الأربعاء 13 كانون الأول (ديسمبر) 2023

بايدن «يهزّ العصا» لإسرائيل: كفانا جنوناً

الأربعاء 13 كانون الأول (ديسمبر) 2023

- بايدن

أحدثت تصريحات الرئيس الأميركي، جو بايدن، مساء أمس، عاصفةً في إسرائيل، حيث ظهرت إلى العلن الخلافات الحادّة بين إدارة جو بايدن، وحكومة بنيامين نتنياهو. وفي حين كان قد بات معروفاً أن الخلاف الرئيسيّ يتمحور حول «اليوم التالي» للحرب على قطاع غزة، فقد جهِد الطرفان في أن لا يجاهرا به، وأن يؤكّدا في مختلف المناسبات وحدة موقفهما ورؤيتهما تجاه الحرب. والواقع أن الجانبين يتفقان على أهداف الحرب العامة، وعلى رأسها إضعاف حركة «حماس» والمقاومة إلى أبعد حدّ - بعدما اتضح أن القضاء عليها بعيد المنال -، وتحرير الأسرى الإسرائيليين، وإنشاء إدارة جديدة للقطاع، لكنهما يفترقان عند حدود هذا الهدف الأخير، لناحية دور السلطة الفلسطينية في ذلك، والدور الإسرائيلي أيضاً وحدوده وشكله.وفي هذا الإطار تحديداً، اعتبر بايدن، خلال لقاء مع مانحين لـ«الحزب الديموقراطي»، أن على نتنياهو القيام بتحركات لـ«تعزيز السلطة الفلسطينية وتقويتها»، مضيفاً أنه «لا يمكن لنتنياهو القول إنه لا توجد دولة فلسطينية على الإطلاق في المستقبل». كما اعتبر أن «علينا أن نوحد الإسرائيليين بطريقة تقود إلى اختيارهم حل الدولتين»، مشيراً إلى أن وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، ورفاقه «لا يريدون أي شيء له علاقة بحل الدولتين. يريدون فقط الانتقام مما فعلته حماس، بل من الفلسطينيين جميعاً». وفي حين كرر مقولته: «لو لم تكن هناك إسرائيل لكان علينا أن نخترع واحدة»، فقد دعا هذه الأخيرة إلى عدم ارتكاب «الأخطاء التي ارتكبناها» عقب أحداث 11 أيلول، موضحاً أنه «لم يكن هناك مبرر لفعل أشياء كثيرة كاحتلال أفغانستان». ونبّه إلى أنه «يمكن لإسرائيل الاعتماد على دعمنا ودعم أوروبا والعالم، لكنها بدأت تفقده بسبب القصف العشوائي» على قطاع غزة، لافتاً إلى أن «هناك مخاوف حقيقية في مختلف أنحاء العالم من أن تفقد أمريكا مركزها الأخلاقي بسبب دعمنا لإسرائيل».
وبعدما كان نتنياهو أقر، أمس، علناً، بوجود «اختلافات» مع الرئيس الأميركي حول مرحلة ما بعد الحرب، أعلن بايدن أنه حضّ رئيس الوزراء الإسرائيلي على «تغيير» حكومته، من أجل «إيجاد حلّ طويل الأمد للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني»، واصفاً الحكومة الحالية بأنها «أكثر حكومة محافظة في تاريخ إسرائيل». وإذ أكد «(أننا) لن نقوم بشيء سوى حماية إسرائيل» وأن «الهدف هو أمن» هذه الأخيرة، مضيفاً أنه «لن يكون هناك يهودي آمن في العالم من دون وجود إسرائيل»، وأن «سلامة الشعب اليهودي على المحكّ حرفياً»، فقد نبه إلى أن «أياً من ذلك لن يبتعد عن منح إسرائيل ما تحتاجه للدفاع عن نفسها وإنجاز المهمة ضد حماس».
وقبل ذلك، كان بايدن شدّد، خلال حفل في «البيت الأبيض» بمناسبة «عيد الأنوار» اليهودي، على وجوب أن يتوخّى الإسرائيليون «الحذر»، لأن «الرأي العام العالمي يمكن أن يتغيّر في أي وقت»، لافتاً إلى أنْ لا توافق تاماً مع نتنياهو.

