السبت 26 حزيران (يونيو) 2021

معجزات «سيف القدس»: هكذا حفرت المقاومة النصر

السبت 26 حزيران (يونيو) 2021

إعداد: يوسف فارس

في الجزء الثاني من الملفّ الذي تنشره «الأخبار» حول ما أظهرته معركة «سيف القدس» من تطوّر هائل في قدرات المقاومة الفلسطينية، وما ينبئ به هذا التطوّر من مفاجآت أكبر في أيّ مواجهة مقبلة، يتقدّم الحديث عن الصواريخ بوصفها درّة تاج العمل المقاوم في قطاع غزة، حيث يكاد السعي إلى تطويرها وتحسين دقّتها لا ينقطع، ولو لبرهة. مساعٍ هي من الجدّية بمستوى يجعل المقاومين يعدون جمهورهم، بثقة وارتياح، بأن قصف مقرّ وحدة إدارة المعارك في إسرائيل، «الكرياه»، لم يَعُد حلماً، «بل هدف هناك من يعمل لتحقيقه». وإذا كان طموح المقاومة، في مجال الصواريخ، هو أن تصل إلى «قصف أهداف نقطية بالغة الدقة، برأس تدميري كبير»، فإنها في مجال سلاح المدفعية حقّقت بالفعل قفزات مدهشة، لن تكون من المبالغة معها استعارة وصف جوزيف ستالين للمدفعية بأنها «آلهة الحرب العالمية الثانية»، للقول إن «الهاون» بات «آلهة» المعركة الغزّية المتجدّدة في وجه العدو.

- صواريخ المقاومة ما بعد «سيف القدس»: انتظروا قصف «الكرياه»

كان علينا أن نعاين أحد المرابض الصاروخية التي طاولها القصف الإسرائيلي، كي نقترب أكثر من الوحدة التي صنعت المقاومة بينها وبين الكاميرا خصومة لم نستطع خلال إعداد هذا الملفّ تجاوزها بأيّ من السبل. رافقَنا أحد المقاومين إلى النقطة التي أحدثت فيها غارات الطائرات حفرة بعمق يتجاوز عشرة أمتار وبقطر يقارب 15 متراً. في الطريق، لم يَفُت الرجلَ أن ينبّه مراراً إلى أن هذه المهمّة ليست رسمية. صحيح أن المكان قد «احترق» - أي كُشف أمره -، ولم يَعُد صالحاً لاستخدامات عسكرية أخرى، لكن المقاومة في العادة لا تسمح للصحافة بزيارة أماكن كهذه. بحسب أبو الوليد، ضابط المدفعية الذي تحدّثت إليه «الأخبار»، فإن عدداً محدوداً جداً من المرابض الصاروخية والمدفعية استطاعت الطائرات الإسرائيلية استهدافه، عقب خروج رشقات صاروخية كبيرة منه؛ إذ بإمكان الطائرات المُسيّرة الإسرائيلية في بعض الأحيان أن تحدّد نقطة ما انطلقت منها الصواريخ، لكن بالمجمل، والكلام لضابط «سرايا القدس»، «هناك المئات من المرابض الصاروخية ووحدات مدافع الهاون، وما طاله القصف بعد إتمام المهمة، العشرات من النقاط فقط».

