الجمعة 25 كانون الثاني (يناير) 2019

25 يناير: السنوات العجاف «تأكل» الثورة

ملف / الاخبار اللبنانية
الجمعة 25 كانون الثاني (يناير) 2019

ربما يكون مرور ثماني سنوات على «ثورة 25 يناير»، وخمس سنوات «تقريباً» على خسارة الثورة معظم مكتسباتها، مؤشراً خطيراً على بطء التغيير في المجتمع المصري. فبقاء محمد حسني مبارك 29 سنة و120 يوماً على الكرسي بالاستبداد، وإن تخفّفت قيوده قليلاً في أعوامه الأخيرة، رسّخ دولة عميقة مؤسستها الأقوى هي الجيش الذي يستمدّ دعائمه مما قبل مبارك. ما يخيف أهالي «المحروسة» والمهتمين بهم أن الوضع قد يحتاج إلى سنوات شبيهة لتأتي «الساعة الصفر» مجدداً. فعبد الفتاح السيسي خرّب ما لا يمكن أن يُعمّر بسهولة، ليس بإفلاس الدولة ورهنها بشروط «صندوق النقد الدولي»، وهو ما لم يفعله مبارك نفسه، وليس بـ«إنجاز» مشاريع لا يُعرف كيف بدأت وأين ستنتهي، مثل تفريعة السويس والعاصمة الجديدة، فحسب، بل بالتفريط بأرض مصرية كما جزيرتَي تيران وصنافير، وتدمير مدن مثل رفح والشيخ زويّد، وتهجير فئات كاملة (كالأقباط) من السويس... وصولاً إلى الاندفاع في المشاركة في «صفقة القرن» التي إذا نجحت، فستغير وجه المنطقة إلى الأسوأ

- الجيش باقٍ في السلطة: التسليم لم يتمّ أصلاً!

يشبه تنحّي حسني مبارك عن الرئاسة، وتسليمه السلطة للمجلس العسكري (بقيادة وزير الدفاع المشير حسين طنطاوي) في 11 شباط/ فبراير 2011، حالة «انتقال سلمي» للحكم داخل الجيش نفسه، لكن من دون صراع أو اضطرار إلى اتخاذ قرارات قد يكون لها عواقب وخيمة على البلاد التي عمّتها التظاهرات منذ 25 كانون الثاني/ يناير.
فالجيش، الذي لم يصوّب أسلحته تجاه المتظاهرين، لم يناصر مطالبهم إلا بعد تنحّي مبارك، إذ وجد الضباط أنفسهم في معركة سياسية بين تيارات تريد الكرسي بناءً على وعد الجيش بالتسليم بعد «انتخابات حرة نزيهة».

لم يكن قادة الجيش صادقين في رغبتهم عن الرئاسة

مرّت الأيام لتظهر أن الانتخابات لم تكن سوى جزء من مسرحية فقد فيها الجيش الحكم ظاهرياً لأشهر، قبل أن يعود إليه مجدداً في إطار ديموقراطي انقلب إلى قمعي في النهاية. وهكذا استعاد من تبقّى من «الجنرالات» الحكم، بغض النظر عن التنازلات والثمن المدفوع للعودة. فمنذ «ثورة 1952»، لم يترك الجيش الحكم إلا عاماً وثلاثة أيام فقط للرئيس الأسبق محمد مرسي، الذي خسر منصبه جراء تظاهرات سياسية لا يصعب على أي مصريّ اكتشاف أن الجيش دعمها بالخفاء. هكذا، أدار الجيش الساحة السياسية بذكاء، فعندما أخفق في التعامل بقوة مع المطالب السياسية والفئوية اضطر إلى الاعتذار، وتأكيد أن رصيده لدى الشعب المصري يكفي للعفو عن الأخطاء، لكن سرعان ما أدار المشهد من الخفاء بأسلوب اعتمد على اصطناع الأزمات بعد وصول مرسي إلى الحكم، وصولاً إلى تحريك الشارع ضده. وأكبر دليل على ذلك أن الميادين مضبوطة اليوم كما يريد العسكر، وهو ما كانوا قادرين عليه من قبل.

