وحرب 1948، والمقاومة في النصف الأول من خمسينيات القرن العشرين، ومعسكرات الشيوخ 1968-1970.. وصولاً إلى الجهاد الإسلامي وحماس، والانتفاضة المباركة 1987-1993، وانتفاضة الأقصى 2000-2005، وحروب غزة.. وغيرها. ومنذ أكثر من عقدين، فإن المقاومة الإسلامية الفلسطينية تمثل العمود الفقري لقوى المقاومة المسلحة في فلسطين.

لا تعارض مع الأبعاد الوطنية والعربية:

ولا تتناقض الرؤية الإسلامية للتحرير مع الأبعاد الوطنية والقومية العربية؛ فالمسلمون أشد إخلاصاً لأوطانهم، فهم مع وطنية الحب والشوق والحنين للأرض، ومع وطنية العزة والكرامة والتحرير، ومع وطنية المجتمع القائم على التعاون والتكافل والتراحم. وفوق ذلك، فإن الحفاظ على الأرض وبذل الدماء والأموال في سبيل تحريرها من الأعداء جزء من عقيدتهم ودينهم.

ولا ينبغي أن يكون ثمة تعارض بين الدائرة العربية والدائرة الإسلامية، فالعرب هم مادة الإسلام، وهم في واقعهم المعاصر وبأغلبيتهم الساحقة مسلمون (بنحو 95 في المائة). وأكثر ما يجمع العرب هو دينهم، ولغتهم التي حفظها القرآن وتراثنا الإسلامي. ومشاريع الوحدة العربية يمكن أن ينظر لها بإيجابية باعتبارها خطوة باتجاه الوحدة الإسلامية، ما دامت تعبّر عن إرادة الشعوب، ومنفتحة لا تقوم على العصبيات والعقليات الإقصائية، ولا على دكتاتورية الأقليات أو الانقلابات العسكرية.

ولذلك، فإن دوائر العمل لفلسطين، سواء كانت وطنية أم عربية أم إسلامية أم إنسانية، هي دوائر متكاملة؛ وينبغي أن يتم تفعيل عناصرها الإيجابية في مشاريع النهضة والتحرير.

دوائر العمل لفلسطين، سواء كانت وطنية أم عربية أم إسلامية أم إنسانية، هي دوائر متكاملة؛ وينبغي أن يتم تفعيل عناصرها الإيجابية في مشاريع النهضة والتحرير

مشروع نهضوي مستوعب للأقليات:

كثيراً ما يثير دعاة الأيديولوجيات الأخرى، ورافضو الرؤية الإسلامية، مسألة الأقليات؛ وأن رفع الراية الإسلامية يستثنيها.

وابتداءً، فإن الحل الإسلامي ليس حلاًّ طائفياً ولا عنصرياً ولا انعزالياً. وهو لا يعني ظلماً أو تهميشاً للأقليات، ولا يعني إكراهاً في الدّين؛ بل هو مشروع حضاري نهضوي يتسم بالانفتاح والمرونة، واستيعاب كافة الشرائح والقوى الساعية للإسهام في مشروع التحرير، والتي ستأخذ مواقعها بحسب إخلاصها وكفاءتها.

وثانياً، فما دام الإسلام هو الجامع الأساس للشعب الفلسطيني وللعرب وشعوب الأمة التي تزيد عن مليار و800 مليون، وهو القاسم المشترك الأكبر بين الجميع؛ فلماذا يتم استبعاده لصالح أيديولوجيات لا تجمع أنصاف أو أرباع أو أعشار ما يجمعه الإسلام؟!