بالعودة إلى المنطقة التي غيّرت قنابل الـ»جي بي يو» الأميركية ملامحها، فقد قصفتها المقاتلات الإسرائيلية بعد أن انطلق منها عدد من الصواريخ ذات المدى البعيد، غير أن هذا القصف الانتقامي لم يغُيّر من واقع الأمر شيئاً، إذ كانت الصواريخ قد انطلقت وانتهى الأمر، يقول المقاوم الشاب، موضحاً أن هناك احتمالية لأن ينكشف مكان المربض بعد استنفاده مهمّته، إلا أن هذه الفرضية لا تكون دقيقة دائماً. وممّا كشفته مصادر المقاومة لـ»الأخبار»، أنها امتلكت معلومات عن توظيف جيش الاحتلال منظومة تكنولوجية متطوّرة، كانت ستوكل إليها مهمّة تحديد أماكن انطلاق الصواريخ، عبر رصد أيّ تغيّر في درجة حرارة ذرّات الهواء المحيطة بتلك الأماكن، لكن، قبل المعركة، كان خبراء المقاومة قد جهّزوا آلية بدائية للغاية - لن تخطر ببال مراكز أبحاث العدو - استطاعوا عبرها تجاوز التقنية الإسرائيلية الجديدة، وإعماءها عن تحديد المواقع النقطية لانطلاق الصواريخ. وعن الرحلة التي تقطعها الصواريخ بدءاً من تربيضها حتى تفعليها، يقول الشاب: «الحكاية لا تُحصر زمانياً بالأيام أو بالشهور؛ هناك صواريخ تمّ تربيضها منذ سنوات تتجاوز الأربع، وهي لا تتطلّب جهداً في تذخيرها في باطن الأرض والذي يُعدّ مرهقاً جدّاً فقط، إنما أيضاً في رعايتها وتأمينها وصيانتها بشكل شهري. هذا العمل يقوم به عدد كبير من المقاومين الذين يتوزّعون على تخصّصات يكمل بعضها بعضاً، تبدأ بوحدات التصنيع والتجريب، وتمرّ بالوحدات التي تقدّم الإحداثيات، وصولاً إلى المقاومين الذين يعملون على تربيضها، ثمّ الوحدات التي تتولّى صيانتها طوال المدة، حتى المقاوم الذي يقوم بمهمّة إطلاقها حين يتلقّى الإشارة بذلك».
في خلال وجودنا، قام المقاومون بانتشال أحد الصواريخ الذي لم يتأذَّ من القصف. أخبرنا الفريق التقني أن الصاروخ من عائلة «بدر»، فيما قَدّرنا بأنفسنا أن طوله يتجاوز الـ5 أمتار ونصف المتر بقليل. لعلّ هذا الحجم الهائل يدلّل ليس على قدْر الجهد المبذول في تربيضه فقط، بل أيضاً على الكلفة الهائلة التي يتطلّبها ذلك. يقول أحدهم: «ما نعلمه أن هذه الصواريخ ثمينة، فهي نتاج جهود طويلة استمرّت لقرابة 18 عاماً، وبُذلت في سبيلها ليس الأموال فحسب، بل الدماء».

أكثر ما يأمله المقاومون بل ويعملون على تحقيقه هو أن يصلوا بصواريخهم إلى قصف أهداف نقطية بالغة الدقة

