فجأةً، ظهر محمد دحلان بعد طول اختفاء أو احتجاب؛ ولقد أَطلَّ علينا “إعلاميًّا”، متحدِّثًا عمَّا يُبْحَث في “الغُرَف المغلقة”، التي فيها يتفاوض الفلسطينيون والإسرائيليون.
قال دحلان إنَّ “مَحْضَر اجتماع” سُرِّب إلى بعض وسائل الإعلام، وإنَّ وزير خارجية الولايات المتحدة، والوسيط في المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، جون كيري كَتَبَ فيه أنَّ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس “وافق على استئناف التفاوض (مع إسرائيل) مع استمرار النشاط أو البناء الاستيطاني”، وأنَّ ما حَمَل عباس على ذلك (أو على هذا التراجع الكبير) هو استشعاره صعوبة أنْ يُوْقِف نتنياهو النشاط الاستيطاني من غير أنْ يُعرِّض ائتلافه الحاكم لخطر التفكُّك والسقوط.
إنَّه ليس بالأمر الذي يعد “اكتشافًا جديدًا” أنْ نقول إنَّ الصِّلة بين ما يسمَّى “مفاوضات السلام” وبين “الاستيطان” قد جَعَلها الضعف التفاوضي الفلسطيني “صلةً سببية”؛ فكلَّما كَثُر التفاوض، كَثُر الاستيطان؛ وكلَّما كَثُر الاستيطان، كَثُر التفاوض؛ ولا نهاية لهذه “المأساة ـ المهزلة” إلاَّ بالتأسيس لـ“مفاوِض فلسطيني قوي” من طريق مقاومة شعبية فلسطينية قوية ومنظَّمة.
“الواقع نفسه”، وقبل تسريب “المَحْضَر” إلى الإعلام، أحاطنا عِلْمًا بمفاوضات اسْتُؤنِفَت ـ وما زالت مستمرة ـ مع استمرار النشاط الاستيطاني؛ فإنَّ الولايات المتحدة ـ وبمعونة حلفائها وأصدقائها، وبعضهم من العرب ـ قد نفثت في روع السلطة الفلسطينية ـ التي لديها من الضعف ما يجعلها في قرارها وخيارها أقل استخذاءً لذكائها ـ أنَّ مفاوضها نتنياهو يسقط مع حكومته إذا ما أوْقَف النشاط الاستيطاني، وأنَّه خير لها وأجدى أنْ تحل نهائيًّا مشكلة الاستيطان من طريق الحلِّ التفاوضي لمشكلة الحدود، والذي من مبادئه أنْ يستمر الاستيطان في أراضٍ كانت “فلسطينية محتلة”، فأصبحت “إسرائيلية”، بفضل “تبادل الأراضي”.
“مفاوضات السلام” مستمرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ويُزْعَم أن مدارها “قضايا الحل النهائي جميعًا”؛ فلا قضية مستثناة، أو تُؤجل، أو تُرحل؛ ولا بد للطرفين من أنْ يتوصلا، هذه المرة، إلى اتفاق على كل شيء؛ فلا “انتقالية ـ أو مرحلية” ـ في “الحلول”، وإنما في “تنفيذ” و“تطبيق” الحلول، التي لن تَخْرُج إلى الوجود إلا بطابعها “النهائي (الدائم)”.
وإن أول ما اتفَق عليه “الطرفان” و“الوسيط (أو الراعي)” هو أنْ يستعينوا على قضاء حوائجهم بالكتمان الإعلامي؛ فدخول الإعلام إلى “القاعة”، أو خروجهم منها إليه، قد يُفْسِد كل شيء، ويذهب بكل تَقَدُّم أُحْرِز، أو أوشكوا أنْ يحرزوه. وهذا إنما يعني أن التفاوض يَحْمِل طرفيه على قَوْل وقبول أشياء ليس من “الحكمة السياسية” بثها ونشرها الآن.