وباستخدام القياس ذاته، لماذا (وفق المنظور القومي) يتم تجاوز أبناء القوميات الأخرى في المنطقة العربية كالأكراد والأمازيغ والأفارقة والتركمان، وكلهم مسلمون (ولسانهم عربي)، ونسبتهم أعلى من نسبة أبناء الطوائف والأقليات الأخرى؟

وثالثاً، لماذا يتم الاستغناء عن أكبر قوة دافعة ومحرضة ومُوحّدة للتحرير؛ لصالح أيديولوجيات فشلت في أن تستخرج هذا المخزون الهائل من الطاقة والحيوية في الأمة على مدى السبعين عاماً الماضية؟

لماذا يتم الاستغناء عن أكبر قوة دافعة ومحرضة ومُوحّدة للتحرير؛ لصالح أيديولوجيات فشلت في أن تستخرج هذا المخزون الهائل من الطاقة والحيوية في الأمة على مدى السبعين عاماً الماضية؟

وحتى من ناحية براجماتية عملية، فمن المفترض على المخالفين في الأيديولوجيا أو المختلفين في الدّين، أن يفسحوا المجال للإسلام ورجاله، ما دام ذلك يصب بشكل أفضل في مشروع التحرير.

ثم إن مسيحيي فلسطين (منذ العهدة العُمرية) ومسيحيي الشرق، من ناحية رابعة، اندمجوا في الحضارة الإسلامية وشاركوا في بنائها، وعاشوا أجواء الحرية والتسامح على مدى التاريخ الإسلامي. وأسهموا بقوة في مواجهة الحركة الصهيونية بالكلمة والقلم والبندقية، وعملوا دونما حساسية تحت قيادة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، وقاتلوا ضمن تشكيلات “الجهاد المقدس” بقيادة عبد القادر الحسيني. وكانوا وما يزالون جزءاً أساسياً من الحركة الوطنية الفلسطينية، وانتخب الكثير منهم حركة حماس لأنها أصدق في التعبير عن تطلعاته وفي مواجهة الاحتلال.

ومن ناحية خامسة، فلا ينبغي الاستشهاد بما استجد على الساحة الإسلامية من اتجاهات وتنظيمات متعصبة للمطالبة باستبعاد الاتجاه الإسلامي؛ لأن الاتجاه العام الساحق في فلسطين والعالم الإسلامي هو اتجاه معتدل متسامح منفتح؛ ولأن الأديان والأيديولوجيات الأخرى فيها من المتعصبين والمتطرفين مثلما يوجد في الحالة الإسلامية أو يزيد، ولا عبرة بالاستثناءات والحالات الشاذة.

تحقيق لوعد الله بالنصر:

من جهة أخرى، فإن تحرير فلسطين مرتبط في الرؤية الإسلامية باستكمال شروط النصر والتمكين، من: حسنِ صلةٍ بالله، وإعداد عناصر القوة “عباداً لنا أولي بأس شديد”؛ والنهوض الحضاري، والمشروع الوحدوي خصوصاً في البيئة الاستراتيجية المحيطة بفلسطين، والقيادة المؤمنة الصادقة، والجاهزية للتضحية والعطاء، وتثبيت أهل فلسطين في أرضهم ودعم صمودهم، والبنى المؤسسية الفعّالة، والقدرة على استيعاب الجميع في مشروع الوحدة والعودة والتحرير.

ويأتي ضمن هذه الرؤية تحقيق لوعد الله بالنصر والتحرير كما جاء في فواتح سورة الإسراء، وكما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأخيراً، فلا ينبغي لأبناء التيار الإسلامي، وخصوصاً من أبناء فلسطين، أن يترددوا أو يتلجلجوا أو يخجلوا من طرح رؤيتهم الإسلامية بقوة، وأن يقوموا بتنزيل هذه الرؤية على “المشروع الوطني الفلسطيني”. وإن الكلام في الشراكة الوطنية لا يعفيهم من طرح تصوراتهم المستندة إلى هويتهم ورسالتهم؛ كما لا ينبغي أن تضيع هويتهم في “مرقة” الكلام عن الوحدة الوطنية (الحفاظ على الكليشيهات، والضياع في التفاصيل). وعليهم أن يُقدِّموا رؤيتهم كرافعة للعمل الفلسطيني، وكمخرج من الأزمة التي تعانيها الأيديولوجيات والمسارات الأخرى، وأن يُقدِّموا خريطة طريق لمشروعهم الإسلامي النهضوي في الوحدة والعودة والتحرير.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2184598

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع د.محسن صالح   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2184598 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40