عندما نرى أن الضفة الغربية تشتعل من أقصاها إلى أقصاها فهذا يعني أن ظروف الانتفاضة الثالثة، التي تمثّل كابوساً ل”إسرائيل”، قد نضجت وآن أوانها .
بالتأكيد إن الأسرى يحتلّون مكانة خاصة في قلوب ووجدان الفلسطينيين، لذا كانت الوقفة معهم بحجم تضحياتهم ومعاناتهم، ولم تقتصر على مسيرات ومهرجانات، بل التحم الشبان على الحواجز ونقاط التماس مع جنود الاحتلال وقطعان مستوطنيه .
ومع أن التضامن مع الأسرى هو عنوان المسيرات والتظاهرات والمواجهات، لكن أوضاع الأسرى مثّلت نقطة اللاعودة في حالة الإحباط التي تسود الشارع الفلسطيني، بعد تراكمات عديدة أهمها تغوّل الاستيطان وتهويد القدس، والتضييق على الفلسطينيين وتجويعهم، وتصاعد عربدة المستوطنين المتطرفين وغياب الأفق السياسي، ما شكّل دفيئة مناسبة لإنضاج الانتفاضة وإطلاقها . وكما في الانتفاضتين السابقتين، كانت حادثة دهس مستوطن حاقد لمجموعة من العمّال الفلسطينيين، في الأولى، والزيارة الاستفزازية للمجرم أرييل شارون إلى المسجد الأقصى، في الثانية، الشرارتين اللتين أطلقتا الانتفاضتين، لكنهما بالتأكيد لم تكونا السببين الوحيدين لاندلاعهما، بل بعد أن بلغ السيل الزبى ووصلت الأمور إلى حد الانفجار .
“إسرائيل” تمنّي نفسها، كما في المرات السابقة، بأن هذه المواجهات “سحابة صيف” وستنقشع سريعاً، ظانة أن محاولاتها لرشوة السلطة ببعض من فتات أموال الضرائب التي تحتجزها، سيعمل على إخماد الحريق الذي أشعلته هي، وبات من الصعب السيطرة عليه .
هل تظن أن الشعب الفلسطيني يتحرك بكبسة زر، أم أن باستطاعة أي كان أن يمنع غضبه؟ أم أنها راهنت كما في السابق على انصراف الشباب الفلسطيني نحو اهتمامات أخرى غير قضيته، على أساس مقولتها “موت الآباء ونسيان الأبناء”، متجاهلة أن فلسطين تسكن وجدان أبنائها من أصغرهم إلى أكبرهم؟
إذا كانت “إسرائيل” جادة في التهدئة عليها، على الأقل، العمل سريعاً وبشكل فوري على إطلاق سراح جميع الأسرى المضربين عن الطعام ومعهم الأسرى القدامى ومن تحتجزهم منذ ما قبل اتفاق أوسلو عام ،1993 وتطبيق اتفاقي التبادل من دون ألاعيب أو تأويلات، وما ترتب على خرقهما من اعتقالات، ووقف سياسات العزل والاعتقال الإداري، مع أن ذلك ليس كفيلاً بوقف الاحتجاجات ولا يضمن لها أحد ذلك .
لكن ما يؤكد أنها ليست جادة وأنها تريد الحصول على كل شيء من دون أي مقابل، هو قتلها للأسير عرفات جرادات أثناء التحقيق معه متجاهلة شعباً كاملاً ينتفض من أجل أسراه، وتجديدها الاعتقال الإداري للأسير سامر البرق بعدما تعهدت له بإطلاق سراحه مقابل وقف إضرابه عن الطعام الذي استمر على مدى 125 يوماً .
ختاماً، فإن ما يجعل في القلب غصة هو الحالة التي وصل إليها الانقسام، فبالرغم من حالة التضامن والوحدة والتآلف التي يعيشها الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة للاحتلال، إلا أن حركتي “فتح” و”حماس” ماضيتان في المناكفات وتعميق الانقسام، وبدل من أن تقدما التنازلات لبعضهما بعضاً من أجل إنهاء الانقسام والمسارعة إلى الالتحاق بانتفاضة شعبهما، ها هما تماطلان وترجئان لقاءات المصالحة التي باتت طحناً للماء لا أكثر .