تأمّل العجوز القروي طويلاً حفنة من الشباب يتبادلون المجرفة لحفر قبر لشخص مات . بعد صمت مطبق ساد طوال عملية الحفر، رفع ذقنه من على مقبض عكّازه وأشار به نحو القبر والحفّارين، وقال: سيأتي يوم يدفع فيه ذوو الميّت أجرة عمال الحفر، بعد أن تندفن هذه العادة الطيّبة . بضع سنوات مرّت وجاء ما توقّعه إذ أصبح ذوو الأموات يستأجرون حفّاراً آلياً للحفر والدفن، ومن لا يملكون تكاليف “عرس الموت”، فمضطرون للقيام بالمهمّة بأنفسهم .
لم يعش العجوز إلى اليوم الذي يقرأ فيه تقريراً عن فقراء بريطانيا الذين لا يستطيعون تحمّل تكاليف جنازات أفراد عائلاتهم هذا العام، مع توقّعات بارتفاع تكاليف الموت، بما في ذلك الجنازة والدفن أو الحرق، وهي تكاليف تقترب من ثمانية آلاف جنيه إسترليني، بزيادة مقدارها 7 .1 في المئة عن العام الماضي، وبزيادة في فقر الجنازات قدرها ثمانون في المئة خلال عشر سنوات .
وحتى لو عاش العجوز إلى هذه الأيام، فإنه لن يكترث كثيراً لحال الجنازات في بريطانيا أو الولايات المتحدة، ليس لأنه يفتقد الإحساس الإنساني، بل لأن ما يراه في الواقع العربي لا يبقي مساحة من الانتباه إلى ما وراء البحار . سيلقي بالاً إلى الأطفال الذين قتلهم الفوسفور الأبيض أو تحت أنقاض منازل دمّرها القصف “الإسرائيلي” أو تبادل إطلاق النار بين “فتح” و“حماس” في غزة . هنا لا يصبح لتفاصيل الجنازة معنى، ولا يبقى من جدوى للسؤال عن عمر الضحية أو اسمها بقدر ما يصبح الاهتمام منصبّاً على كيفية الموت وهوية الضحايا القادمين .
ما الذي كان العجوز ليقوله لو رأى ما نراه اليوم؟ لا حاجة للدفن الفردي لأن الضحايا بالجملة، ولا حاجة للحفّار الآلي طالما أن الطائرات وقذائف الهاون البارعة في العشوائية والسيارات المفخّخة تتكفّل بالموت والحرق والدفن معاً . كان عليه أن يقول: سيأتي يوم يصبح فيه اقتناء الطفل درّاجة محظوراً لأن هناك من يفخخ درّاجات الطفال، ويضحى شراء رضّاعة الحليب نوعاً من النشاطات المحظورة، لأن مهندسي الموت قد يحشونها بالمتفجّرات . كان عليه أن يقول: سيأتي يوم يكون فيه الذهاب إلى المدرسة والصيدلية والمخبز في اتجاه واحد، لأن هناك موتاً شطب من الخريطة طريق العودة .
هل يكترث سكان مخيم اليرموك من اللاجئين الفلسطينيين والسوريين لجنازات الفقر في بريطانيا؟ هذا إن كان لديهم من الوسائل ما يمكّنهم من معرفة ما يجري في العالم . لن يسأل العجوز عن مدى قدرة الميّتين جوعاً على تحمّل تكاليف دفن الضحايا، لأن سؤالاً كهذا سيبدو ساذجاً ومضحكاً، إذ لو كان لديهم تكاليف الدفن لاشتروا بها طعاماً فتأجل موتهم لسبب غير الجوع .
في هذا الزمن المعولم، لم تعد الحياة مكلّفة، بل الموت أيضاً . الفقير يعيش عبئاً على نفسه والمسؤولين عنه، ويموت عبئاً على ذويه والمسؤولين عنه . غريب أن تنشغل دول “متحضّرة” بأبحاث ومسوح عن تكاليف الموت الطبيعي ولا تبحث في الموت قتلاً بلا قتال، ولا عن أناس يدفنون أنفسهم أحياء بلا تكاليف، بل يقبضون أجرة الدفن .
الخميس 23 كانون الثاني (يناير) 2014
مجانية الموت وفقر الجنازة
الخميس 23 كانون الثاني (يناير) 2014
par
أمجد عرار
مقالات هذا المؤلف
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
18 /
2197595
ar أقسام الأرشيف أرشيف المقالات ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
19 من الزوار الآن
2197595 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 20