الوقوع في فخّ العسكر
أما مرسي، فلم يكن مرغوباً فيه من البداية، ليس لانتمائه إلى «الإخوان المسلمون»، لكن لأن فكر الجماعة لم يكن متّسقاً مع رؤية الجيش لمستقبل البلاد في مرحلة ما بعد مبارك. وهنا وقع الرئيس الإسلامي في الفخ، إذ توهّم أنه يحكم بدعم الجيش، وخاصة بعد إطاحته المشير طنطاوي من حقيبة الدفاع، والفريق سامي عنان من رئاسة الأركان. والحقيقة أن من خَلَفهم في المناصب لم يختلفوا كثيراً عنهم في تفكيرهم، فتواصل اصطناع الأزمات من انقطاع الكهرباء وزيادة الضرائب وتخفيض قيمة العملة وغيرها من القرارات التي اضطر مرسي إلى العدول عن بعضها. والمفارقة أنه بعد «30 يونيو» ووصول عبد الفتاح السيسي إلى الرئاسة، قرّر الأخير أضعاف ما قرّره مرسي، لكنه استعمل «قبضة أمنية حديدية» لمنع الاعتراضات.
منذ «ثورة 1952» لم يترك الجيشُ الحكمَ إلا عاماً وثلاثة أيام فقط لمرسي

بعبارة أخرى: أخفق مرسي، المسجون الآن، في التعامل مع «الدولة العميقة» التي أظهرت له عكس ما أبطنت، فكانت تعليماته تطاع ظاهرياً، لكن تحركاته تراقَب وتسجَّل على مدار الساعة للتعامل معها، فيما كان وزير دفاعه، السيسي، يتحرك لجمع المعارضة وتشكيل جبهة من مختلف الأطياف تساند تحركاته، وتدفع إلى مرحلة انتقالية جديدة بانتخابات مبكرة. آنذاك، لم يظهر «الجنرال» رغبة في السلطة، ودلّ على ذلك باستغلال رئيس المحكمة الدستورية ليكون خطوة وسطاً بين المرحلة الانتقالية، ومرحلة انتقاله من فريق أول إلى مشير (لا تمكن محاكمته إلا استثناءً أمام الجيش وبقواعد محددة ومشددة) إلى مواطن مدني يقدم أوراق ترشحه للانتخابات!
من الأصل، لم يكن قادة الجيش صادقين في رغبتهم عن الرئاسة، فالمشير طنطاوي منع الفريق عنان من الترشح في انتخابات 2012 حتى لا يُحسب مرشحاً عن الجيش، لكن الأخير واصل طموحه بعد ذلك حتى انتهى به الأمر في السجن العسكري جراء اتهام السيسي له بـ«الفساد ومخالفة القواعد العسكرية»، في محاكمة سرية حُظر النشر فيها منذ العام الماضي. والنتيجة أن الجيش عاد ليحكم أقوى مما كان أيام مبارك. عودة لم ترتبط بتوسيع أنشطة العسكر الاقتصادية فحسب، بل بالنفوذ في مؤسسات الدولة كلها، بداية من الوزارات، وصولاً إلى المحليات والإعلام وغيرها، فبات هو المسيطر والمالك لعدد كبير من المشروعات التي تُبنى الآن، ويحقق منها عائدات تقدّر بالمليارات، خارج أي نطاق لمحاسبات حقيقية.

«لاعبٌ ماهر»
ولأن السيسي فهم اللعبة، اعتمد من البداية على الجيش، فتسلّم الدولة منهارة أمنياً، وأنزل الجيش إلى الشوارع في المرحلة الانتقالية الثانية، وأمر بمنع إعفاء الشباب من التجنيد بحجة الاستفادة منهم جميعاً؛ إذ إن المجندين يعملون خلال التجنيد الإجباري ـــ مهما تكن مؤهلاتهم العلمية أو سنوات خدمتهم (عام للمؤهلات العليا، واثنان لحَمَلة المؤهلات المتوسطة، وثلاثة لمن يُختار ضابطاً من المؤهلات العليا أو الأميين)، برواتب زهيدة لا تكفي حتى مصاريف انتقالهم من مدنهم إلى أماكن خدمتهم، وهم مجبرون على العمل على مدار الساعة في أي مهمات تسنَد إليهم.
واليوم، يستغل الرئيسُ الجيشَ في إقامة المشروعات التنموية ما بين بناء مدن جديدة ورصف الطرق وتمهيدها، وصولاً إلى بناء عاصمة جديدة في الصحراء على أطراف توسعات القاهرة. وهي كلها، وإن كان ظاهرها التنمية، فباطنها السخرة والمكسب، وقد حقّق الجيش مكاسب هائلة من هذه المشروعات، ليس بامتلاك إدارتها وتأجيرها أو من الرسوم المفروض عليها فحسب، بل من أرباح التنفيذ. حتى شقق الإسكان الاجتماعي التي تُبنى لمحدودي الدخل هدفت إلى الربح، وصار الجيش مالكاً رئيسياً أو شريكاً بـ«نسبة حاكمة»، مثل نسبة 51% في العاصمة الجديدة، وذلك من دون أن يدفع أي مال!
أيضاً، في تجربة الجيش خلال عهد السيسي، صارت المؤسسة العسكرية دولة داخل الدولة؛ فمنافذ التموين يمتلكها الجيش، والطرق السريعة يديرها العسكر وينفذها، ومشاريع الإسكان تنفذ غالبيتها القوات المسلحة، والأرباح تدخل خزينة الجيش فقط من دون أن تكون هناك رقابة على هذه المبالغ، سواء كانت في أوجه الإنفاق أو استغلال الأرباح. كذلك، بات الجيش يحتكر ليس في السلع فقط، بل في الإعلام، إذ ضيّق الخناق على القنوات المختلفة، فاضطر أصحابها إلى التنازل عن حصص الغالبية فيها، وباتوا شركاء في مختلف المحطات مع باقي الأجهزة الأمنية التي أصبحت تدير صراعاتها عبر منصاتها الإعلامية ليُقضى على تجربة الإعلام الخاص التي سمح بها مبارك مع بداية الألفية.
باختصار: قضى السيسي على مدنية الدولة التي كانت قد بدأت تأخذ مسارها حتى في عهد مبارك، المدنية التي تكفل حق أي مواطن غير عسكري في الوصول إلى السلطة، لكنها الآن حلم ربما يحتاج الى سنوات أخرى، أو ثورة، حتى يمكن تحقيقه مجدداً.

