اجتماع دولي آخر يعقد لبحث وبال العنصرية، تقاطعه الولايات المتحدة وأتباعها من الدول الغربية، والذريعة المكررة أن هذه الدول تخشى أن يتحول المؤتمر إلى ميدان للهجوم على «إسرائيل». الاجتماع الذي عقد هذه المرّة في نيويورك مرّ بلا ضجيج أو صخب، ذلك بأن كثيراً من المقاعد خلت من الحضور، حتى وإن حضره الأمين العام للأمم المتحدة التي لا تمنع رعايتها للمؤتمر أنصار «إسرائيل» من وصفه بأنه «كرنفال للكراهية»، لأن كل من ينتقد «إسرائيل» وممارساتها بنظرهم، متهم إما باللاسامية وإما بالكراهية وإما، وهذه تهمة ظهرت حديثاً، بنزع الشرعية عن «إسرائيل».
قبل عشر سنوات احتضنت مدينة دوربان في جنوب إفريقيا أول قمة لمناهضة العنصرية، وكانت حدثاً عالمياً بامتياز، إذ واكبته تحرّكات شعبية من مناهضي هذا الوبال ورافضي العولمة والمؤيدين لنضال الشعوب المضطهدة في مختلف أصقاع الأرض. لكن ما جرى في المؤتمر وحوله لم يَرُقْ لـ «إسرائيل» والولايات المتحدة وأتباعهما، فانسحب ممثّلوها من المؤتمر، تماماً مثلما فعلوا في نسخة جنيف، وعندما شطب المجتمعون الإشارة إلى عنصرية «إسرائيل» من البيان الختامي، أشاد شمعون بيريز بالمؤتمر.
هذه المرّة عمدت الأطراف التي اعتادت الانسحاب، إلى اختصار الطريق وفضّلت المقاطعة باعتبار أنها تعرف مسبقاً أن الحديث عن العنصرية لا يمكن إلا أن يجلب معه «إسرائيل»، لأن الشيء بالشيء يذكر.
الدول المقاطعة كانت تخشى من تعالي أصوات دول في الشرق الأوسط ضد «إسرائيل» والولايات المتحدة، لكن غياب أي تمثيل رسمي أمريكي لم يمنع ممثلين لأوساط أهلية من المشاركة، بل والحديث عن العنصرية في الولايات المتحدة ذاتها، حيث أكد ممثلون من مركز عمال ميسيسيبي لحقوق الإنسان عن مصانع في الولاية الواقعة في جنوبي الولايات المتحدة، أن السود فيها يجبرون على العمل في ظروف أشبه بالرقّ.
لكن أليست مقاطعة مؤتمر مناهض للعنصرية هي ذاتها ممارسة عنصرية تستحق الإدانة؟ فمؤتمر من هذا النوع لن تستخدم فيه مسدّسات أو متفجّرات، ولن يرتفع سقفه أكثر من إعلان المواقف. فهل «أستاذة الديمقراطية» السيّدة أمريكا والسيدات تابعاتها لا تتّسع صدورها للتعبير عن الرأي؟ كان يمكن لأمريكا أن ترسل وفداً يمثّلها ويدافع عن وجهة نظرها، إلا إذا كانت تعدّ نفسها لا تملك وجهات نظر، وإنما أحكام وأوامر فحسب، وهذه ليست قابلة للنقاش. كان بإمكانها أن تأتي وتتباهى بأن أغلبية الشعب الأمريكي قطعت شوطاً لا بأس به في نبذ العنصرية، بدليل انتخابها باراك أوباما رئيساً لها، وهذا لم يكن أحد يتصوّر حدوثه قبل عشر سنوات فقط. كان يمكن لها أن تأتي لتفسّر دفاعها المستميت عن دكتاتوريات كثيرة في العالم، ومنها من ارتكب جرائم إبادة جماعية، ومنها على سبيل المثل دكتاتورية بينوشيه في تشيلي، وأبرزها تبنى عنصرية «إسرائيل». فإذا اقتنع المشاركون تبنوا وجهة نظرها في بيانهم، وإن لم تكن عقولهم قابلة للقناعة، يصدر موقف، بيان، كلام ينتقد المجتمعون فيه العنصرية وكل من يمارسها أو يدعم ممارسيها.
هذه المواقف بالذات هي التي تجعل العنصرية والتمييز العرقي يشكلان تحدياً للإنسانية التي تحتاج إلى جهد جماعي لتخليص العالم منهما، ومن هنا تكمن أهمية المحافظة على هذا المؤتمر الذي ينبغي على الأمم المتحدة أن تحوّله إلى مناسبة سنوية، وتوسّع المشاركة فيه بحيث تشمل أكبر عدد من ممثلي المؤسسات المناهضة للعنصرية، وتخصص جائزة قيّمة للجهة الأكثر نشاطاً في مناهضة العنصرية، المرض الأشد فتكاً في الوقت الحاضر.