في مطلع حزيران 2001، سُجّلت ولادة أوّل صاروخ محلّي الصنع أطلقته المقاومة. حينها، لم يكن مدى صاروخ «قسام 1» يتجاوز كيلومترَين، لكنّ الشهيدين نضال فرحات وتيتو مسعود عكفا على إجراء المئات من التجارب، حتى وصلت مديات الصواريخ إلى 4 كيلومترات في عام 2002، لتُستخدم في قصف المستوطنات المُقامة داخل أراضي قطاع غزة. وبعد فترة، دشّنت «سرايا القدس» صاروخها الأول الذي كان يحمل اسم «شهداء جنين». يقول أبو حمزة، وهو الناطق الإعلامي باسم «السرايا» إن «المجاهدين تجشّموا عناءً كبيراً في تحويل الفكرة النظرية إلى واقع عملي، جرى استثماره لاحقاً في قصف مستوطنات غلاف غزة، ولا سيما بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع عام 2005»؛ إذ خلّف الانسحاب واقعاً ميدانياً حوّل الصاروخ من شكل ثانوي من أشكال المقاومة، إلى أحد أعمدتها الرئيسة، حيث قلّص جيش الاحتلال هامش الاحتكاك بين المقاومين وجنوده، وذلك عبر صناعة مناطق جرداء من الأشجار على طول الحدود الشرقية للقطاع، تراقبها وسائل التكنولوجيا المتطوّرة على مدار الساعة.
ساهمت الصواريخ في التحايل على الوقائع الميدانية القائمة، فلم يَعُد المقاومون بحاجة إلى تنفيذ مهمّة استشهادية لزرع عبوة في موقع ما، إذا كانت الصواريخ وقذائف «الهاون» تقوم بالمهمّة. هذا في ما يخصّ غلاف غزة، أمّا في ما يتعلّق بمدن العمق، فقد أصبحت الصواريخ المُعادل الموضوعي للعمليات الفدائية التي كان ينفّذها المقاومون في الضفة الغربية وفي الداخل المحتل، وخصوصاً بعد المدى البعيد والتأثير المجدي اللذين ظهر أن المقاومة امتلكتهما في حرب العام 2012، عندما قصفت مدينة تل أبيب لأوّل مرّة بصاروخ من طراز «فجر» إيرانيّ الصنع. ووفقاً للأمين العام لحركة «الجهاد الإسلامي»، زياد النخالة، فإن المقاومة لم تحصل على الصواريخ البعيدة المدى من الجمهورية الإسلامية في إيران فحسب، بل نقل الحرس الثوري الإيراني تقنيات صناعة الصواريخ إلى القطاع، من أجل معالجة المشكلات التي تعترض وصول السلاح. وهنا، تَحضر النقلة النوعية التي سجّلتها صواريخ المقاومة ما بعد حرب العام 2008. حينها، كانت الصواريخ برمّتها صينية أو روسية الصنع، وأبعد مدى تصل إليه 40 كيلومتراً، فيما مدى الصواريخ المحلية يصل إلى حدود 20 كيلو متراً فقط. وكما أن ما قبل 2008 ليس كما بعده، فإن المقاومة ترى أن ما بعد 2021 ليس كما قبله. وعن ذلك، سألنا ضابط المدفعية في «سرايا القدس»، أبو الوليد، عن الطموح الذي تتطلّع إليه الوحدات الصاروخية، فأجاب أن «أبلغ ما يتمنّاه جندي المدفعية والصاروخية، أن يحقّق إصابة دقيقة في الهدف، ومستوى انفجارياً كبيراً يُحدث أثراً مجدياً، وأكثر ما يأمله المقاومون بل ويعملون على تحقيقه، هو أن يصلوا بصواريخهم إلى قصف أهداف نقطية بالغة الدقة، برأس تدميري كبير». هل سيأتي هذا اليوم؟ يجيب المقاوم الشاب مبتسماً: «ما نحن فيه اليوم كان حلماً في عام 2003، ربّما سيصبح اليوم الذي كُنّا نقصف فيه مدن العمق بالعموم ذكرى من الماضي الجميل، وستعلن المقاومة ذات يوم أنها استهدفت الكنيست الإسرائيلي أو مقرّ وحدة إدارة المعارك، الكرياه، وهذا ليس حلماً، بل هدف هناك من يعمل لتحقيقه».

