تعيش البلاد منذ أيام وضعاً خطيراً أقلق كل الجزائريين وجعلهم يضعون أيديهم على قلوبهم خوفاً من الانزلاق نحو الفتن والفوضى..
في غرداية، تجدّدت أعمال العنف بعد أسابيع قليلة من “الهدنة”، وعادت الأمور إلى المربع الأول، وعرفت المشادّة هذه المرة استعمال الأسلحة النارية بشكل لم يسبق له مثيل، وقُتل أحدُ الشبان بطلق ناري، وأصبح الجرحى يسقطون بالعشرات، وهو مؤشر خطير لمدى التدهور الذي بلغته المنطقة.
وفي نفس الولاية خرج مئاتٌ من رجال الشرطة في مظاهرة غير مسبوقة احتجاجاً على أوضاعهم المهنية والاجتماعية، وفي اليوم الموالي توسّعت رقعة مظاهرات الشرطة لتشمل العاصمة ومدناً أخرى...
وبقدر ما أذهلت المظاهرات ملايين المواطنين الذين استغربوا كيف تنتقل عدوى الاحتجاجات إلى سلك الشرطة النظامي، فقد بعثت الخوف في نفوسهم أيضاً؛ فحينما يقوم رجال الشرطة بمظاهرات فهذا يعني أن الأوضاع على غير ما يُرام، فهل كان أكثر الجزائريين تشاؤماً يعتقد أن الشرطة، التي عادة ما تُكلّف بقمع المظاهرات “المحظورة” في العاصمة بقرار سياسي تعسّفي، سيفيض بها الكيل وتتحدّى هذا الحظر وتخرج للتظاهر في العاصمة بنفسها؟
وفي الوقت نفسه، تتفاقم الاحتجاجاتُ الشعبية ومسلسل غلق الطرقات بمختلف أنحاء الوطن، كما تهدّد بعضُ نقابات التربية بالعودة إلى الإضرابات، وتكثر الاحتجاجات لدى مختلف الفئات المهنية للمطالبة بتحسين أوضاعها الاجتماعية والمهنية، في حين تستمرّ أسعار النفط في سقوطها الحرّ بشكل ينذر بدخول البلد في أزمة اقتصادية ومالية جديدة قد تكون أخطر من أزمة 1986 التي كان من نتائجها الوخيمة وقوع أحداث 8 أكتوبر 1988.
المشكلة أن كل هذا يحدث في ظل تواصل غياب الرئيس بوتفليقة بسبب المرض الذي أقعده عن المتابعة الحثيثة اليومية لمختلف شؤون البلد كما كان الأمر في سنوات الصحة والعافية.. الرئيس مريضٌ اليوم ومُقعَد ولا يستطيع النزول إلى غرداية والاجتماع بعقلائها وأعيانها أو إلقاء خطبة شعبية على سكّانها لتهدئة الخواطر والنفوس، وإخماد الفتنة التي عجز عن حلها سلاّل وغيرُه من المسؤولين الذين نزلوا إلى هذه المنطقة المضطربة منذ ديسمبر 2013..
حينما كان الرئيس ينعم بالصحة والعافية في بداية حكمه، قام بجولات ماراطونية إلى أغلب ولايات الوطن في ظرف 21 يوماً في إطار حملته لإقناع الجزائريين بالتصويت بنعم لمشروع الوئام المدني، وأقنعهم فعلاً بخطاباته العصماء الطويلة، وأعاد الكرّة بعد سنوات مع مشروع المصالحة الوطنية، واستطاع بذلك تحجيم العنف إلى مستوياتٍ دنيا.. أما اليوم فالرئيس لا يستطيع حتى القيام بجولةٍ صغيرة في العاصمة أو إلقاء خطبة للشعب لتهدئة النفوس.
ما يجري الآن هو ثمرة ٌ مرّة لإصرار النظام الحاكم على ترشيح بوتفليقة لعهدةٍ رابعة برغم كل الاعتراضات وتصاعد التحذيرات من عدم قدرته، وهو على كرسي متحرّك، على إدارة بلدٍ يتخبّط في أزمات عديدة مستعصية.
كان واضحاً منذ البداية أن الرئيس غير قادر على أداء مهامه بهذه الكيفية إلى غاية أفريل 2019، ولكن النظام حاول إقناعَ الناس بأن “الرئيس يعمل برأسه وليس برجليه”، فأين هو الآن والبلاد تغلي والفتن النائمة استيقظت والأخطار تهدّد البلاد على حدودها الجنوبية والجنوبية الشرقية والاحتجاجات تمتدّ حتى إلى الأسلاك النظامية؟
بغض النظر عن خلفيات ما يحدث (...)، فقد أثبتت الأحداث الأخيرة مدى حاجة البلاد إلى رئيس قويّ، معافى، دائم الحضور، ليتمكّن من حلّ معضلاتها المتفاقمة وتمكينها من اجتياز كل الأخطار بسلام.