- الإسلاميون: مقامرة سريعة بخسائر مؤلمة

لم يكن وصول الإسلاميين في مصر إلى السلطة، «الإخوان المسلمون» إلى الرئاسة وأحزاب أخرى إلى البرلمان، سوى «انتعاشة مؤقتة» خرجوا فيها من السجون قبل أن يعود معظمهم إليها مجدداً، أو يفرّ من استطاع هارباً

لم تدمِ الانتعاشة التي عاشها الإسلاميون مع «ثورة 25 يناير» طويلاً، لينتهي الحلم الذي انتظروه عقوداً بإقصائهم بالقوة. فحتى الذين حاولوا الاندماج في مرحلة ما بعد محمد مرسي لم يجدوا إلا النكران، كذلك حُرموا فرصة أي دور يشار إليه بالبنان، لتعود بهم الذاكرة إلى ما حدث إبّان حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
صحيح أن «25 يناير» أخرجت الإسلاميين من السجون بأعداد كبيرة، لكن حريتهم انتهت بعد أقلّ من 30 شهراً، خاصة في مرحلة ما بعد «3 يوليو» التي جرت فيها ملاحقات واسعة لهم شملت المعارضين للنظام أو الذين حاولوا التأقلم مثل «حزب النور»، فكان القرار النهائي إقصاء هذا التيار الذي حصل على ممثلين في الوزارات للمرة الأولى أيام مرسي. إذاً، لم يكن للإسلاميين دور في حسابات عبد الفتاح السيسي، باستثناء «بيان 3 يوليو» الذي شارك فيه رئيس «النور» للتأكيد أن الاعتراض على مرسي لم يكن مرتبطاً بكونه إسلامياً فقط، وهو ما ساهم في إضفاء شرعية كبيرة على التحالف الذي سرعان ما تفكّك بعد أسابيع.

عدد الإسلاميين المسجونين راهناً أضعاف عددهم زمن مبارك

بنظرة سريعة، خسر الإسلاميون من «25 يناير» كلّ ما بنوه في عقود، وليس المقصود حصراً مصادرة أموالهم وإيقاف مشاريعهم وانتقال إدارتها إلى الدولة، بل في ضعف الحضور السياسي والشعبي، والتعرّض للاعتقال المُغطَّى قانوناً، بالإضافة إلى اضطرار عدد كبير منهم إلى الهرب خارج البلاد، ما بين «خروج شرعي» قبل إصدار قوائم المنع من السفر، أو غير الشرعي، لينتهي المطاف بمن سافروا غالباً إلى قطر أو تركيا أو بريطانيا.
والآن، بعد 8 سنوات من الثورة، لم يعد للتيار الإسلامي السياسي وجود، باستثناء حضور ضعيف لسلفيي «النور» الذي واجه انقسامات بين أعضائه، بسبب اتخاذ قيادته مواقف تتعارض مع ما قام عليه الحزب، حتى في ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية التي تتعارض من وجهة نظرهم مع الشريعة. ولذلك، هوت قواعدهم المجتمعية كثيراً في زمن السيسي، ليس بسبب حملات التشويه في وسائل الإعلام ضدّهم، بل لانشقاق القيادات وانقسامها في ظلّ إحجام عن المشاركة في أيّ فعاليات جماهيرية. في الوقت نفسه، انتبهت الدولة إلى أسلوب «الإخوان» والسلفيين في «التغلغل» الاجتماعي، عبر المساعدات التي كانوا يوزعونها على الأسر الفقيرة، خاصة في الصعيد، فساهمت في منع هذه المساعدات ومراقبة مصادر الإنفاق.
وحتى الآن، لم يخرج أي من القيادات الإسلامية من السجن، والأعداد المحدودة من القيادات والقواعد الشعبية التي كانت مسجونة أيام مبارك صارت أضعافاً الآن، وبتهم مختلفة وأحكام لا تقلّ في أفضل الأحوال عن عشر سنوات، ما جعل كثيرين من المؤيدين حتى في الخارج يخافون. في المحصّلة، لم ينجح الإسلاميون في تجربة التوافق مع السلطة الحالية، ففضّلوا الانطواء بعيداً حتى إشعار آخر، علماً بأن النظام الذي كان قد تقرّب منهم في مراحل (لدرجة أن السيسي استدعى القيادي السلفي ياسر برهامي إلى مكتبه في وزارة الدفاع) بات مستغنياً عنهم كلياً.