- الغيوم لا تمطر صواريخ... إنها من سليماني

لم يمرّ اليوم السادس من المعركة قبل أن تضع «سرايا القدس» توقيعاً بارزاً على الحشود العسكرية المتاخمة للحدود الشرقية للقطاع؛ إذ أعلنت، في 15 أيار الماضي، تدشين صاروخ من العيار الثقيل، ليس بوزن رأسه المتفجّر فقط، بل باسم «القاسم» الذي اختارته «الجهاد» عرفاناً بدور الشهيد الذي كانت له اليد الطولى في ما وصلت إليه المقاومة. في مواصفات صاروخ «القاسم» الثقيل، يقول أبو الوليد، وهو أحد القادة الإعلاميين في «سرايا القدس»: «هو صاروخ ذو مدى محدود، يتميّز بزنة رأسه المتفجّر الثقيل جداً، والذي يبلغ 400 كيلوغرام من مادة الـ(تي أن تي) الشديدة الانفجار». وبحسب المعلومات التي أفصحت عنها «السرايا»، فإن الصاروخ قادر على تدمير المساحة المحيطة بانفجاره بمدى يتجاوز الـ200 متر، وهو مدى كبير جداً قياساً برؤوس الصواريخ المحدودة الوزن، وقد استُخدم في استهداف الحشود العسكرية شرق مدينة خانيونس. لم تفصح «السرايا» عن المدى الفعلي للصاروخ، غير أن أبو الوليد يوضح أن «فكرة المدى لم تَعُد مشكلة، إذ بإمكان وحدات التصنيع العسكرية، بما امتلكته من تقنية، أن تصل بالصواريخ إلى أبعد نقطة في فلسطين المحتلة»، مستدركاً بأن «ميزة القاسم هو ما يحمله من رأس متفجّر كبير، إذ إن سقوطه وسط حشود عسكرية أو تجمّع للجنود، يُحقّق نتائج دسمة».

وبالحديث عن التقنية، فقد تمكّنت المقاومة، خلال السنوات الماضية، من تصنيع مخزونها الصاروخي في داخل القطاع. وبحسب القيادي في «سرايا القدس»، فإن التطوّر الذي شهده التصنيع العسكري المحلي في مجال الصواريخ، جاء بعد الدور الكبير الذي لعبه محور المقاومة، ولا سيما الشهيد الحاج قاسم سليماني، في هذا الصدد. يوضح الرجل: «عقب حرب العام 2012، ظهر الدور الكبير الذي يمكن أن يلعبه توافر صاروخ بإمكانيات صاروخ فجر الإيراني الذي استُخدم في ضرب مدينة تل أبيب. لكن الأزمة، أن الطريق إلى وصول هذا النوع من السلاح ليست مفروشة بالورود ولا بالرمال أيضاً، إذ تخضع لظروف إقليمية ودولية متقلّبة وشديدة التعقيد». يتابع أبو الوليد: «وللتحايل على هذا الأمر، دخلت المقاومة في برامج تدريب مكثّفة احتضنها بعض دول محور المقاومة، وساهم ذلك في رفع كفاءة المقاومة في تصنيع الصواريخ والقذائف على النحو الذي ظهر في هذه الحرب، وفي المعارك التي خاضتها المقاومة بين الحروب خلال السنوات الماضية». أمّا عن سبب التسمية، فالأمر واضح: «غيوم السماء لا تمطر صواريخ، ولا خبرات لصناعة الصواريخ، فقد حصلت المقاومة في قطاع غزة على سلاحها وتقنية تصنيع سلاحها والمال اللازم لتصنيع سلاحها من محور المقاومة الممتدّ من غزة إلى طهران، وكلمة السرّ في كلّ هذا الإنجاز هي الحاج الشهيد قاسم سليماني، وهذا الصاروخ ذو الرأس الثقيل جاءت تسميته لتُخلّد بصمة الحاج قاسم، وتحيي ذكره، وتنسب الفضل إلى أهله».

- «جوكر» المعارك الآتية: «الهاون» يقهر «القبّة الحديدية»

