الجمعة 25 كانون الثاني (يناير) 2019

عودة انقلابات «الإمبراطورية»: فنزويلا تقاتل عن العالم

ملف / الاخبار اللبنانية
الجمعة 25 كانون الثاني (يناير) 2019

إنها الساعة الصفر التي انتظرتها الولايات المتحدة بفارغ الصبر للانقضاض على الثورة البوليفارية التي كانت فاتحة عهد الاستقلال اللاتيني، وركيزة انطلاق المشروع المناهض لسياسات الاستعباد بحق نصف مليار نسمة، وتحويل أكثر من عشرين مليون كلم مربع إلى حديقة خلفية معزولة عن الخريطة السياسية الدولية. تغيّرت الأزمنة كثيراً منذ 11 أيلول/ سبتمبر 1973. فلم تعد المخابرات المركزية الأميركية، عند تنفيذ برامجها لإسقاط الأنظمة، بحاجة إلى إخفاء دعمها للانقلابيين كما اضطرت إلى أن تفعل مثلاً خلال انقلاب الجنرال بينوشيه على حكومة الرئيس سيلفادور الليندي المنتخبة. اليوم، ينزل الانقلابيون علناً، وكأنهم ذاهبون إلى حفل عام، ويقفون أمام حشود المؤيدين، ليعلن أحدهم خلع الرئيس المنتخب ديمقراطياً بإرادة أغلبية المواطنين، وتسلّمه للسلطة رئيساً انتقالياً للبلاد. ولا يكاد هذا «الأحدهم» ينزل عن المنصة حتى يكون رئيسُ الولايات المتحدة شخصياً أول مهنئيه، مُعلناً منحه الشرعية واعتراف «الإمبراطورية» به، قبل أن يتسابق الحكام الفاسدون في الدول الدائرة في الفلك الأميركي إلى الإقرار بما يراه البيت الأبيض. هذا تماماً كان سيناريو الانقلاب المتلفز الذي شاهده الملايين عبر العالم في بثّ حي ومباشر من العاصمة الفنزويلية كاراكاس، أوّل من أمس. ردود الفعل تراوحت بين الإدانة والتأييد بحسب المرجعية الأيديولوجية لصاحبها. ومع ذلك، فإن الجميع اشترك في وصف الأوضاع الاقتصادية المتردية التي انتهت إليها فنزويلا، وصعوبات العيش التي يعاني منها المواطن الفنزويلي العادي بعد عشرين عاماً على تولّي هوغو تشافيز السلطة في البلاد، وإطلاقه ثورته البوليفارية

- ترامب يشعل كراكاس: نذر حرب أهلية
لم يصمد الحلم «الوحدوي» اللاتيني أكثر من عقد ونصف عقد. فالحرب الناعمة انتقت أهدافها بعناية ودقة؛ إذ رعت واشنطن بإداراتها المتعاقبة الانقلابات الدستورية حيث استطاعت. أسقطت رئاسة القسّ فرناندو لوغو في الباراغواي عام 2011، ثم قادت عزل الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف عام 2015، وتسلّلت إلى الأرجنتين بالتأثير الاقتصادي والإعلامي. لكن فنزويلا التي ظلّت عصية على اختراق بنيتها السياسية والاجتماعية كانت ثمة حسابات أخرى إزاءها، فبدأت اللعبة بسياسات الحصار والتجويع، واستمرّت عبر إشاعة الفوضى والانقسام الداخلي، ولم تنتهِ بالتلويح بالخيارات العسكرية لإسقاط آخر قلاع اليسار في أميركا الجنوبية.