الانقسام بين إسرائيل والولايات المتحدة ينفجر إلى العلن مع تصريحات بايدن

وتفاوتت الردود الإسرائيلية على كلام بايدن؛ إذ كرّر وزير الاتصالات في حكومة نتنياهو، شلومو قارعي، القول إنه «لن تكون هناك دولة فلسطينية هنا، ولن نعود أبداً إلى أوسلو»، معتبراً أن «الدولة الفلسطينية هي ما سيعرّض أمن الشعب اليهودي للخطر». ورأى عضو «كابينت الحرب»، جدعون ساعر، بدوره، أنه «من المهمّ الحفاظ على حكومة الطوارئ في فترة الحرب»، محذّراً من أن «تفكيكها يفيد حماس وحزب الله وإيران». أما نتنياهو فالتزم الصمت حتى ساعة متأخّرة، بينما لم تأتِ أي تعليقات من حلفائه في اليمين المتطرّف. وعلى رغم ذلك، لا يزال من المقرّر أن يصل وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن إلى الكيان، الإثنين المقبل، ومستشار «الأمن القومي»، جيك سوليفان، غداً، علماً أن الأخير أعلن أنه سيتحدث مع نتنياهو «بشأن تصريحاته عن انخراط إسرائيل العسكري في غزة بعد الحرب».
وفي تعليق أولي على تصريحات الرئيس الأميركي، أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية إلى أن «الانقسام بين إسرائيل والولايات المتحدة ينفجر إلى العلن مع تصريحات بايدن»، مضيفة أن «هذه التصريحات تمثّل أكبر تغيّر في لغة الولايات المتحدة بشأن إسرائيل منذ هجوم أكتوبر». وأكّدت الصحيفة أن «نتنياهو رفض الرؤية الأميركية لمرحلة ما بعد الحرب»، متابعةً أنه «حتى الآن دعمت الولايات المتحدة، إسرائيل، سواء في العمل أو في الخطاب، لكن يبدو أن هذا الدعم القوي قد تراجع اليوم». ولفتت إلى أن «الحكومة الإسرائيلية تواجه إدانات متزايدة من جميع أنحاء العالم، وحتى اليوم كان المسؤولون الأميركيون هم الاستثناء». ومن جهتها، رأت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية أن «رفض نتنياهو لعب السلطة الفلسطينية أي دور في غزة يهدف إلى المساعدة في تعزيز وضعه الداخلي المتدهور». وأما وسائل الإعلام الإسرائيلية فقد أشار بعضها إلى أن «كلام بايدن قيلَ في الغرف المغلقة، والآن يُقال بشكل علني»، معتبرة أنه «في نهاية الأمر سيحدث انفجار بين نتنياهو وبايدن»، فيما اعتبرت صحيفة «هآرتس» أن «الإسرائيليين سئموا نتنياهو، لكنه يتشبث بالحكم ويقسم البلاد في وقت الحرب ويعرض التحالف مع واشنطن للخطر».
ميدانياً، أعلن جيش الاحتلال، أمس، العثور على جثتين لأسيرين من أسراه في قطاع غزة، وقال إن «جنديين قُتلا عقب العملية العسكرية للعثور عليهما، أحدهما ابن آيزنكوت». كما أعلن المكتب الصحافي للحكومة الإسرائيلية «مقتل 19 من 135 محتجزاً لا يزالون في غزة»، فيما أفادت صحيفة «هآرتس» بأن 4591 جندياً إسرائيلياً مصاباً تلقّوا العلاج في المستشفيات منذ 7 أكتوبر، علماً أن الجيش كان أعلن فقط عن 1593 مصاباً. وبالتوازي مع ذلك نقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» عن مسؤولين أميركيين مطّلعين قولهم إن «الجيش الإسرائيلي بدأ ضخّ مياه البحر إلى مجمّع الأنفاق التابع لحماس في غزة». لكن، بحسب المسؤولين، فإن «غمر الأنفاق من الممكن أن يستغرق أسابيع»، وأن «يعرّض إمدادات المياه العذبة في غزة للخطر».