- الشرطة: انتقام وتصفيات بالجملة

لم تستغرق عودة الشرطة المصرية إلى الممارسات القمعية سوى سنوات قليلة. وهي ممارسات لا تقتصر على المواطنين، بل تطاول حتى العناصر والضباط الرافضين لانتهاك حقوق الإنسان

عندما قرّر المصريون التظاهر في عطلة «عيد الشرطة» عام 2011، لم يكن غضبهم من النظام وتصرّفاته فقط، بل من ممارسات جهاز الشرطة. فقد كان المحرك الرئيسي لـ«ثورة 25 يناير» صفحة «خالد سعيد» على «فايسبوك»، وهو الشاب الاسكندري الذي قتلته الشرطة في الإسكندرية، واتهمته بتعاطي الحشيش، على رغم ثبوت وفاته نتيجة التعذيب.
صحيح أن سعيد لم يكن الوحيد الذي قُتل بالطريقة نفسها ضمن سياسة السجون السرية والتعذيب المنهجي لدى قيادات «أمن الدولة» («الأمن الوطني» حالياً)، إضافة إلى تكميم أي تحرك سياسي، والقبض على الإسلاميين والمعارضين للنظام وحبسهم، من دون قيود إلى جانب تلفيق الاتهامات، لكن اضطهاد وزارة الداخلية للمواطنين لم يكن سوى جزء من مشهد مورست فيه أقصى الانتهاكات. لذا، كان طبيعياً أن تكون أقسام الشرطة وأماكن الاحتجاز الهدف الأول للثوار الذين واجهوا قنابل الغاز والرصاص، ما أدى إلى استشهاد ألف على الأقل وإصابة الآلاف.
خلال الثورة، بدا أن دخول الأمن لم يأتِ في مصلحة نظام حسني مبارك، الذي حمته القبضة الأمنية على مدار نحو 30 عاماً، بل تسبّب في تفاقم الموقف، وانتقال شعار التظاهرات إلى استهداف «الداخلية» بجانب الرئاسة، حتى بعد سقوط جهاز الشرطة بالكامل، وتوقيف وزيرها حبيب العادلي للتحقيق في الانتهاكات التي حدثت في عهده. وعملياً كان تدخل العقل الأمني لتدبير «موقعة الجمل» ضد الثوار في ميدان التحرير القشة التي قصمت ظهر البعير، لتخرج الشرطة لنحو أربع سنوات من المعادلة الأمنية على نحو شبه كامل.

تحالف الضرورة
لذلك، تصدّت الشرطة في المرحلة الانتقالية الأولى ظاهرياً للاحتجاجات. وفي تلك المدة، توالت القرارات التي اتخذها وزراء متعاقبون من أجل إعادة هيكلة «الداخلية»، مثل حلّ «أمن الدولة»، واستبدال «الأمن الوطني» به عبر هيكلية شبيهة مع تغيير الوجوه والمسمّى فقط. وقد ادعى الوزراء بأن الوزارة لا تملك أسلحة خرطوش، مع أن الأوراق الرسمية تؤكد صدور قرارات باستخدام بنادق الخرطوش في التعامل مع التظاهرات.
وعملياً، لم «تتحالف» الشرطة مع المواطنين سوى في حكم محمد مرسي (ما بين منتصف 2012 ومنتصف 2013 فقط)، ثم صار ضباطها في طليعة المتظاهرين المطالبين بإسقاط حكم الأخير، ولم يتعرّضوا للناس، بل جمعوا أدلة تدين نظام الرئيس الإسلامي لتقديمها إلى القضاء، وهو ما ساهم في تشديد العقوبات القضائية ضد طاقمه، على عكس ما جرى مع ضباط نظام مبارك، حينما مُحيت البيانات المُسجَّلة عليها أوامر كثيرة صدرت خلال أيام الثورة.