«سقوط فنزويلا» ليس سهلاً خصوصاً أن المعارضة لم تستطع اختراق الجيش

يعتقد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن الفرصة أصبحت سانحة للتخلّص من عدوه اللاتيني الأول، نيكولاس مادورو، خصوصاً بعد خسارة الأخير بُعده الإقليمي بفعل التحوّلات السياسية التي أنتجت أنظمة تتناغم مع المشروع الأميركي، وجاهزية المعارضة الفنزويلية للمواجهة الداخلية، بعد إرغامها على التخلّي عن خلافاتها الحادة في ما بينها، وتوحيدها خلف رئيس «الجمعية الوطنية» خوان غوايدو، وقطع الطريق أمام أي حوار داخلي لتنظيم الأزمة. كلها إجراءات ترافقت مع إنهاك الشعب الفنزويلي بفعل الحصار المطبق وتضييق الخيارات أمامه، ما أعطى المعارضة هامشاً شعبياً استثمرته في الانقلاب السياسي في انتظار تداعيات المشهد الداخلي، وقيادة المواجهة الحاسمة مع القوى الداعمة لمادورو، خصوصاً المؤسسة العسكرية التي لا تزال متمسكة بخياراتها الوطنية على رغم التهويل الدولي الذي تمثّل في الاعتراف برئيس البرلمان المعارض رئيساً انتقالياً للبلاد.
في تفاصيل الأسباب التي أدّت إلى تداعي المشهد الفنزويلي بوتيرة سريعة، يرجّح الخبراء أن ترامب يريد حسم هذا الملف الذي سيعطيه دفعاً داخلياً هو بأمسّ الحاجة إليه للحدّ من أزماته الداخلية الحادة، كما سيشكّل إنجازاً استراتيجياً قد يستثمره على المدى البعيد، خصوصاً في الانتخابات الرئاسية المقبلة، إضافة إلى الأطماع الأميركية في النفط الفنزويلي، لا سيما أن كاراكاس تستعدّ لبدء التنقيب في مياهها الإقليمية المحاذية لدولة غويانيا، التي قد تحول هذا البلد اللاتيني إلى أكبر منتج للنفط في السنوات القليلة المقبلة. الأهم من ذلك، قطعُ الطريق أمام روسيا في إيجاد موطئ قدم خلف الأطلسي، خصوصاً بعد ورود معلومات عن اتفاق روسي ــــ فنزويلي على إنشاء قاعدة عسكرية روسية على جزيرة لا أورشيلا الفنزويلية التي تبعد أقل من 1500 كلم عن ولاية فلوريدا الأميركية، لاعتراض الصواريخ البعيدة المدى التي قد تستهدف المقاتلات والبوارج الروسية. المخاوف الأميركية أكدها هبوط أربع مقاتلات روسية حديثة من نوع «TU-160» في مطار سيمون بوليفار وسط كاراكاس أواخر العام الماضي، إضافة إلى تصريحات وزير الدفاع الفنزويلي، فالدمار بادرينو، عن حق بلاده في إنشاء معاهدات الدفاع المشترك مع الأصدقاء.

وعلى رغم جدية الإجراءات الأميركية وتأثيرها في الداخل الفنزويلي، إضافة إلى تحشيد الدول الموالية لواشنطن من أجل سحب شرعية مادورو، فإن مطلعين يرون أن «سقوط فنزويلا» لن يكون أمراً سهلاً، خصوصاً أن المعارضة لم تستطع خرق المؤسسة العسكرية التي لا تزال متماسكة خلف الرئيس، بل رفض قياديوها الانصياع إلى ما رأوا فيها «مشاريع مشبوهة»، واصفين تنصيب غوايدو بـ«المنافي للقوانين والقيم التاريخية». لذلك، قد تمتد الأزمة التي أرادت أن تحسمها واشنطن بسرعة قياسية إلى وقت يفوق الحسابات الأميركية التي قد تصطدم بمصالح حلفاء كاراكاس. هؤلاء أكدوا تمسكهم باحترام الديموقراطية الفنزويلية ورفض أي وصاية خارجية، وهي مواقف تصاعدت منذ أمس لتصل إلى تحذير صيني ــــ روسي للولايات المتحدة من الإمعان في توتير الساحة الفنزويلية أو التفكير في أي إجراء عسكري.
أمام هذا الواقع، تبدو البلاد أمام منعطف مصيري، فواشنطن قالت كلمتها، والمعارضة بدأت التنفيذ من دون الالتفات إلى خطورة هذا التصعيد الذي فرض على مادورو الاستعداد للمواجهة القاسية التي بدأت فعلاً في شوارع العاصمة، وحصدت قرابة عشرين ضحية وفق المصادر الرسمية حتى ليل أمس. مواجهةٌ تشي بأن كاراكاس طوت ملف التعايش القسري، إذ إن البلاد لم تعد تتسع لمشروعين متناقضين في الشكل والمضمون.