حين وصف جوزيف ستالين المدفعية بأنها «آلهة الحرب العالمية الثانية»، فإن آخر ما كان يقصده بالتأكيد هو مدافع «الهاون»، على رغم الأهمية التكتيكية الكبيرة لها في الحروب، إلّا أن لغة الحوار التي كانت سائدة في ستالينغراد آنذاك، تحكيها مدافع «الهاوتزر» الثقيلة، التي تُماثل نظيرتها في جيش الاحتلال الإسرائيلي اليوم. لكن، ومنذ حرب العام 2014 حتى معركة «سيف القدس»، تمكّنت المقاومة الفلسطينية من «تأليه» قذائف «الهاون» البدائية، جاعلةَ منها سلاحاً فاعلاً في الميدان. تلك هي نتيجة قرابة عشرين عاماً من التجربة والخطأ، يقول أبو مصعب، وهو ضابط المدفعية الميداني في «سرايا القدس»، مضيفاً في حديثه إلى «الأخبار»: «لقد عُمّدت مدافع الهاون بدماء العشرات من الشهداء القادة والمجاهدين، الذين بذلوا حياتهم في سبيل تطويرها وتجويد أدائها منذ دخلت الخدمة كسلاح بدائي الصنع في منتصف الانتفاضة الثانية عام 2002». يحكي المتخرّج في تخصّص الرياضيات عن محطّات متعدّدة مرّ بها تطوير سلاح المدفعية، منذ كانت المدافع المتوافرة بعيار 60 ملم، وبارتداد مدفعي كبير يشتّت دقة الإصابة إلى مئات الأمتار في محيط الهدف، فضلاً عن خطورة التعامل مع المدافع سابقاً لكونها عرضة للانفجار. أمّا اليوم، فيَظهر سلاح «الهاون» بطابع تكتيكي فعّال جدّاً، بعدما استخدمته المقاومة في «سيف القدس» في استهداف الحشود العسكرية في «أشكول» في 18 أيار، وتسبّبت في مقتل جنديَّين اثنين وإصابة 14 آخرين. يتابع أبو مصعب موضحاً الخصوصية التي يتمتّع بها سلاح المدفعية اليوم، والتي جاءت نتاج التطوير الكبير على صعيد الدقّة النقطية التي تُحقّقها القذائف، وأيضاً الكثافة النارية الهائلة التي قصفت بها مختلف الفصائل الجنود المحتشدين على حدود القطاع بشكل متزامن. وقد تَطوّر أداء المقاومة في هذا التخصّص بعد دراسة التكنولوجيا التي كان يستخدمها العدو في تحديد الموقع الذي تنطلق منه القذائف خلال المعارك السابقة، وبعد استخلاص الدروس: «تَمكّنا من تربيض الهاون فوق الأرض وتحتها، بما لا يسمح لأجهزة المسح الراداري والجغرافي بتحديد مواقع المرابض بشكل دقيق». يكمل ضابط المدفعية الذي يشير محيط عينيه إلى أنه لم يغادر عشرينيات العمر: «صار بإمكاننا تقليص عدد الجنود المشاركين في عملية الإطلاق من خمسة إلى اثنين فقط، يكون واحد منهما فقط في محيط المدفع».

خرجت المقاومة بفصائلها كافة من الجولة الأخيرة بصفر خسائر بشرية في وحدات المدفعية

إضافة إلى ذلك، تُقدّم وحدات الرصد الأرضية والطائرات المُسيّرة تحديثاً مستمرّاً للأهداف الجديرة بالضرب. يستذكر الضابط الشاب: «في صبيحة يوم عيد الفطر (13 أيار)، تَوافرت لدى وحدة المدفعية معلومات دقيقة عن تحرّكات في محيط موقع كرم أبو سالم. وفي تمام الساعة الـ11 صباحاً، بدأت مرابض المدفعية بدكّ المنطقة وفق الإحداثيات المتوافرة، بقذائف الهاون. يومها، تحدّث الاحتلال عن حدث أمني خطير في المنطقة المستهدَفة، ظانّاً أن المقاومة استهدفت مركبة بصاروخ مُوجّه، ليتّضح لاحقاً أن قذيفة هاون سقطت على سيارة كانت تسير في المنطقة». وعلى نحو أكثر دقّة، يتحدّث ضابط «السرايا» عن استهداف تجمّع «أشكول» الذي استندت فيه الوحدات العاملة في الميدان، إلى المعلومات اللحظية التي كانت تُوفّرها المُسيّرات ووحدات الرصد الأرضية. استخدمت الوحدات المذكورة، يومها، نوعين من القذائف: الأولى صدمية تنفجر فور احتكاكها بالأجسام الصلبة، وبعد وجبة القصف الأولى، دكّت «السرايا» المنطقة نفسها بقذائف موقوتة، تنفجر بعد مدّة تراوح من دقيقة إلى خمس دقائق. كانت تلك الدقائق هي المدّة التي احتاج إليها الجنود للوصول إلى المكان المستهدف وتفقّده، وفور وصولهم انفجرت «الموقوتة» لتُحدث هذا الكمّ الكبير من الخسائر. وتتوافر لدى المقاومة عدّة عيارات من «الهاون» الأول (60 ملم بمدى يصل إلى كيلومترين)، والثاني (81 ملم بمدى يبلغ 6 كيلومترات)، والثالث وهو الأكثر فتكاً وتأثيراً (120 ملم بمدى 7 كيلومترات).