تتمسك «الداخلية» دوماً بالدفاع عن رجالها المتورّطين في القتل

صحيح أن الشرطة «تحالفت» مع المواطنين ضد مرسي، لكنها تحولت بعد ذلك لتقف ضدهم كلياً، ليس ضد المعارضة الإسلامية فحسب (عندما استعملت العنف المفرط في فضّ اعتصامات الإسلاميين في ميدانَي رابعة والنهضة)، بل بمواجهة أي تحرك معارض للنظام. فكان تصدي العناصر والضباط لأي تظاهرات أقوى وأعنف مما كان أيام مبارك، بالاستفادة من تعديلات قانونية خلال حكم عدلي منصور وعبد الفتاح السيسي، بتقييد التظاهر وتشديد العقوبات الخاصة بـ«التظاهر دون تصريح».
أيضاً، لم تنس «الداخلية» استهداف مقارّها إبان «ثورة يناير» وما بعدها من عمليات إرهابية تعرّضت لها، فتحوّلت أقسام الشرطة إلى ما يشبه الثكن العسكرية، بينما صار التعامل العنيف مع أي تحرك هو سيد الموقف من دون أي نقاش، وبات مصير مَن يتظاهر في أي شأن هو السجن، إذ لم تعد الوزارة تتحمل خروج الناس الى الشارع، وخاصة ميدان التحرير، باستثناء الوقفات التي تنظمها الدولة على غرار وقفة الترحيب بولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في زيارته الأخيرة للقاهرة. وفي المكان نفسه، قبل نحو أربع سنوات، قتلت الشرطة الناشطة شيماء الصباغ، التي نزلت لإحياء ذكرى الثورة بالورود، فنالت رصاصة خرطوش منها. حاولت الوزارة تهريب الضابط من المسؤولية، لكن الضغط الإعلامي أسفر عن محاكمة صورية له حصل فيها على حكم مخفف.

تغيير الأسلوب لا المنهج
سنة بعد سنة، تحوّل وزراء الداخلية من بعد ثورة 25 يناير من وزراء ودودين لديهم رغبة في استعطاف المواطنين وتأكيد أن الوزارة ستدعمهم، إلى وزراء يتوعّدون بالردع والعقاب. صحيح أن الدولة واجهت تحديات أمنية استلزمت التعامل بقوة، لكن قوة «الداخلية» كانت على الجميع، واستخدمت في قتل المواطنين بالتعذيب وطمس الأدلة ليحصل الضباط على براءات أو أحكام مخففة.
الانتهاكات لم تتوقف على التعذيب، بل امتدت إلى التصفية الجسدية للمواطنين، تحت دعوى «مواجهة الإرهاب». تفيد التقارير بأن 200 شخص على الأقل قتلوا خلال آخر عامين بالطريقة نفسها من دون التحقق في صلتهم بجماعات إرهابية بالفعل، ضمن حوادث متفرقة كان عنوانها الرسمي «المواجهات المسلحة»، لكن واقعاً كان الأمر مختلفاً، فالأسلحة المضبوطة في جميع عمليات التصفية بلا استثناء لا تتناسب مع الأسلحة المحكي عنها.
واللافت في عمليات التصفية إعلان أسر عدد من المتوفين أن أبناءهم قبضت عليهم الشرطة قبل إعلان قتلهم، كما أن حوادث كثيرة لم يجر التحقيق فيها بعدلٍ، كما في قتل ستة أشخاص بدعوى أنهم قتلة الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، وثَبُت لاحقاً أنه لا علاقة لهم بذلك، ولم تكن لديهم أسلحة، على رغم إثبات الشرطة العثور على بعض متعلّقات ريجيني في منزل أحدهم.
ودوماً تتمسك الشرطة بالدفاع عن رجالها المتورطين في القتل، وهو منهج لا تتنازل عنه، الأمر الذي يظهر بوضوح في قضية مقتل ريجيني نفسه، الذي ترفض «الداخلية» الاعتراف بقتله على رغم أن أدلة وشواهد كثيرة تشير إلى تعذيبه وقتله على يد ضباط بعينهم في إدارة «الأمن الوطني»، وهؤلاء جرت ترقيتهم للتغطية عليهم. المشهد بمجمله يؤكد أن الشرطة عادت أسوأ مما كانت عليه قبل 2011، وانتقمت من كل الذين انتقدوها أو طالبوا بإعادة هيكلتها، بعدما صار التعرّض لها، حتى باستفسارات تحت قبّة البرلمان، من المحرّمات.