- حزب الله: جبهة لبنان مفتوحة ما دام العدوان على غزّة مستمراً

نفّذ حزب الله أمس 8 عمليات ضد مواقع وثكنات وتجمّعات جنود العدو الإسرائيلي ونقاط انتشارهم على طول الحدود مع فلسطين المحتلة.وفي سلسلة بيانات متلاحقة، أعلنت المقاومة الإسلامية استهداف مواقع المالكية، وحدب يارون، والراهب، وبياض بليدا، ونقاط ‏انتشار جنود العدو في محيط موقعَي جل العلام‌ والعاصي، ومرابض ‏مدفعية العدو في خربة ماعر، وثكنة زرعيت (قرية طربيخا اللبنانية المحتلة).
وتناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية أنباء عن إطلاق صواريخ مضادة للدروع من لبنان تجاه المستوطنات والمواقع في شمال فلسطين المحتلة، وانطلاق صافرات الإنذار فيها. وتحدّثت «قناة 12» العبرية عن أضرار لحقت في مبنى داخل «برعام» بعد إصابته بصاروخ مضاد للدروع أُطلق من لبنان. فيما قالت قناة «كان» العبرية إن «الشعور في الشمال قاسٍ جداً، وخاصة الشعور بأن حزب الله ما زال هو من يحدد السقف».

«كان» العبرية: «الشعور في الشمال قاسٍ جداً»

وفي السياق، قال نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم إنّ ما يقوم به حزب الله عند الحدود الجنوبية «هو مقاومة ودفاعٌ مشروعٌ بل وواجب وطني». وأضاف في كلمة ألقاها خلال حفل تأبين الشهداء علي إدريس سلمان، ‏وحسين عصام طه، وحسن علي دقدوق: «منذ البداية أعلنّا كحزب الله أنَّ جبهة لبنان هي جبهة مسانِدة، وهي مسانَدة واجبة وليست مستحبة وهي لمصلحة لبنان وفلسطين». وأكّد أن هذا العدو لا يفهم إلَّا لغة القوة لردعه ومنعه من تحقيق أهدافه الآن وفي المستقبل»، وأشار إلى «أننا لن نرضخ لأي إشارة من أي جهة تتحدث عن تسوية أو إضعاف أو إنهاء لهذا السلاح، لأنَّ القوة هي التي تجعلنا نعيش في بلدنا مستقلين ومرفوعي الرأس، كما تجعلنا قادرين على مواجهة التحديات ووضع حدٍّ للتوحش من أن ينتشر ويمتدّ». ولفت إلى أنه «ليس معلوماً الآن ما إذا كانت وتيرة القتال ستبقى متأرجحة صعوداً ونزولاً في هذه الدائرة المحدودة، ونحن قلنا، إن هذا مرتبط بتطورات الميدان وما يمكن أن تتخذه إسرائيل من قرارات ونحن لها بالمرصاد»، مؤكداً أنَّ «حزب الله على جهوزية عالية جداً، والجبهة في لبنان ستبقى مفتوحة ما دام العدوان على غزة مستمراً». وشدّد نائب الأمين العام لحزب الله على أنه «لن تنفع معنا لا التهديدات ولا الإغراءات ولا ربط ما يجري على الحدود بأيّ استحقاق داخلي، ولا نناقش مع أحد أي وضعية للجنوب اللبناني مع استمرار العدوان على غزة. وعندما يتوقف العدوان على غزة عندها لكل حادث حديث، ونرى ما الذي يتطلب نقاشاً وما هو خارج أي نقاش».

