الخميس 2 آب (أغسطس) 2012

صراع على قمة النظام العالمي

الخميس 2 آب (أغسطس) 2012 par د. محمد السعيد ادريس

الأمر الذي لا شك فيه أن الكيان الصهيوني لا يمكن أن يكون بعيداً أو محايداً تجاه أي حدث أو تطور له وزنه وقوته داخل أي دولة عربية، لأسباب كثيرة أولها أن الانحياز «الإسرائيلي» هو، بالمطلق، نحو وجود وأمن هذا الكيان والمصالح والاعتبارات المرتبطة بهذا الوجود وهذا الأمن. وثانيها، وجود إدراك «إسرائيلي» يصل إلى اليقين، بأن وجود وأمن الكيان في خطر دائم، وأن هذا الوجود وهذا الأمن يرتبط شرطاً بعدم بروز أي تطور عربي من شأنه تهديد هذا الوجود وهذا الأمن، وثالثها ارتكاز «نظرية الأمن «الإسرائيلي»» على ما أخذه الصهاينة من الفكر النازي وخاصة فكرة «المجال الحيوي»، فهذا الأمن يرتبط بالحيلولة دون بروز أي قوة أو أي طرف يقع ضمن هذا المجال الحيوي، يكون قادراً على أن يشكل تهديداً، أو حتى تهديداً محتملاً، للأمن «الإسرائيلي» الذي هو كلمة السر في كل ما له علاقة بالوجود «الإسرائيلي» الذي يدرك «الإسرائيليون» قبل غيرهم أنه وجود استثنائي جرى فرضه بالإكراه وبقوة الأمر الواقع، ما يعني أن بقاء وضمان هذا الوجود سيظل مرتبطاً بامتلاك الكيان القدرة الفائقة والمطلقة لفرض الإكراه والأمر الواقع على كل دول الإقليم الواقعة ضمن دائرة هذا المجال الحيوي المرتبط بوجود «إسرائيل».

هذا المجال الحيوي سبق أن حدده الإرهابي أرييل شارون رئيس الحكومة الأسبق للكيان الصهيوني بأنه يمتد من باكستان شرقاً إلى المغرب وموريتانيا غرباً، ومن تركيا شمالاً إلى منابع نهر النيل جنوباً. وارتبطت بهذا المجال مقولات إستراتيجية عدة من أبرزها ما عرف بـ «الفيتو النووي» والمقصود به أن تنفرد «إسرائيل» بامتلاك الأسلحة النووية، وأن تحول دون تمكين أي دولة عربية أو أي دولة إسلامية معادية من امتلاك قدرات نووية، سواء كانت عسكرية أو سلمية، والآن يدشن «الإسرائيليون» مقولة أخرى هي «الفيتو الكيماوي»، وهي عدم تمكين أي جماعة يعتبرها «إرهابية» من امتلاك أسلحة كيماوية، وعلى الأخص «حزب الله» أو أي منظمة فلسطينية.

قضية الأسلحة الكيماوية تثار الآن من جانب الكيان ضمن تطورات الأزمة السورية لخدمة هدفين، الأول تهيئة الأجواء للتدخل المباشر في الأزمة السورية لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد تحت غطاء افتعال أو «تخليق» أزمة «أسلحة دمار شامل» سورية، على غرار ما حدث مع العراق لتبرير مثل هذا التدخل الذي ظل متردداً على مدى الأشهر الماضية من عمر الأزمة السورية. والثاني، ردع النظام السوري لمنعه من نقل أسلحته الكيماوية والبيولوجية إلى «حزب الله» في لبنان، وافتعال أزمة بهذا الخصوص لشن «ضربة استباقية» ضد «حزب الله»، سواء وصلت هذه الأسلحة إليه أم لم تصل.

في الحالتين تبدو هذه الأسلحة السورية مستهدفة «إسرائيلياً» والمطلوب تدميرها أو الاستيلاء عليها، أو إخراجها من سوريا، لكن الأهم هو أن «إسرائيل» تريد أن تكون طرفاً فاعلاً في رسم وهندسة مستقبل سوريا ما بعد الأسد، ولن يكون هذا إلا إذا كانت طرفاِ مباشراً في إسقاطه، كما تريد توظيف أجواء التخويف من أسلحة سوريا الكيماوية لتبرير مخطط شن الحرب على لبنان لتدمير القدرات العسكرية لدى «حزب الله»، وفرض حل نهائي للأزمة المثارة منذ عام 2005 وحتى الآن حول هذا السلاح الذي يحول بقاؤه دون فرض معادلة توازن قوى داخل لبنان تفرض على هذا البلد العربي أن ينخرط من دون كوابح في عملية السلام المعطوبة.

فالحملة الدعائية المكثفة المثارة الآن حول ترسانة الأسلحة الكيماوية والبيولوجية السورية (ترسانة أسلحة الدمار الشامل) التي جاءت رداً على بيان ألقاه المتحدث باسم الخارجية السورية أثار التباساً سياسياً وأمنياً بسبب ما تضمنه من تحذير سوري باستخدام هذه الأسلحة في حال تعرض سوريا لاعتداء خارجي، حملة مليئة بالمغالطات، خاصة من جانب «إسرائيل» والإعلام الدولي الموالي لها، لسببين، أولهما أن هذا البيان الملتبس جاء تصحيحه بعد ساعات قليلة ببيان بديل من وزارة الخارجية السورية نفت فيه أي نية على الإطلاق لاستخدام هذه الأسلحة في أي حالة من الحالات. لكن يبدو أن هذا التوضيح لم ولن يصل إلى مسامع دوائر صنع القرار في الدول الغربية والأمم المتحدة التي راحت تعزف منظومة التهديد والوعيد للنظام السوري في مقدمة لحلقة جديدة من الصراع على سوريا، محورها «أسلحة الدمار الشامل السورية»، ولعل في تصريح وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون ما يكشف ذلك، فقد اعتبرت أن وجود أسلحة كيماوية في أي منطقة نزاع يمثل «مصدر قلق». آشتون تعلم أن منطقة «الشرق الأوسط» كلها تعيش نزاعاً ساخناً، بل صراعاً ساخناً حول الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وأن حروباً عديدة وقعت بين الدول العربية والكيان الصهيوني ضمن تطورات هذا السلاح، ولم تفكر آشتون أو أي مسؤول غربي أن يتلفظ بكلمة واحدة عن ترسانة أسلحة الدمار الشامل «الإسرائيلية» النووية أولاً، والكيماوية والجرثومية ثانياً.