- الجيش يصطفّ مع الرئيس: لا اعتراف بالانقلاب
تواصل الولايات المتحدة تزخيم محاولتها الانقلابية في فنزويلا، وسط انقسام دولي على الأزمة. أما داخلياً، وإن بدأت كراكاس تستعيد زمام المبادرة في ظلّ مواقف الجيش والدول المتضامنة، فإن انفلاش الأزمة لا يوحي بحل في القريب العاجل

لا يبدو أن محاولة الانقلاب الأميركية التي ينفذها رئيس البرلمان الفنزويلي، خوان غوايدو، انتهت إلى الخواتيم التي يريدها نظام كراكاس، في ظلّ استمرار التصعيد الداخلي والخارجي، وتوسّع الاستقطاب الدولي حول الأزمة المفتوحة. مع ذلك، فإن وزير الدفاع الفنزويلي، فلاديمير بادرينو، الذي ظهر أمس في مؤتمر صحافي محاطاً بكبار الجنرالات، أوحى بميل الكفة داخلياً إلى فريق الرئيس نيكولاس مادورو. إذ شدّد الوزير على رفض الانقلاب على الشرعية وعدم القبول بـ«الاعتراف برئيس غير شرعي جاء بدعم خارجي ومن دون انتخابات ديموقراطية من قِبَل الشعب». وجدد بادرينو وصف ما يجري في البلاد بـ«الانقلاب»، قائلاً: «أؤكد حدوث انقلاب ضد الهياكل المؤسساتية والديموقراطية والرئيس الشرعي نيكولاس مادورو».
من جهته، رأى وزير الخارجية، خورخي أريازا، في تغريدة على «تويتر» أمس، أن الإدارة الأميركية تقود الانقلاب، وهي «لا تقف وراء محاولة الانقلاب بل أمامها». وكتب قائلاً: «لقد خططوا للانقلاب في واشنطن، ويقومون بتطبيقه بشكل واضح عبر تعليمات أعطوها لدولهم التابعة لهم». في غضون ذلك، أعاد الرئيس مادورو، أمس، التأكيد على قرار قطع العلاقات مع واشنطن، معلناً أن بلاده ستغلق سفارتها وجميع قنصلياتها في الولايات المتحدة.
مقابل الاستنفار في كراكاس، تستنهض الولايات المتحدة قواها وحلفاءها لإبقاء الضغوط على فنزويلا، وتصعيد الإجراءات ضدها. ونقلت وكالة «فرانس برس» عن مصادر دبلوماسية أن واشنطن طلبت عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة الوضع في فنزويلا، وهو ما ترفضه موسكو معارِضةً عقد اجتماع يتناول «موضوعاً داخلياً» في فنزويلا. بالموازاة، أعلن مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، أن الإدارة تركز اهتمامها على قطع الإيرادات المالية عن الرئيس مادورو وحكومته. وكرر التهديدات الأميركية لكراكاس، بالقول إن ثمة «خطوات أخرى في الاتجاه ذاته تتم دراستها»، من دون الإفصاح عن المقصود. ووصف وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، نظام مادورو، بأنه «غير شرعي ومفلس أخلاقياً»، معرباً عن استعداد بلاده لتقديم مبلغ 20 مليون دولار كمساعدات إنسانية للشعب الفنزويلي. وفي كلمة له أمس في واشنطن أمام المجلس الدائم لـ«منظمة الدول الأميركية»، دعا بومبيو جميع الدول إلى «سلوك الخيار الصحيح» والاعتراف بغوايدو، محذراً من سماهم «فلول نظام مادورو» من استخدام العنف.
على المقلب الآخر، وإلى جانب المواقف الداعمة والمتضامنة مع كراكاس من كوبا وسوريا وإيران وتركيا والمكسيك وبوليفيا، برز الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بنظيره الفنزويلي، وأعرب فيه عن «دعمه للسلطات الشرعية في فنزويلا، وسط تفاقم أزمة سياسية تسبّب بها الخارج»، بحسب ما أورد الكرملين. وفي الاتصال الذي اتفق فيه الجانبان على «مواصلة التعاون الروسي الفنزويلي في مجالات مختلفة»، ندّد بوتين بـ«تدخل خارجي مدمر يقوّض في شكل صارخ المعايير المؤسِّسة للقانون الدولي»، داعياً إلى «تجاوز التباينات في المجتمع الفنزويلي عبر حوار سلمي»، والحلول «في إطار المجال الدستوري». أما بكين، وفي رد فعل مشابه، فقد شددت على معارضة «التدخل الخارجي» في السياسة الفنزويلية. وقالت وزارة الخارجية إن «الصين تؤيد باستمرار مبدأ عدم التدخل في السياسة الداخلية للدول الأخرى، وتعارض التدخل في الشؤون الفنزويلية من قِبَل قوى خارجية»، حاثة الأطراف على السعي إلى حل سياسي «عبر الحوار السلمي ضمن الإطار الدستوري».
أوروبياً، وإن بدا المشهد مشتّتاً، فإن المواقف المتفرقة للدول أظهرت معظمها التحاقاً بالموقف الأميركي، ولو بصور متفاوتة. وهو ما ظهر في مواقف كلّ من بريطانيا، التي أعربت عن «الدعم الكامل» للبرلمان الفنزويلي وغوايدو والتشكيك في الانتخابات، وفرنسا حيث أشاد الرئيس إيمانويل ماكرون بـ«شجاعة مئات الآلاف من الفنزويليين الذين يتظاهرون من أجل حريتهم» في مواجهة «الانتخاب غير الشرعي لنيكولاس مادورو»، مشيراً إلى أن أوروبا «تدعم إعادة الديموقراطية» إلى فنزويلا. وفي حين عبّرت ألمانيا عن دعمها للبرلمان الفنزويلي، اقتصر موقف إسبانيا على الدعوة إلى «انتخابات حرة».