تكتيكات جديدة
غير أن قذائف «الهاون» لم تُؤدّ في هذه المعركة دور تشتيت الحشود والإضرار بها فقط، بل تخطّت مهمّتها ذلك إلى تعطيل رادارات منظومة «القبّة الحديدية»؛ إذ راكمت وحدات الرصد، خلال السنوات الماضية، معلومات وافية عن نقاط الرادار الخاصة بـ»القبّة»، والتي تكون عادة قريبة من الحدود، لتقوم وحدات المدفعية بدور فاعل في تعطيل عمل تلك النقاط، مُفسحةً الطريق أمام الصليات الصاروخية البعيدة المدى حتى تتجاوز صواريخ «القبّة»، على اعتبار أن إعادة تشغيل الرادار من جديد تحتاج إلى 60 دقيقة على أقلّ تقدير. هذا التكتيك، بحسب ما توضحه وحدة المدفعية، أعطى هامشاً واسعاً للمقاومة لكي تُحدّد ساعات إطلاق الصواريخ سلفاً، وتُحقّق وصولاً إلى المدن المستهدفة من دون اعتراض. كما ساهم «الهاون»، الذي لا تستطيع صواريخ «القبّة» التعامل معه بالنظر إلى سرعته التي تتجاوز سرعة الصاروخ بمراحل، في صناعة ما يُطلَق عليه عسكرياً: «العزل والتطويق بالنار»، وهو التكتيك الذي اتّبعته «كتائب القسام» في صناعة حزام ناري حول المنطقة التي استُهدفت فيها حافلة الجنود في «زيكيم» في اليوم الأخير من المعركة، حيث لم تسمح الرمايات النارية الكثيفة لسيّارات الإسعاف بالوصول إلى الحافلة لمدّة طويلة، الأمر الذي أشغل وحدات الجيش على نحو كبير، وسمح للمجموعة التي نفذت الهجوم بالانسحاب وتأمين سلاحها بأريحية بالغة.

المحاكاة نجحت
يقول أبو مصعب إن وحدات المدفعية تمتلك مئات المدافع، وعشرات الآلاف من مخزون القذائف المُصنَّعة محلّياً. أمّا كيف استطاعت الوصول إلى هذا المستوى، فيوضح أن «المقاومة حصلت على عدّة مدافع أصلية، ستاندر، مُصنّعة وفقاً للمعايير الدولية، ولمّا كان عدد ما حصلت عليه محدوداً، أجرت وحدات التصنيع فيها دراسات علمية دقيقة على المدافع المتوافرة، لجهة الخامات المُصنّعة منها وطبيعة المواد المستخدمة والمناظير ورافعات التوجيه، ونجحت في محاكات نماذج مطابقة لها، وبعد الآلاف من محاولات التجربة والخطأ، تمكّنت من الوصول إلى نسخ مطابقة لما هو دولي». يضيف ضابط المدفعية: «تتولّى وحدة خاصة بالتجريب فحص صلاحية القذائف والمدافع على نحو دوري، وتُقدّم نتائجها للوحدات العاملة، فيما تقوم وحدات التصنيع بتزويد سلاح المدفعية بما يَفقده من مخزون خلال جولات التصعيد والحروب. هذا الأمر وفّر لنا استدامة الكثافة النارية، والمحافظة على احتياطي المخزون الذي يؤهّلنا لخوض معركة طويلة».