أما السبب الثاني، فهو أن الحملة «الإسرائيلية» ضد الأسلحة الكيماوية السورية تعود إلى أشهر مضت منذ أن بدأت الأزمة السورية تشهد مواجهات مسلحة بين الجيش السوري والمعارضة المسلحة، وطوال الأشهر الماضية لم يخرج أي تصريح سوري يتحدث عن هذه الأسلحة، لكن هاجس مستقبل الأسلحة الكيماوية وخطورة احتمال وصولها مع ترسانة الصواريخ السورية المتطورة إلى «حزب الله» في لبنان ظل مسيطراً على القيادة السياسية والعسكرية داخل الكيان، ما يؤكد جدية النوايا لدى هؤلاء القادة إزاء هذه الأسلحة وإزاء سوريا، وإزاء «حزب الله»، لكن مشكلة «إسرائيل» مع هذه الهواجس شديدة التعقيد، لأسباب تتعلق بالداخل «الإسرائيلي» والانقسام حول أي الأدوار أفضل بالنسبة لـ «إسرائيل» إزاء تطورات الأزمة السورية، التدخل المباشر أم الاكتفاء بالتدخل غير المباشر، ولأسباب تتعلق بخصوصية الأزمة السورية وبالذات ما يتعلق بأن هذه الأزمة تحولت من أزمة داخلية إلى أزمة لها ارتباط شديد بالصراع حول الزعامة العالمية ومستقبل النظام العالمي هل هو أحادي القطبين أم هو نظام متعدد الأقطاب.

الانقسام «الإسرائيلي» يزداد حدة حول الموقف من سوريا، وبالتحديد حول حدود التدخل، التدخل العميق المباشر عبر شن حرب لإسقاط النظام، أم التدخل الناعم غير المباشر بأنواعه المختلفة التي لم تتوقف في أي لحظة من اللحظات. هذا الانقسام كان في أشهر مضت حول سؤال أولوية بقاء أم رحيل النظام، حيث ظل «الإسرائيليون» منقسمين حول إجابة هذا السؤال بين من يرى بقاء هذا النظام مصلحة «إسرائيلية»، لكونه ظل ملتزماً بتجميد جبهة الجولان على مدى أربعة عقود متصلة، رغم كل ما يقوله حول «الممانعة» والخوف من القوى التي سترث هذا النظام، سواء كانت إسلامية أو حتى ليبرالية، في ظل فهم «إسرائيلي» لظاهرة «الربيع العربي» والتطورات الديمقراطية في الدول العربية مفادها أن التحول الديمقراطي لم يأت مصحوباً بتحولات ثقافية وفكرية على نحو ما يعتقد الغرب، لكنه جاء مصحوباً بعداء متصاعد ضد الولايات المتحدة و«إسرائيل». أفضل من عبّر عن هذا الإدراك المعلن الرئيس لصحيفة «هآرتس» بن كسبيت بقوله: «مع كل الاحترام لدعاة الديمقراطية فإن ما سينتظرنا هنا هو مواجهة اتجاهات دينية وعلمانية تعبر عن الرأي العام السوري في شكل حقيقي، ونحن ندرك موقف الرأي العام السوري، كما هي الحال بالنسبة إلى موقف الرأي العام العربي في شكل عام. فالجماهير العربية ترفض وجودنا، وتساند خيار المقاومة ضدنا، وبالتالي فإن الحديث عن نظام يعبر عن الرأي العام السوري يعني بالضرورة جلب نظام معادٍ لـ «إسرائيل»».

على الجانب الآخر، هناك من يرون مصالح «إسرائيلية» حيوية في إسقاط نظام الأسد، على نحو ما عبّر عاموس يادلين الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية «الإسرائيلية» الذي اعتبر أن سقوط نظام الأسد سيحدث تحولاً استراتيجياً إيجابياً لـ «إسرائيل»، وعلى الأخص تفكيك التحالف السوري الإيراني، الذي كانت «إسرائيل» مستعدة أن تدفع ثمناً غالياً له بالتنازل عن هضبة الجولان.

إذا ما أدركنا كيف تحوّلت الأزمة السورية إلى أزمة عالمية إقليمية، بسبب الاستقطاب الدولي الإقليمي، وخاصة أدوار كل من روسيا والصين وإيران، وكيف أن هذه الأزمة تراها كل من روسيا والصين عنواناً للصراع حول قمة النظام العالمي، وإنهاء للتفرد الزعامي الأمريكي ستتكشف مدى الصعوبات التي تواجه «إسرائيل» الآن لشن حرب على سوريا، وربما تكون الحرب على «حزب الله» خطوة بديلة للتسخين المبكر ضد إيران، وللحسم المبكر أيضاً للأزمة في سوريا.


titre documents joints

صراع على قمة النظام العالمي

2 آب (أغسطس) 2012
info document : PDF
149.8 كيلوبايت

د. محمد السعيد ادريس

الخبير بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2183008

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

27 من الزوار الآن

2183008 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 28


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40