مواقف متضامنة
صدرت، أمس، في لبنان والعالم العربي، سلسلة ردود فعل دانت الدعم الأميركي للمحاولة الانقلابية في فنزويلا، مُعلنة التضامن مع القيادة الشرعية المُمثّلة بالرئيس نيكولاس مادورو. وفي هذا الإطار، استنكر الحزب الشيوعي اللبناني «المحاولات الأميركية الحثيثة لتقويض الأمن والاستقرار في فنزويلا، عبر السعي بمختلف الوسائل لتغيير النظام المنتخب ديموقراطياً»، معتبراً «اعتراف الولايات المتحدة برئيس انتقالي لم يكن حتى منافساً للرئيس الشرعي المنتخب، دعوة مفتوحة لتفجير حرب أهلية في البلاد». من جهته، شدد حزب الله على أن «سلسلة الاعترافات الخاضعة للإرادة الأميركية لا يمكن أن تعطي شرعية للانقلابيين»، لافتاً إلى أن «العالم بأسره يعلم أن الهدف الأميركي من التدخل... إنما هو السيطرة على ثروات ومقدرات البلاد، ومعاقبة الدول الوطنية على خياراتها السياسية المعادية للهيمنة الأميركية في العالم». ودانت حركة «حماس»، بدورها، «التدخل الأميركي السافر في الشؤون الفنزويلية، والذي يأتي ضمن سلسلة مستمرة من السياسات الأميركية العدائية تجاه الشعوب وخياراتها، وهو ما يشكل تهديداً للأمن والسلم الدوليين».

