مفارقات السياسة اللبنانية لا تنتهي، وكلها في واقع الأمر تشير إلى أن الأمور في هذا البلد لم تستتب، ومن المرجح أنها لن تستتب على المدى المنظور، ولا سيما أن الخلافات مترسخة في واقع المجتمع الذي يرفع شعار «العيش المشترك» أو «التعايش المشترك». غير أن معطيات كثيرة تدفع إلى استغراب هذا الشعار الذي قد يكون من غير الممكن تطبيقه، أو أن الحديث عن تطبيقه يندرج من باب الدجل السياسي والاجتماعي.
النموذج الأساس لمثل هذا الواقع هو السادس عشر من سبتمبر (أيلول)، تاريخ مجزرة صبرا وشاتيلا الشهيرة التي نُفّذت في العام 1982. اللبنانيون في المطلق يتجنّبون الحديث عن منفذي هذه الجريمة، على اعتبار أن «المصالحة» تجبّ ما قبلها. غير أن مثل هذه المصالحة التي لا تقوم على إقرار بالذنوب من المستحيل أن تستمر. في العام الحالي كانت المفارقة واضحة في إحياء الذكرى. ففيما كان الكثير من اللبنانيين والفلسطينيين والعرب والأجانب يحيون الذكرى الثامنة والعشرين للمجزرة، كان هناك لبنانيون في مكان آخر من البلاد يحتفلون بذكرى مناقضة. كان الاحتفال بذكرى اغتيال بشير الجميل، الذي كان المسبب الأساس لارتكاب المجزرة بأيد لبنانية ورعاية «إسرائيلية». وإحياء ذكرى الاغتيال هي بشكل غير مباشر احتفاء بمنفذي الجريمة، حتى وإن لم يكن هذا هو العنوان العريض للأمر.
صيف وشتاء تحت سقف واحد. احتفالان متناقضان تماماً يؤشران إلى الواقع اللبناني المتناقض، والذي ينسحب على مجموعة أخرى من الأمور لا تقف عند حدود الاحتفال بذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا أو ذكرى اغتيال بشير الجميل. «حزب الله» وسلاحه أيضاً واقع تحت بند التناقض اللبناني الذي لا يُجمع أطرافه على نقطة واحدة. السلاح الذي يشكّل مصدر طمأنينة وفخر لطرف ما على الساحة اللبنانية، هو في الوقت نفسه مصدر خوف وقلق لطرف آخر لا يألو جهداً لشن انتقادات عنيفة على هذا السلاح.
الأمر نفسه بالنسبة لـ «إسرائيل» وتوصيفها كعدو. فرغم ما يقوله السياسيون في المناسبات العامة، إلا أنه في بعض المحطات المفصلية تفلت زلات عن قصد أو غير قصد تعطي صورة أخرى عن واقع الدجل السياسي. النائب سامي الجميل في حديثه الأخير عن «عدم الخجل» من التحالف مع «إسرائيل» يناقض كل ما قيل في السابق عن تلاوة فعل الندامة عن تلك المرحلة.
هذه بعض العينات من بلد التناقضات التي لا تنتهي، على أمل أن يبقى التناقض في إطار التصريحات السياسية فقط.