- «اليومُ طويلٌ جداً جداً»: أصوات من الزنزانة

في ما يلي بعض شهادات ومشاهدات ومواقف للأسرى في سجون الاحتلال، تمكّنت «الأخبار» من توثيقها، برغم من الإجراءات المشددة في المعتقلات منذ السابع من تشرين الأول، وذلك بالتعاون مع المحامين والأهالي والأسرى المحرّرين:

[12 تشرين الثاني]«في طريق عودتنا إلى القسم، رأينا السجان يسحب عدداً من الأسرى الجدد على الأرض بطريقة مرعبة. حاولتُ الصراخ، إلا أنه تمّ منعي بسرعة. المشهد مرعب ويذكّرني بما كنا نشاهده نقلاً عن سجن أبو غريب وغوانتانامو».

ما بعد عملية المقاومة، «طوفان الأقصى»، أعلن العدو الصهيوني حالة الحرب، وشرع في إعلان قوانين الطوارئ، ولم يعد يأبه لأي منظومة أو يراعي أي قوانين دولية، حتى ولو شكلياً كما كان في السابق. تغيّرت الأحوال بعد الهزيمة الكبرى التي لحقت بالعدو، وشرع في بثّ العنف والهيجان على الصعد كافة، والتي طاولت الأسرى العُزّل في السجون، إذ باتوا ملاذاً لتفريغ حالة الهيجان والعنف عند كل جولة خاسرة في غزة. واستمر في استخدام مختلف الأساليب البربرية، إذ بدأ يُدخل الكلاب أثناء «العدد» على ساحة الأقسام ويطلقها على الأسرى، بعدما كان ممنوعاً في السابق.
■ ■ ■

[11 تشرين الثاني]
إهانات واستفزاز وإجراءات أكثر تشديداً. ونحن بانتظار الزيارة، رأينا مشهد وحدات النحشون وهي تُدخل الكلاب على الأسرى، وصوت الصراخ والضرب، وكم يتكرّر هذا المشهد، وبكثير من الأساليب الوحشية المهينة. السجون أصبحت زنازين حقيقيةً، بكل التفاصيل والإجراءات. وبرغم كل هذا الغضب المُنصبّ علينا، سيبقى هناك غدٌ مشرقٌ بعنوان الحرية، هذا ما يسيطر على كل الحركة الأسيرة.
■ ■ ■

[12 تشرين الثاني]
بعد ما خلّصنا زيارة مع المحامي، كنّا محشورين في زنزانة، واحنا راجعين بحكولنا ارجعوا وانتو منزلين روسكم، وانحناء كامل، أنا ما رضيت، ودبّ الصوت، وناديت الضابط، وتنّحت معي على تياسة، واتجمعوا كلهم وضليت على موقفي، وما رديت، واحنا ماشيين شفت سجانة كلبة ماسكة بطاقتي وبتحكي عنها، قلت الله يستر، المهم رجعنا مرفوعين الراس على القسم.
■ ■ ■

[17 تشرين الثاني]
ما زال كل شيء يسير بصعوبة بالغة، وما زالت تلك الإجراءات الانتقامية تكثر وتزداد، في طبيعة المضايقات اليومية المعيشية مروراً بكميات الأكل ونوعه، وصولاً إلى حالة العزل والكبت على أتفه الأمور وأبسطها. حتى شكل العدد أصبح مختلفاً. أجبروا الجميع أثناء العدد على الرجوع إلى آخر الغرفة بجانب الحمام، وهذا إجراء جديد، ناهيك عن الصوت المرتفع أثناء العدد، وخاصة في الصباح الباكر جداً، وكيف هي طريقة الاستفزاز والضرب على الأبواب لخلق حالة من الرهبة والرعب في قلوب الجميع. الأيام هنا تسير بشكل عسير وبصعوبة بالغة، ولا نعلم ماذا سيكون في انتظارنا في الغد الأسوأ. الكل يتلهف لسماع خبر مفرح، بخصوص وقف إطلاق النار، أو أن تتم صفقة سريعة كانفراج أولي أمام هذا السخط. وأنا حالي كحال الجميع، أنتظر زيارة المحامي، حتى يتسنّى لنا معرفة الأخبار.
■ ■ ■