- لماذا نقف مع فنزويلا؟

المواجهة في فنزويلا وصلت إلى طورها الأخير، في مشهدٍ مألوفٍ عرفناه في بلادنا من قبل، بل وأضحى بمثابة «منهجية عمل» للأميركيين في زمن سطوتهم: بلدٌ محاصر أوصلته الحرب الاقتصادية إلى الأزمة، حملة إعلامية وسياسية لنزع الشرعية عن النّظام وتبرير الانقلاب/ الغزو، ومعارضة يعيّنها ترامب رئيسةً للبلاد (وهذه المعارضة، بالمناسبة، لم تفز بأي انتخاباتٍ رئاسية في العقدين الماضيين، حتى حين ساءت الأوضاع وحلّت الأزمة، وقد كانت لديها العديد من الفرص).
ولكنّ الأساس هنا هو أنّنا لسنا في سيناريو «نظام في وجه أميركا»، والنّظام عبارةٌ عن رئيسٍ وبيروقراطية وجيش. الطّرف المدافع في فنزويلا هو حركة شعبيّة حقيقيّة، تضمّ أكثر الفقراء في البلد، وهم أثبتوا أنّهم لن يتراجعوا أو يتنازلوا تحت الضّغط والتخويف، وأنّهم مستعدّون للدفاع عن قضيّتهم حتّى النهاية. ولو لم تكن المعارضة - وخلفها واشنطن - متيقّنة من أنّها ستُسحق في أي حربٍ أهليّة أو صدامٍ داخليّ، لكنّا دخلنا دورة العنف في فنزويلا منذ زمن (حتّى «واشنطن بوست»، وهي أداةُ في الحرب على فنزويلا، تعترف بأن تظاهرات المعارضة تجذب أساساً الطبقة الوسطى وما فوق؛ واستطلاعات الرأي تشير إلى أن الفقراء والسكان الأصليين، حتّى وإن فقدوا الثقة في الحكم، فهم ما زالوا يعادون المعارضة «البيضاء» وتعاديهم). طالما أنّ هذه الحركة الشعبيّة موجودة، وطالما أنّها تحظى بحبّ الفقراء وولائهم، فإنّ مادورو - أو أي خلفٍ له في الحركة البوليفارية - لن ينتهي مثل ألليندي.
نقف مع فنزويلا أيضاً لأنّها تكرارٌ لـ«خيار العراق»: يتمّ إيصال البلد إلى الأزمة والمجاعة والحصار والعزلة، ثمّ توضع معاناة النّاس في كفّة و«تغيير النّظام» في الكفّة الأخرى. المشكلة - في العراق كما في فنزويلا - هي أنّ الأميركيين لم يطالبوا الشعب العراقي بمقايضة رأس صدّام بإيقاف المجاعة وإنهاء الحصار، بل أن تتخلّى عن كامل استقلالك، وسيادتك على ثرواتك، وأن تعيّن واشنطن أسفل من في قومك لكي يحكموك - كلّ هذا حتّى ترفع عنك قدمها، وتسمح لك بأن تعيش. ولكنّ الأسوأ ليس هنا، بل في أنّ «الصفقة» ذاتها مسمومة: بعد الاحتلال لم ينل العراقيّون، مقابل كلّ ما خسروه، أماناً وازدهاراً، بل مزيداً من الخراب والضعف والاستهانة. الأفضل هنا، والعقلاني والأخلاقي، هو أن لا تقبل الابتزاز، وأن تنال حريتك بنفسك مهما كان الثّمن. أيّام حرب العراق، سمّى الرّاحل جوزيف سماحة هذه المعادلة الأميركية التي وُضعنا أمامها «خيار صوفي» - نسبةً إلى الرواية حيث يُجبر الجندي النازي الأمّ على الاختيار بين أيّ من ولديها سيعيش وأيّهما سيموت. المعادلة، في الحقيقة، هي أسوأ من ذلك بكثير، وهذا ما تعلّمناه من التجربة ويجب أن يعرفه الفنزويليون: الجندي الأميركي، إن لعبت لعبته، فسيقتل ولديك الاثنين.