- القضاء في خدمة الأنظمة: الثورة لم تصل إلى المنصّة

لم تصل «ثورة 25 يناير» إلى القضاء لا في يومها ولا بعد ذلك. القضاة لا يزالون مسيّسين بفجاجة وبعيدين عن الحيادية، إذ كانوا ولا يزالون أكبر خادم للنظام، لكن هذه المرة من دون مقابل!

في كل مرة كان يستعين فيها الرئيس المخلوع، حسني مبارك، بالقضاء، سواء في الإشراف الصوري على الاستفتاء أو التعديلات الدستورية، كان القضاة يحصلون على امتيازات، ليست مالية فقط، بل إدارية تخصّهم دون غيرهم، كتمديد سن التقاعد أكثر من مرة حتى وصل إلى 70 عاماً في القانون الحالي.
ومع حدوث الثورة عام 2011، استفاد القضاة مؤقتاً، عبر صيغ قوانين منحتهم الاستقلالية أكثر، ومن بينها أحقية جمعيتهم العمومية في اختيار رؤساء الهيئات القضائية، وحصانة «المحكمة الدستورية»، وأحقية جمعيتها العمومية في اختيار رئيسها من بين الأعضاء، بعدما كان يحقّ لها اختيار رئيسها من أي هيئة قضائية أخرى، كما كان يفعل مبارك.
لكن هذا الاستقلال الجوهري أطيح بموجب تعديلات أقرّها مجلس النواب، قلّصت صلاحيات القضاة في اختيار رئيسهم أو اتباع مبدأ الأقدمية المطلقة في الاختيار، إذ صار يحقّ لرئيس الجمهورية اختيار رؤساء الهيئات القضائية من بين ثلاثة أسماء تُرشَّح له بدلاً من اسم واحد. صحيح أن هذه النقطة مثار جدل في الهيئات القضائية المختلفة، ويشوبها خلل دستوري واضح جراء تعارضها مع استقلال السلطة القضائية المنصوص عليه في دستور 2014، لكن «الدستورية» لم تستطع الفصل سريعاً في الأمر لأسباب سياسية بحتة، على رغم تضرّرها من القرار.

دعم مبكّر
أما بعد تولي عبد الفتاح السيسي الحكم، فلم تبقَ خسارة القضاة محصورة في فقدان الامتيازات التي حصلوا عليها من الثورة، بل امتدّت لتصل الى الامتيازات المالية التي تقلّصت ضمن خطة الدولة في ترشيد النفقات وتخفيض الرواتب، فضلاً عن انتزاع مميزات أخرى كان يفترض أن يحصلوا عليها في ما يتعلّق بالبدل والمكافآت، وهو ما دفع «نادي القضاة» أخيراً إلى تقديم شكوى إلى «مجلس القضاء الأعلى» من أجل تحسين الظروف المالية لهم بما يتناسب مع غلاء الأسعار، إذ كانوا يحصلون دوماً على مكافآت تفوق بكثير معدلات الغلاء.
مع ذلك، حصل السيسي على دعم القضاة مبكراً، ليس من رئيس ناديهم، أحمد الزند، فحسب (إبّان تولّي محمد مرسي الحكم)، بل في دعوتهم المستمرة لدعم السيسي بوصفه رمزاً للدولة الوطنية التي تعيد إلى القضاة هيبتهم، بعدما انتقص منها مرسي خلال سنة حكمه الوحيدة، أو انتقاده مشاركتهم في عمليات التزوير الانتخابية إبّان عهد مبارك. لكن الدعم الذي قدّمه القضاة والزند شخصياً تغاضى عنه «الجنرال»، لدرجة أن الزند نفسه أقيل من منصب وزير العدل على خلفية تصريحه بأن «نجل البوّاب لا يمكن أن يعمل في القضاء».

