مشهد طرد الوفد الفلسطيني من بلغاريا قبل يومين يعيد إلى الأذهان ما فعلته بريطانيا مع رئيس “مؤسسة الأقصى” رائد صلاح قبل نحو السنتين حين زار المملكة المتحدة بدعوة من فعاليات بريطانية، ودخل من بوابات مطار هيثرو وأمضى ثلاثة أيام قبل أن يفعل الضغط “الإسرائيلي” فعله ويدفع السلطات البريطانية إلى اعتقال الضيف القادم من فلسطين النازفة منذ سبعين عاماً بخنجر بلفور البريطاني المسموم، علماً أن “إسرائيل” التي اتخذ القرار البريطاني كرمى لعيونها، لم تعترض ابن مدينة أم الفحم لدى مغادرته المطار .
الآن تأتي بلغاريا وتكرّر الفعل المعادي لأبسط حقوق الإنسان الفلسطيني، وهنا ينبغي أن يتنبّه الفلسطينيون والإعلاميون إلى أن هذا الإجراء البلغاري هو اعتداء على وفد فلسطيني، ومن الخطأ وضيق الأفق تصويره باعتباره استهدافاً لوفد حمساوي، ومن المؤكّد أن الخطوة كانت ستتخذ لو كان الوفد من أي فصيل فلسطيني، إلا إذا كان ذاهباً إلى هناك في مهمة تفاوضية أو تطبيعية علنية أو سرية، ففي هذه الحالة يكون كل شيء منسّقاً عبر “إسرائيل” . ما فعلته بلغاريا إهانة لكل الشعب الفلسطيني، فلا يخطئن أحد أو يضيّع البوصلة . وإذا كانت بريطانيا اعتقلت رائد صلاح قبل ترحيله، فإن بلغاريا قامت بما يشبه الاعتقال، إذ نقلت أعضاء الوفد بسيارة أمنية إلى المطار، لأن قرار الطرد كان ذا طبيعة فورية .
منذ الإطلالة الأولى لأي فلسطيني، كان يسمع من القادمين من خارج الوطن أن الفلسطيني الذي يزور بلغاريا أو يدرس فيها، كان يشعر بأنه في وطنه الثاني . حالة وجدانية تتملّك شعب هذه الدولة الشرقية تجاه الشعوب المناضلة من أجل انتزاع حريتها من بين أنياب المستعمرين . من المستبعد تماماً أن تكون هذه الحالة الوجدانية التضامنية قد تبخّرت بعد انهيار النظام الاشتراكي في هذا البلد، لكن الحكومة اليمينية التي تحكمه الآن تزايد حتى على الولايات المتحدة كحليف أول للكيان الصهيوني .
التبرير الرسمي الذي صدر عن بلغاريا بأن ثلاثة برلمانيين فلسطينيين دخلوا البلاد من بابها وبدعوة من داخلها، يشكلون تهديداً للأمن البلغاري، يشبه النكتة أكثر مما يقترب من المنطق الدبلوماسي . لكن الرواية البلغارية فيها من الوضوح ما يكفي، فهي تعترف بأن أعضاء الوفد وصلوا شرعياً بدعوة خاصة، لكنها تدّعي أنه خلال وجودهم “توافرت” معلومات بأن وجودهم يشكّل تهديداً جديّاً للأمن الوطني .
ليست هناك معلومات ولا أي شيء من هذا القبيل، وكان من الأفضل لبلغاريا أن تكون أكثر جرأة وصراحة في تفسير سلوكها غير اللائق مع الوفد الفلسطيني، وأن تعلن على سبيل المثال أن إمكاناتها وقدراتها أقل بكثير من أن تتحمّل غضب “إسرائيل” والولايات المتحدة . لو أصدرت بلغاريا مثل هذا التفسير الصريح، لأمكننا تفهّم الخطوة، لاسيما أنه لا يخفى على أحد أن الدويلات التي تساقطت من شجرة الاتحاد السوفييتي تعيش على الفتات الأمريكي