اليوم طويل جداً جداً، ومُملّ فعلاً، هذه الأيام سجن مرعب، وحقيقي، لكنّني أضع برنامجاً، علّي أخفف من التوتر، والشيء الوحيد الذي ينقذني كل مرة، هو صورنا التي استطعت تخبئتها بصعوبة، وبعض كلماتنا التي أخبئها جيداً، فهي الآن قوتي وقوّتي.
■ ■ ■

«بين 20 و25 كانون سَتلدُ الغنمة»
رغم شدة الألم والمعاناة، ما زال الأسرى يتفقدون حياتهم اليومية، ويفكرون بالتفاصيل الدقيقة، خارج السجن، تماماً كما كان الراحل نلسون مانديلا يقول: «لا شيء في السجن يبعث على الرضى سوى شيء واحد، هو توفر الوقت للتأمل والتفكير».
أحد الأسرى يتفقّد امتحان ابنه طالب الطب في مصر.
آخر يتفقّد قدم زوجته التي كانت تؤلمها قبل اعتقاله.
وآخر يتذكّر موعد ولادة إحدى غنماته، فيقول لمحاميه:
«أبلغ والدي أنه بين 20 و25 كانون الأول، ستلد الغنمة، احفظوا الموعد جيداً، وهيّئوا لها الظروف المناسبة، ستنجب الغنمة مولودها الأول».
■ ■ ■

يقول أسير لحبيبته التي ما زالت تنتظره منذ سنوات:
«ذكرياتي معك في الخارج هي الشيء الوحيد الذي يجعلني سعيداً ومُتلهّفاً للحرية».
■ ■ ■

تصاعدت الإجراءات مع كل يوم يمضي، ولم تعد الأهداف الإسرائيلية فقط هزيمة «حماس» واجتثاثها، وإنما أصبح هناك حاجة للعودة إلى صهر الوعي، فأصبحت وحدات التفتيش تدخل صباحاً ومساء على غرف الأسرى القاحلة، المفرغة من كل شيء، على ماذا يبحثون! لم يكن مسعاهم سوى التنكيل والقمع والتضييق:
«يبدو أننا في طريق الحرية، بدأت الابتسامات ترتسم على وجوه الأسرى، وأنا أفكّر كيف سيكون الإفراج، ما شكله، ومكانه، ومشهد اللقاء، كيف سنلتقي في اللحظة الأولى».
■ ■ ■

أخبار فقدان الأحبة
«المرارة والحزن تجرعناهما بجرعات الألم ووخزات القلب الموجعة التي لا تريد أن يرحل الأحبة، لا تريد لهذه الدموع أن تنهار، ماذا سأقول، كل الكلمات لا تستطيع أن تعبّر عن رهابة الموقف والحزن العميق والدمع الجارف المتجدد مثل الينبوع، المجد لك يا رفيقي».
كانت هذه كلمات أحد الأسرى عندما تلقّى خبر استشهاد رفيقه، كان يودّ لو أن ينتفض ويصرخ، لكن عزاءه الوحيد كان انتصار المقاومة الباسلة. لا تلغي الانتصارات الحزن العميق الذي انتابه، ولا شريط الذكريات الذي استجمعه في لحظات، ولا حُرقته وهو بعيد كل البعد وممنوع من وداع رفيقه. لم يكن أمامه خيار سوى استجماع قواه تارة، واستحضار الذكريات تارة أخرى، على مساحته الخاصة التي لم يعد سواها مكاناً خاصاً، «البُرش»، وهو ما يشبه السرير، فلم يعد هناك إمكانية للتجوّل في ساحة السجن الخارجية أثناء «الفورة» وأصبح الأسرى يجلسون على مدار اليوم كاملاً في الغرفة ذات المساحات الضيقة. نعم، أصبحت زنازين جماعية، ولم يعد للأسير لحظة للصفاء سوى إغلاق عينيه على برشه الخاص.
■ ■ ■