خسائر صفرية
لكن أعظم ما تَحقّق وفق ما يراه ضباط المدفعية في «سرايا القدس»، هو تصفير الخسائر البشرية. ففي السابق، كان العاملون في هذا التخصّص، والذين يجري تدريبهم على مدار سنوات قبل الوصول إلى مرحلة الاحتراف، هم الأكثر عرضة للاستشهاد، لكن المقاومة بفصائلها كافة، خرجت من الجولة الأخيرة بصفر خسائر بشرية في وحدات المدفعية. صحيح أن هناك عدداً لا بأس به من المقاومين استشهدوا خلال المعركة، وكان الكثير منهم في تخصّص المدفعية، إلا أنهم لم يُستهدفوا خلال مهامّ قتالية مباشرة، بل جرى اغتيالهم في ظروف مدنية بحتة. والجدير ذكره، هنا، أن المقاطع المُصوَّرة التي نشرتها المقاومة أظهرت عناصر المدفعية وهم يؤدّون عملهم على نحو مريح، إذ تَجاوز عدد القذائف الذي يطلقها الجندي في كلّ وجبة، الثماني، وهو عدد كبير، يعكس مستوى التمكّن والأمان الذي يعيشه الجندي، على الرغم من تفعيل الاحتلال جميع عناصر التتبّع والمراقبة والمسح الشعاعي من الأرض والسماء. وهنا، يوضح أبو مصعب أن «مرابض المدفعية تمّ انتقاؤها بعناية فائقة، ووفقاً لظروف جغرافية تؤدي دوراً درعياً يسهم في توفير هامش أمان كبير، لا يسمح في أسوأ الأحوال إلّا بتحديد المحيط الجغرافي الواسع الذي انطلقت منه القذائف، وليس النقطة الدقيقة للمربض».

- حسام أبو هربيد... القائد الذي أهدته لنا السماء

سيكون مفاجئاً لجمهور المقاومة في غزة أن يَعلم، يومَ استشهاد حسام أبو هربيد، أن قائد لواء الشمال الذي اقترن اسمه بالمنجزات الكبيرة، لم يتجاوز الـ36 عاماً من العمر. مئات الآلاف من الذين حجّوا إلى بيت عزائه من دون أن يعرفوه عن قرب، كانوا قد رسموا له في مخيّلتهم صورة كهل حكيم حازم بلحية بيضاء. «القائد الذي أهدته لنا السماء»، هكذا يصفه أحد رفاقه، لافتاً إلى أنهم لم يتخيّلوا أن يستطيع أحد ملء الفراغ الذي تركه اغتيال القائد بهاء أبو العطا في 12 تشرين الثاني 2019، لكن السماء تفضّلت بـ»أبو عبيدة»، الذي استطاع أن يكمل مسيرة سلفه على نحو مبدع وفعّال. «القائد الحازم، والأب والزوج الهادئ الحنون المتّزن»، بهذه الكلمات تتحدّث أم عبيدة عن زوجها الذي ولد في مدينة بيت حانون شمال غزة عام 1979. تقول: «كان معطاءً في بيته، وسخيّاً على معارفه وجيرانه على رغم بساطة وضعه المادي، وقد رتّب الأولويات في حياته، وكانت فلسطين والعمل على تحريرها يشغلان باله على الدوام».