ومثلما بثّت أصوات أميركا في بلادنا، عام 2003، مقابلةً بين الاستبداد والاحتلال («الاستبداد يجلب الاحتلال» وما إلى ذلك من تبريرات)، أصبحنا نجد اليوم، لدى الأصوات ذاتها، معادلة «الفشل الاقتصادي يجلب الاحتلال» (لأنهم لا يستطيعون التشكيك في شرعيّة مادورو، وغداً قد يصبح الفقر - أو العجز عن اللحاق باليابان - مبرّراً لنزع الشرعية عن النظام المستهدف). ثمة فارق أساسي بين أن تقول إن مادورو لم يتمكّن من مواجهة الأزمة ومنع الانهيار، وبين أن تعتبره مسبباً لها. هذا على طريقة الخطاب الكاريكاتوري الذي ينتشر في أوساط اليسار الغربي، ويلوم مادورو وتشافيز لأنّهما لم يتمكّنا من بناء «اقتصادٍ منتج» لا يعتمد على النّفط، وأنّ ما يجري اليوم هو «نتيجة طبيعية» لذلك (حقاً؟ هل لديك وصفة لتحويل البلد إلى تايوان خلال خمس سنوات؟ وهل كان على تشافيز أن يحقّق هذه النقلة التاريخية وهو يواجه حرباً داخلية، وحصاراً خارجياً، وتعاديه أغلب النخب في البلد - بمن فيها الأطباء والمهندسون ورجال الأعمال؟). بالمناسبة، المشكلة الاقتصادية المباشرة والأساسية في فنزويلا اليوم ليست في الإدارة أو السياسة النقدية، بل في أن فنزويلا - ببساطة - لا تقدر على إنتاج النّفط، وقد هبطت صادراتها إلى أقلّ من ثلث ما كانت عليه قبل سنوات، ومعها العائدات التي تموّل الدولة وحياة النّاس. هذا سببه مزيجٌ من الحرب الاقتصادية والمواجهة الداخلية في شركة النفط الوطنية والصراع مع الشركات الأجنبية التي كانت تتولى قطاع النفط في البلد - «كونوكو» الأميركية، مثلاً، قامت بـ«الحجز» على المصفاة الرئيسية التي كانت فنزويلا تكرر فيها نفطها وتصدره، في كوراساو، وأوقفتها عن العمل لأشهر طويلة. فنزويلا تملك احتياطات هائلة، ولكن هذا لا قيمة له في ذاته، إلّا في استثارة أطماع الكبار. ما يهمّ هو الإنتاج واستغلال هذه الاحتياطات. وأي دارسٍ لتاريخ النفط يعرف كيف تحكّمت أميركا تاريخياً، عبر السياسات والعقوبات والاحتكار التكنولوجي، بمستوى الإنتاج في العالم ومنعت دولاً ذات احتياطات هائلة (مثل العراق في الماضي وفنزويلا وإيران اليوم) من استغلال مواردها لمصلحة دولٍ «حليفة». الاتحاد السوفياتي نفسه، لو لم يكن قوة صناعية هائلة وحظي في فترةٍ باكرة باستثمارات غربية نقلت إليه بعض التكنولوجيا، لما تمكّن من استخراج قطرةٍ من نفطه وغازه (وهو مع ذلك لم يقدر على الوصول إلى احتياطات هائلة في أرضه، كالتي في المياه العميقة، لأنها كانت «معقّدة» لا تقدر عليها إلا الشركات الغربية الكبرى).
نقف مع فنزويلا لأنّنا لا نصدّق أن ترامب حريصٌ على مصلحة الفنزويليين وتهمّه معاناتهم؛ ونعرف أنّه لو حصل على مراده، وعاد الحكم في فنزويلا إلى الطبقة القديمة (وهي تعود بشكلٍ أكثر شراسة)، ودخل البلد درب التخصيص والأمركة، فإنّنا - في أحسن الحالات - سنشهد دورةً تاريخية قد تدوم لسنوات، ولكننا نعود في نهايتها إلى عام 1992، حين كان البلد في انهيارٍ وشلل، ونظام الحزبين ديموقراطية فارغة، و80% من الشّعب في فقرٍ وعوز، وإنتاج النفط يتدهور - أي حالة تشبه إلى حدٍّ بعيد الوضع الحالي، كما تشير الباحثة إيفا غولينجر - ولكن من دون حصارٍ وعقوبات وحربٍ اقتصادية.