قولوا لزوجتي:
«صور الأحبة والأهل هي سفينة الحرية التي نُبحر بها طيلة الوقت، بكل حبّ وأمل. 11 تشرين الثاني، صباح جديد، يتقدّم بنا إلى اللقاء الأجمل، لقاء الحرية والفرحة الأكبر، والغمرة القوية الجنونية».
■ ■ ■

بحسب شهادات أحد الأسرى، الذي أمضى أكثر من نصف عمره داخل أقبية السجون، والمعروف عنه الزهد والصلابة، الصمت والحزم، الخجل والتواضع، يعيش على الكفاف:
«الوضع الآن تحت خط الجوع. وجبتان من الطعام، ذي رائحة كريهة، وكميات قليلة، ولكن نأكله، لا خيار آخر، وفي الليل تهبّ رائحة حرائق النفايات، تملأ الغرف، مزعجة وكريهة».
■ ■ ■

في رسالة أحد الأسرى لوالدته:
«7 تشرين الثاني، وصلنا خبر استشهاد أسير آخر، الوضع متوتر، وحالة استنفار في الإدارة، استمرار في الإغلاق، والحرمان من أبسط الحقوق، حرمان من كل شيء. والجميع بدت عليه علامات التعب والإرهاق والملل إلى حدّ لا يطاق. بس أنا منيح، وصحتي تمام، المهم انت منيحة وكلكم مناح».