كلا الطرفين المتفاوضين يحتاج إلى “غطاء سياسي شعبي” يتغطى به حتى دخوله إلى قاعة المفاوضات، وبعد خروجه منها؛ ولقد كان “وَقْفُ إسرائيل لكل نشاط استيطاني لها في الضفة الغربية، وفي القدس الشرقية على وجه الخصوص” هو “الغطاء” الذي أصر (أو طالما أصر) عليه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس؛ لكن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو رأى في استمرار هذا النشاط خير غطاء يتغطى هو به؛ فتفتق ذهن “الوسيط” عن “حل” لهذا “النزاع”، الذي طالما أعاق وعرقل وأحبط جهود ومساعي استئناف المفاوضات. وكان هذا “الحل” أنْ يتغطى نتنياهو بغطاء “الاستمرار في النشاط الاستيطاني”، وكأنْ لا وجود لـ“مفاوضات السلام”، على أنْ يتغطى عباس بغطاء آخر، هو “إفراج إسرائيل (على دفعات) عن معتقلين فلسطينيين”؛ وكأن عباس يريد أنْ يقول لشعبه، ولكل مَنْ يَقِف ضد عودة الطرف الفلسطيني إلى مائدة المفاوضات، مع استمرار (وتزايد) النشاط الاستيطاني، وعدم وجود مرجعية للتفاوض مقبولة فلسطينيًّا، ولو على مضض، إننا نذهب إلى مفاوضات لا نثق كثيرًا بجدواها، وكفة فشلها ما زالت تَرْجَح على كفة نجاحها؛ لكن ما الضيْر منها، ومن ذهابنا إليها، إذا ما استطعنا الإفادة منها في الإفراج عن بعضٍ من أسرانا؟!
إن الاستذراع بهذا “الأمْر الإنساني”، وهو الإفراج عن بعضٍ من المعتقلين الفلسطينيين الذين طال أمد وجودهم في السجون الإسرائيلية، يمكن أنْ يأتي للمُسْتَذْرِع بشيء مِما يشبه “التواطؤ الشعبي” معه.
“الصفقة”، التي توسط لإتمامها وعقدها وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري، جَعَلَت “المفاوِض الفلسطيني الذي يبتغي تحرير الأسرى من طريق استمراره في التفاوض” أسيرًا لهذه المفاوضات، التي يفهمها نتنياهو على أنها تحرير للنشاط الاستيطاني من كثيرٍ من قيوده؛ فإسرائيل أعلنت وأكدت أنها لن تُفْرِج عن معتقلين فلسطينيين لديها إلا على دفعات، وأن “عدم انسحاب المفاوِض الفلسطيني من المفاوضات” هو شرطها للاستمرار في الإفراج عنهم.
ولو بَسطْنا الأمْر، وهو في واقعه أبْسَط مِما يبدو عليه في “العبارة الدبلوماسية”، لقُلْنا إن “الصفْقة” هي أنْ يستمر النشاط الاستيطاني في مقابل الاستمرار في الإفراج عن بعضٍ من المعتقلين الفلسطينيين؛ وإلا ما معنى أنْ تقول إسرائيل إن استمرارها في الإفراج عن هؤلاء المعتقلين مشروط باستمرار الفلسطينيين في التفاوض، الذي في مناخه يستمر (ويتزايد) النشاط الاستيطاني؟!
ولقد أَتَت تجربة التفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهي الأطول والأكثر عبثية في تاريخ التفاوض السياسي، بما يقيم الدليل أن التفاوض يأتي بمزيدٍ من الاستيطان، الذي، بتزايده، يأتي بمزيدٍ من التفاوض، الذي يُشْحَن، ويُعاد شحنه، بمزيدٍ من الاستخذاء الفلسطيني للتَعَنُّت الإسرائيلي.
المفاوضات سيئة، وسيئة جدًّا، من وجهة نظر الحقوق القومية للشعب الفلسطيني؛ لكن سبب سَوْئِها لا يكمن في “الشخص (الفلسطيني) المفاوِض”، والذي لا نُنْكِر سَوْءَه؛ وإنَّما في “الواقع الفلسطيني السيئ”، والذي هو جزء من واقع عربي يزداد سَوْءًا؛ ولو جئنا بأعظم مفاوِض في العالم، وفي التاريخ، ليُفاوِض عن الفلسطينيين، أو باسمهم، لَمَا جاءنا بأعظم كثيرًا ممَّا جاءنا به “المفاوض الفلسطيني”، بكل شخوصه.
الجمعة 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013
هل تخلَّى المفاوِض الفلسطيني عن مطلب وقف الاستيطان؟
الجمعة 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013
par
جواد البشيتي
مقالات هذا المؤلف
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
22 /
2194868
ar أقسام الأرشيف أرشيف المقالات ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
19 من الزوار الآن
2194868 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 19