وقبل ذلك كلّه، نقف مع فنزويلا لأنّنا نعرف (على عكس صنفٍ من «الناشطين») أنّ الهزيمة ليست مسألة نظريّة، بل هي شيءٌ حقيقي ومكلفٌ وثقيل، وستدفع ثمنه، أنت والملايين من أبناء شعبك، لسنواتٍ طويلة وتسدّد فواتيره حتّى آخر قطرة. لا شيء في الحياة حقيقيٌّ أكثر من الهزيمة. قد لا تكون لدى بعض «النّاشطين» مشكلة في أن «يضحّي» بنظامٍ هنا أو ينسحب من معركة هناك، لأن الإعلام قال له ذلك، أو لأن المعركة أصبحت شاقّة و«غير نظيفة»، ولكنّ الأميركيين وحلفاءهم، حين يحتلّون موقعاً لك، فهم - كجيوش الصليبيين في أيامهم - يتشبّثون به ويحفرون فيه ولا يخرجون منه إلّا بالخلع. لو هُزمت الحركة البوليفارية اليوم أمام أعدائها، فهي ستكون هزيمةً لنضالات الملايين وسنواتٍ من التضحية، وستحتاج إلى عشرين عاماً لكي تعوّض الخسارة وتصنع مجدّداً ما يشبه الأمل. هذا هو الدّرس الذي لم يفهمه الكثير من «الناشطين» العرب في السنوات الماضية، حين وضعوا أنفسهم ومن حولهم (أحياناً لأسبابٍ فرديةٍ بحت، أو بحثاً عن راتب أو تماشياً مع جوٍّ خليجي مربح) في سياق الهزيمة المحتمة، وهم يعاملون المسألة كأنها معركة على فايسبوك، ولا يعرفون أنّهم سيدفعون ببطءٍ، وإلى الأبد، ومن حساب كرامتهم وكيانهم ومكانهم في التّاريخ، ثمن هذه الخيارات.
من هنا، نقف مع فنزويلا في أصعب أيّامها، ونعرف أنّ الهزيمة، إن كان لا مفرّ منها، فهي لا يجب أن تكون من غير قتال.
وأيضاً لأنّ فنزويلا، إن سقطت، فستكون هزيمةً لنا جميعاً. علّق صديق فنزويلي بمرارة: «هل تذكرون حين كانت أميركا اللاتينية منبعاً للأمل؟». لو هُزمت فنزويلا، فسيكون ذلك انطفاءً للأمل في القارة إلى أمدٍ بعيد، وهيمنة أميركية كاملة على الإقليم، تزيد من سطوة واشنطن في العالم وتحبط كلّ من يقاومها.
وأيضاً لأنّ الانقسام في بلادنا يشبه الانقسام في البلد اللاتيني البعيد: الإنسان العربي الفقير تجده في صفّ مادورو «عصبوياً» وبشكلٍ تلقائي، وهو يلوم أميركا ويرى المسألة واضحة؛ في حين أنّ أكثر فئات مجتمعنا فساداً تعادي مادورو وتكرهه بصورةٍ «عصبوية» مشابهة.
وأيضاً حتّى يعرف الفنزويليّون، وهم في أقسى مراحل المحنة والحصار، أنّهم ليسوا وحيدين. لهذه الأسباب كلّها، نقف مع فنزويلا وأهلها الفقراء، وإن لم نقدر على فعل شيءٍ لهم.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13624 / 2184570

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع تقارير وملخصات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2184570 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40