- كونوا بخير... نلتقي قريباً
[رسالة كتبها أسير فلسطيني لدى سجون الاحتلال الإسرائيلي في اليوم الـ35 على بداية حرب «طوفان الأقصى»]
اليوم الخامس والثلاثون على الحرب، على الحالة الأكثر تعقيداً وأكثر تصعيداً، والأكثر حزناً، غابت عنا كل مشاهد الحزن، لكن شعرنا بها، بين السطور وفي بعض الأخبار المُسرّبة هنا وهناك، حالة الألم والاعتصار اليومي، التلذّذ بالموت، الأعداد الخيالية للشهداء، طريقة الاستهداف الخارجة عن كلّ الأعراف وليس فقط القوانين الإنسانية الدولية. مستشفيات: الأهلي، والمعمداني، والأندلسي، والأقصى، والمساجد والكنائس، الحجر والبشر وكل شيء يسير، مُستهدفٌ، كل الأشياء استوقفتنا.
في مشهد مختلف، أو ليس مختلفاً، فهو متكرّر لكن هذه المرة بصورة رهيبة وعصيبة، وتصعُب ترجمتها، مشهد اغتيال عائلة المراسل وائل الدحدوح، الدموع الإنسانية، لا يوجد أكثر من هكذا إرهاب على المباشر، وكيف هم الغزيّيون يستقبلون خبر استشهاد عائلاتهم، هذان هما الألم والحزن.
بعضُنا، والكثير منّا، دخلوا السجن يافعين، بكل طاقة وحب، تحوّلوا في ثنايا الزمن إلى شباب وشيب، وكهلة ومرضى، متعبين، وحزينين ومنهكين، وتوّاقين إلى صوت الأقفال وهي يتفكّك عنها الصدأ، لتُكسر بالحريّة والحب.
نعم، لسنا بخير، الكلّ ليس بخير، منذ أكثر من 35 يوماً وصعوبة العذاب تزداد، وقهر الموت يأتي. مشاهد الحقد وصوت البكاء ومشاهد الإذلال لا تختفي من الذاكرة. الصمت يخيّم على الجميع، والكل ينتظر الحريّة القريبة. لم يعد شيء هنا بخير، نعيش في أسوأ حالة على مر تاريخ السجون والاحتلالات. نعم انتزعوا منا كلّ الأشياء، وما تبقّى في قلوبنا هو الصبر والصمود والثبات. لم يبقَ شيء إلا ومنعوه، أو حرمونا منه. الصُّراخ في كل مكان، مشاهد الضرب المرعبة للأسرى تعمّ كل الأقسام. الكلاب في كل مكان. جاهزون لأي اقتحام أو قمع. مشاهد الاستفزاز لا تفارق وجوههم، صباحاً ومساء. ينتظرون منا كلمة أو تعليقاً، كي يبدأ مشهد الضرب والسلخ والغاز. لا دواء ولا كهرباء، ولا ماء نظيف، ولا طعام. قد ضاقت بنا الدنيا، كلنا، ضاقت كثيراً.
وفي كل يوم نرى وجوهنا شاحبة، سوداء، مليئة بالحزن، الحد الأدنى من متطلبات هذه الحياة محرومون منه، البرد بدأ ينهش في عظامنا. لا طاقة فينا، سوى الأمل والإيمان بالنصر. لم ترَ الشمس أجسادنا منذ الحرب، والجميع متلهّف إلى خبر سعيد، وبصيص أمل.
نعم، هم يقتلوننا ونحن أحياء، يحاولون إفراغنا من كل هذه المضامين الإنسانية والوطنية. وفي كل يوم نصحو على إجراءات وننام على أشياء أعقد. في هذه الظروف، اليومُ بأكثر من سنة، والكل متلهّف إلى خبر عن الأهل والأحباب، عن الحال والأحوال. الطاقة الوحيدة المتبقية لنا كلنا هي المحامون، في نقل الخبر، والحقيقة، وهذا أصبح بكل صعوبة، كل الأشياء معقّدة.
لكن، سنبقى رافعين راية الثبات، والصمود، ولن نترك هذا البيرق، وهذا ما تبقّى لنا، وسوف نخرج أحراراً ومحرّرين. ومع كل خبر نسمعه عن المقاومة نزداد ثباتاً وطاقة. ومع كل فشل في العملية البرية الإسرائيلية، نزداد فخراً ونصبح أقرب إلى الانفراج والحريّة والنصر. وكل هذه المشاهد ستصبح مكتوبة على شكل روايات وقصص وتُنشر إلى كل العالم. وكم من حكاية نُسجت في هذه الحرب داخل السجون، وكم من مشهد شوهد بكل حزن وموت وإهانة. كونوا بخير... ونلتقي قريباً أحراراً رافعين الرؤوس.
يقول عبد الرحمن منيف في روايته «شرق المتوسط»: «أريدك أن تكون حاقداً وأنت تُحارب، الحقد أحسن المعلمين، يجب أن تحوّل أحزانك إلى أحقاد، وبهذه الطريقة وحدها يمكن أن تنتصر، أمّا إذا استسلمت للحزن فسوف تُهزم وتنتهي، سوف تُهزم كإنسان، وسوف تنتهي كقضية». وهذا فعلاً ما آمن به الشعب الفلسطيني؛ فرغم محاولات الاحتلال الحثيثة لتدجين المقاومة، وفلسفاتها المختلفة ما بين كي الوعي، وغيرها، لم يستطع الاحتلال كبت جماح المقاومة وقتل الثائر الحر. فالثائر لا يموت، والمقاومة نهج وفكرة وليست حالة مرحلية.
نعم، تحوّلت الأحزان إلى رد فعل مقاوم، لتستردّ الطفل الغائب عن حضن أمه، ولتستعيد الشجرة وظلها، والأرض وأحجارها، فكان السابع من أكتوبر الهزيمة الكبرى التي لحقت بالكيان الصهيوني، وجعلته أشبه بأي ثور هائج يحرق كل ما هو أمامه. وليس أدلّ على ذلك من دعوة وزير التراث الإسرائيلي إلى إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة لحرق كلّ من فيها، بمن فيهم الأسرى الإسرائيليون.

من ملف : أميركا تستفيق: كفانا جنوناً * / الأخبار



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2183427

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع تقارير وملخصات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2183427 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40