منذ التظاهرات التي اندلعت في ساحة تقسيم وامتدادها إلى معظم المدن التركية، وما نتج عنها من قتلى وجرحى ومعتقلين، وما يتمخّض عنها هذه الأيام من تفاعلات وتداعيات، والمتتبعون بإعجاب للنموذج التركي مندهشون من تسارع الأزمة في بلد ظنّوه نموذجاً يحتجّ به في المواءمة بين حكم إسلامي ونمط غربي وعضوية أطلسية وطموحات أوروبية وعلاقات مع “إسرائيل” .
منذ بدء أحداث التسونامي العربي الدموي المسمى ربيعاً، قدّم رجب طيّب أردوغان نفسه حائزاً جائزة نوبل ل “النصائح” التي اشتكى من عدم استماع الأنظمة الموجهة إليها لنصائحه والإصرار على أن ما يجري في بلدانهم مجرّد مؤامرة . وكان هناك مستوى لا بأس به من مقوّمات مرور “نصائح” أردوغان عبر العقول والقلوب، لأن الجاهل وحده لا يرى أن لها أرضاً وجذوراً لدى الأنظمة المقصودة . ورغم أن السياسة الأردوغانية على الأرض لم تقدّم ما يثبت أن نصائحه “ببلاش”، إلا أن العقل السياسي مضطر على احترام نفسه والإقرار بأنه “لا يصحّ إلا الصحيح” .
لم يستطع المستجيبون مع هذه الجزئية في السياسة التركية الاحتفاظ بها طويلاً، وبخاصة بعد قضية الفساد الأخيرة التي طالت الدوائر المقرّبة من أردوغان وقيادة حزبه “العدالة والتنمية”، حيث تصرّف الرجل كمن كان يلبس قناعاً ونزعه فجأة . لم يلتزم بالنصائح التي وجّهها لغيره واختزل كل ما يجري ب “المؤامرة الخارجية” التي يشارك فيها الجهاز القضائي والشرطة وأوساط في داخل حزبه .
كل من ينجذب لقشور الأشياء ثبت له أن أردوغان أخرج من داخله نزعته البونابرتية إذ ظنّ أن تراجع الجيش طوعاً إلى ثكناته مع بداية ظهور حزب العدالة والتنمية، بمثابة انتصار مؤسسة حزبية على مؤسسة عسكرية، وأن ما اعتبرها هزيمة للأخيرة لا بد أن تنسحب على جهازي القضاء والشرطة، وعندما فوجئ بعدم تسليم الجهازين لبونابرتيته أخرج من جاروره اتهامات “التآمر”، وظن أن تحويل الشرعيّة الانتخابية من نمط طبيعي لا منة لأحد فيه إلى هراوة لضرب رؤوس الخصوم، يمكن أن يمنع التفجّر الحتمي للتناقضات المتراكمة بسبب التعاطي الإمبراطوري مع أزمات دول المنطقة، وتحويل “النصائح” إلى تدخّل فجّ واستعلائي مع عدم إخفاء نوايا ذات طبيعة تاريخية . وإلا كيف نفسّر تعامل أردوغان مع دولة بحجم مصر كأنها إحدى ولاياته أو حتى مزارعه؟
ربما يستغرب المراقبون والمحللون هذا الصمت المدوي لداوود أوغلو، العقل المفكّر لأردوغان، لكنه صمت ربما يعبّر عن إحساس بالفشل، وكان يمكن للمواطن التركي العادي ألا يتوقّف طويلاً عند تجوّف السياسة التركية الخارجية وتجوّف شعار “صفر مشكلات” وتحوّله إلى “مئة في المئة مشكلات”، لكنّه لا يستطيع أن يبقى غير مبال بالمكابرة والعناد في التعاطي مع قضية فساد غير مسبوقة في تاريخ تركيا .
لم ينظر أردوغان تحت قدميه وهو يتعاطى مع الأزمة، بل نظر لخسارة حليفه الإخواني الحكم في مصر، بعقلية “الفأل السيئ”، والمفارقة التي قد يقف عندها المؤرخون يوماً ما، أن الحراك التركي هو الوحيد الذي لا أصابع خارجية فيه، لكن أردوغان يكابر ولا يريد أن يعترف بعمق الأزمات الداخلية والخارجية وعدم قراءة فيلسوف حزبه للمتغيّرات، وربما عدم النظر في المرآة للتأكد من أن ثمة شيخوخة تداهم كل كائن حي .
الجمعة 17 كانون الثاني (يناير) 2014
تركيا وشيخوخة تجربة
الجمعة 17 كانون الثاني (يناير) 2014
par
أمجد عرار
مقالات هذا المؤلف
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
17 /
2184090
ar أقسام الأرشيف أرشيف المقالات ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
17 من الزوار الآن
2184090 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 18