حتى مَن دعم السيسي من القضاة لم ينله رضا الرئيس

طوال السنوات الماضية، تساهل القضاة كثيراً مع إجراءات الدولة، فكانت قراراتهم انتقامية من جماعة «الإخوان المسلمون»، وأحكامهم بعيدة عن العدالة ضدّ أي شخص تقدّمه وزارة الداخلية إلى المحاكمة إلا قلة قليلة. وعلى رغم غياب أدلة في قضايا كثيرة، أصدر القضاة أحكاماً مشدّدة بحق مئات المتهمين، كما تغاضوا عن الانتهاكات التي تعرّض لها هؤلاء في حجز الشرطة أو السجون رغم تأثيرها ظاهرياً فيهم، كما حدث مع المصور محمد شوكان.
أيضاً، توالى رفض القضاة على المنصة أو في مراحل التحقيق إخلاء سبيل المتهمين بقرارات مؤقتة، رغم أنه لا مخاطر حقيقية منهم، كما كانوا يرفضون وضعهم قيد الإقامة الجبرية. وبقي القضاة يتعنّتون بوضوح مع غالبية المتهمين، وكذلك فعل محقّقو النيابة الذين ظلّوا يحتجزون المتهمين مدداً طويلة من دون اتهامات واضحة، ليقضي منهم طلبة وشباب شهوراً وربما سنوات قيد «الحبس الاحتياطي»، مع أن رموز نظام مبارك خرجوا تدريجياً من السجون وتم التصالح مع غالبيتهم في مختلف القضايا المالية، أو حصلوا على براءات لـ«ضعف الأدلة».

إهانة «الشيوخ»
في جانب آخر، أهان القضاة شيوخهم الذين انتموا إلى الثورة وشجّعوها. إهانة ليست في الإقصاء من المناصب القيادية والإبعاد عن تولّي أي قضايا مهمة فقط، بل التصيّد لهم ولأبنائهم في السلك القضائي. وكان من ذلك عقوبة الحبس لبعضهم مثل المستشار محمود الخضيري، وهو نائب رئيس «محكمة النقض» السابق ــــ أعلى جهة قضائية ــــ وإقصاء ابنة المستشار هشام جنينة بسبب منشور كتبته على «فايسبوك»، كما رفضوا عودة وزير العدل في حكومة «الإخوان» أحمد سليمان إلى المنصة، في حين قبلوا عودة الوزير في الحكومة نفسها، المستشار حاتم بجاتو، إلى «الدستورية»، لأنه دعم السيسي منذ البداية واستقال من منصبه قبل إعلان إطاحة مرسي.
وحالياً، لا يتوقف القضاة عن تأييد السيسي مطلقاً، وحتى اعتراضهم على تعديلات قانون رؤساء الهيئات القضائية كان محدوداً خوفاً من غضب «الجنرال» الذي حصل على كل ما يريده منهم حتى الآن، بينما ترك لهم منظوماتهم الداخلية في اختيار خلفائهم لتقتصر على أبنائهم وأبناء عمومتهم، لكن مدعومة بتحرّيات أمنية راسخة. وحتى النائب العام الذي عيّنه الرئيس، بات ينفذ جميع التعليمات الحكومية مباشرة، في خطوة جعلت قرارات النيابة العامة في مختلف القضايا متوقعة، ومستندة إلى المواقف الحكومية، وهو ما ظهر في قضايا التنظيمات المتهمة بالإرهاب والأشخاص المتهمين بالانتماء إليها.

- «عيش، حرية، عدالة اجتماعية»... التي لم تتحقّق
«عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، هي شعارات الثورة المصرية التي لم تتحقّق حتى الآن؛ فلا العيش توفّر، ولا الحرية موجودة، ولا العدالة الاجتماعية وجدت ضالتها في المجتمع. استبقت هذه الهتافات إسقاط النظام، لكن بعد مرور هذه السنوات لم يتحقّق أي منها؛ فالأوضاع الاقتصادية التي تمرّد عليها المصريون في 2011 باتت أسوأ من تلك المرحلة، والفقراء ازدادوا فقراً، والأغنياء زادت أموالهم، خاصة بعد تعويم الجنيه وتخفيض العملة بأكثر من 300% في ثماني سنوات.

من الطبقات الوسطى إلى الفقيرة
تكلفة العيش ارتفعت أكثر من أي وقت مضى، بعدما زادت أسعار الخدمات والسلع وكذلك الضرائب والجمارك بصورة غير مسبوقة، بالإضافة إلى تراجع الإنتاج المحلي، واعتماد الدولة على فرض الرسوم والضرائب لزيادة مصادر الدخل، بدلاً من البحث عن وسائل غير تقليدية من أجل تعويض عجز الموازنة المتدهور.
كلفة العيش زادت في المدن كافة، مع زيادة أسعار العقارات بصورة مبالغ فيها، جراء تدخل الدولة في الاستثمار العقاري وتحويله إلى تجارة مربحة، فزادت التكلفة على رغم بقاء معدّلات الطلب كما هي، ما أوجد فائضاً من الوحدات السكنية والأراضي. والآن هناك مدن كاملة فيها آلاف الوحدات غير المبيعة، خاصة في الصعيد والمدن الجديدة.

