ليست مصر دولة اسكندنافية ولن تكون، وليس شعبها سويدياً أو نروجياً او حتى فنلندياً، على الرغم من أن الثورة دفعتهما في ذلك الاتجاه، بشكل حاسم ونهائي لا رجعة فيه، وعلى الرغم من التشوش والفوضى اللذين يتسم بهما السلوك الشعبي وينذر بإطالة أمد المرحلة الانتقالية التي يراقبها العالم كله باهتمام شديد، ويتابعها العرب بشغف خاص.
ما يجري في ميدان التحرير في القاهرة وفي ميادين كبرى المدن المصرية، لا يمكن أن يوصف بأنه الموجة الثانية من الثورة على ما يحلو لبعض المفكرين والمثقفين والإعلاميين المصريين القول، وهو ما يسقط في سوء التقدير والتحليل، ويتجاهل حقيقة أن هؤلاء المتظاهرين والمعتصمين الموجودين في الشوارع يتنكرون لأهم منجزات الثورة وينكرونه، ويبدون لامبالاة مخيفة إزاء الانتخابات النيابية التي تنطلق الإثنين المقبل، والتي يفترض أن تكون المؤشر الأول والأبرز على ولادة الدولة المصرية العصرية.
وهو أمر مثير للذهول فعلاً أن يخرج المصريون الى الشوارع الآن بالذات بدلاً من أن يكونوا في ذرى الحملات الانتخابية يجوبون أحياء المدن ومزارع الأرياف للترويج للوائح ومرشحين مكلفين بأن يكتبوا دستور مصر الجديد ويبنوا مؤسساتها الحديثة. إذا كان عدم الثقة بصناديق الاقتراع هو السبب تكون الثورة قد فقدت أحد أهم مضامينها. وإذا صح الاشتباه بأن بعض القوى السياسية يريد تأجيل الانتخابات، تكون الثورة قد أصيبت بنكسة خطيرة.
المشهد محزن فعلاً. الدم المسفوك من قبل أجهزة أمن موروثة من العهد البائد لا يبرر بأي حال من الأحوال المطلب الأشد غرابة الذي يرتفع ساعة بعد ساعة بإقالة حكومة عصام شرف، مع انه من البديهي أنها لن تبقى في الحكم يوماً واحداً بعد إعلان نتائج الانتخابات، ليس فقط لأنها أثبتت أنها مجرد دمية استنفدت غرض التواطؤ بين المجلس العسكري وبين الإخوان المسلمين في الأشهر القليلة الماضية، بل أساساً لأن وظيفة صندوق الاقتراع هي إنتاج حكومة جديدة ورئاسة جديدة.
الزعم أنها ثورة ثانية مفرط في المبالغة. صراع الأوزان والأحجام الذي تشهده شوارع القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية والسويس، لن يحسم إلا في الانتخابات التي تمثل قناته وأداته الطبيعية. بقاء الجيش في السلطة هو مجرد وهم يتنافى مع أبسط معاني الثورة. واستيلاء الإخوان على الحكم هو مجرد حلم يراود الإسلاميين، لكنه لن يصمد أمام أول اختبار عملي. وصول الليبراليين الى السلطة ما زال يتطلب المزيد من الجدية في التنظيم والتخطيط.
لكن حصيلة الأيام الماضية لم تكن كلها بائسة، برغم أن كلفتها الدموية عالية جداً. نجح الشارع في إسقاط الامتيازات التي حاول الجيش الحصول عليها من الدستور المقترح، وفي إثارة الشك الطبيعي في نوايا الإخوان المسلمين ووضعهم في قفص الاتهام بأنهم يتسببون بالفوضى ويهددون بالفراغ، وفي استنفار الشباب الذين شعروا بأن مكتسبات ثورتهم تكاد تضيع بفعل التآمر العسكري والإسلامي.
ليس المطلوب أن يصبح المصريون شعباً اسكندنافياً لكي يدركوا أهمية ثورتهم، بل لكي يحافظوا عليها ولكي يتوجهوا الى صناديق الاقتراع التي لا يطيقها العسكر والإسلاميون.