حتى نظام مبارك لم يقبل التعامل مع «صندوق النقد الدولي»

أما أسعار السلع الأساسية، فقفزت على نحو رهيب، باستثناء رغيف الخبز الذي بقي سعره «شلن» (5 قروش)، حتى لم يبقَ سعر لسلعة كما كان. ورافقت ذلك زيادة تكلفة النقل، ورفع الدعم عن المحروقات التي زادت أسعارها بنحو خمسة أضعاف على الأقلّ منذ 2011. وتواصل الحكومة تطبيق المزيد من الإجراءات لإلغاء الدعم الكامل، كي يتحمّل المواطنون سعر الوقود وفق الأسواق العالمية، في بلد يقلّ فيه متوسط دخل الفرد عن 100 دولار أميركي شهرياً.
في الوقت نفسه، لم توفر الحكومة فرص العمل، بل أوقفت التعيينات الحكومية وقَصَرتها على القطاع الخاص الذي يقدم رواتب لا تتناسب مع أرباحه، بينما عادت سياسة الخصخصة في صورة طرح لأسهم الشركات في البورصة. وقبلت الحكومة قرض «صندوق النقد الدولي»، بل سعت إليه ونفّذت جميع شروطه، مع أنه الصندوق الذي رفض نظام حسني مبارك التعامل معه بسبب سياساته الاقتصادية التي تؤدي إلى زيادة الفقر، وتحقّق نتائج اقتصادية على حساب الفئات الأكثر فقراً، وهو ما حدث بالفعل بعدما سحب آلاف الأسر من الطبقة المتوسطة إلى الطبقات الفقيرة، وتغيّرت العادات اليومية للأسر.
ومن جهة أخرى، أكلت الدولة جميع الزيادات الرسمية التي أقرّتها كعلاوات استثنائية أو كزيادة في الرواتب في الشهور الأولى بعد الثورة، فأخذت من المواطنين أكثر مما أعطت، لتنتهي إلى موازنة مثقلة بالديون، مع توقّف عجلة الإنتاج بصورة شبه كاملة، إلى جانب ركود متكرّر في قطاع السياحة.

الحريات والعدالة تحت الطحن

في شأن الحريات، يَصدق المثل: «حدث ولا حرج» على قمعها، إلى درجة تفوق ما كان عليه الوضع قبل 2004. فالدولة لم تعد تسمح بالتظاهر أو الاعتراض، ودفعت برجالها في جميع المجالات ليعتلوا المناصب المختلفة بالانتخاب، مُوجِهةً الدعم المالي إليهم. وهكذا صارت تحافظ على الإطار الشكلي للديموقراطية، لكنها في الواقع تمارس الإقصاء ورفض الصوت المعارض، حتى لو من داخل النظام. فكان اختيار نواب البرلمان بما يشبه التزكية من الأجهزة الأمنية، ولم يتمكّن سوى عدد محدود للغاية من الوصول إلى تحت القبّة باسم المعارضة، ليكون «نائباً بلا أنياب»، ثم تعرّض كثيرون منهم لحملة تشويه لم تتوقف.
حتى الحريات النقابية التي كانت موجودة بهامش جيد في عهد مبارك لم تعد موجودة؛ فالنقابات جرى تأميمها تقريباً، وجميع قياداتها صاروا في طوع الحكومة كلياً أو هم مغضوب عليهم ولا يتمكنون من أداء مهماتهم (كما حدث في «نقابة الأطباء»)، أو يمرّرون ما تريده الحكومة بغض النظر عن الرفض الفئوي، كما حدث في «نقابة الصحافيين» التي يتولى منصب النقيب فيها رئيس مجلس إدارة مؤسسة «الأهرام»، وهو صار يوافق على قوانين ولوائح تتعارض مع حرية الصحافة، كما منع التظاهر على سلم النقابة الذي لطالما احتضن الوقفات الاحتجاجية.

أما الشباب، فانقسموا إلى فرق، فمنهم من سافروا مضطرين، وآخرون بقوا خلف القضبان، أو اضطروا إلى الصمت حتى يستمروا في أعمالهم. حتى الفئة الأخيرة تتعرّض لاضطهاد ومضايقات وتهديدات بقضايا قديمة لا تزال مفتوحة أمام القضاء من الناحية الشكلية.
أخيراً، العدالة الاجتماعية لا تزال غائبة، ليس بسبب التفاوت الكبير في الدخل بين الفئات الأكثر فقراً أو الأكثر دخلاً فقط، بل لأن عناصر الجيش والشرطة وأسرهم هم الذين استفادوا أكثر من غيرهم من المطالبة بالعدالة الاجتماعية، بعد زيادة رواتبهم ومكافآتهم لتتضاعف في مدد قصيرة، فضلاً عن مزايا مالية كبيرة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 75 / 2184524

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع تقارير وملخصات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2184524 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40