كان ينشر بين إخوانه ثقافة الإيمان المطلق بقدرة الفعل المقاوم على الإنجاز (من الويب)

يستذكر ابن شقيقه، الدكتور محمد، عمّه، متحدّثاً عن حياة الكدّ والجلد التي عاشها مذ كان طفلاً في الصفّ الرابع الابتدائي، فقد اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي شقيقه الأكبر الشهيد نصر الدين، ليحمل هو على عاتقه مسؤولية عائلته. يروي محمد: «كان حسام يخرج للعمل في الساعة الـ 12 ليلاً مشياً على قدميه في الطرق الحالكة الكثيفة الأشجار، ليعمل في بيع المشروبات الساخنة للعمّال الذين يغادرون القطاع للعمل في الداخل المحتلّ، ويعود في الخامسة صباحاً، ثمّ يذهب إلى مدرسته، واستمرّ على هذه الحال حتى الصف العاشر الأساسي». يتابع: «كان أصغر المقاومين سنّاً حين انتمى إلى سرايا القدس عام 2002، وهو لم يتجاوز عمره الـ18 ربيعاً، وقد برزت سمات القيادة فيه مبكراً، فهو مبادر وسبّاق إلى ميادين المقاومة، وقد خاض هو ورفاقه أوّل اشتباك مسلّح عام 2003، عندما خرج للاشتباك مع قوة إسرائيلية خاصة كانت قد توغّلت للقبض على أحد رفاقه. يومها، أثخن فيهم، وعاد صباحاً إلى البيت، وخرج باكراً إلى جامعته، وكأنه لم يفعل شيئاً».

كان يؤمن بأن شكل المقاومة يجب أن يتحرّر من معادلة الحرب إلى الاشتباك المستمر

أَوْلى أبو هربيد مساحة واسعة للعلم في اهتماماته. تَذكر زوجته أنه دفعها إلى إتمام دراستها العليا في تخصّص تكنولوجيا المعلومات، وكان يسهب في الحديث معها عن كثير من التفاصيل التكنولوجية التي تخصّ مجال الاتصالات والتتبّع. تقول: «كان دائم الاطّلاع وغزير الثقافة، وقد تخرّج من قسم الدراسات الشرعية على رغم أن العمل المقاوم يحتلّ كلّ وقته، إلّا أن ثمّة متّسعاً دائماً في نهاره لمطالعة كتاب أو البحث عن معلومة». تضيف: «ذات يوم، اقترحْت عليه أن أستغلّ وقتي في جمع أطفال الحيّ وطلاب المدارس فيه لتقديم دورة مجّانية في اللغة الإنجليزية. يومها، برقت عيناه فرحاً، وقال لي سأكون أوّل طلابك، ولمّا أجريت له اختبار مستوى، وجدْته متمكّناً بشكل لا بأس به في اللغة الإنجليزية، فقلت له إن ما أنت عليه يكفيك، فأصرّ على أن أُخصّص له وقتاً لتجويد مستواه»
أمّا في الميدان، فيَذكر صديقه أبو العبد الحلبي أن أبو عبيدة كان يسخر بكلّ آلة البطش الإسرائيلية، وينشر بين إخوانه ثقافة الإيمان المطلق بقدرة الفعل المقاوم على الإنجاز، ولم يكن يغادر أيّ لقاء من دون أن يردّد لازمته التي يخاطب بها إسرائيل: «فَلْيَحمهم سلاحهم وأمنهم وزيفهم ووهمهم، فَلْيَحمهم كذبهم، من الصاروخ المنفجر». بالنسبة إلى أبو عبيدة، فإن فكرة المقاومة تعتمد على المشاغلة المستمرّة لا العمل الموسمي، وقد طبّق الرجل اقتناعاته التي ظلّ مُنظّراً لها طيلة حياته، فترك بصماته في المسيرة التي بدأها الشهيد أبو العطا، وواصلها هو بعد رحيل رفيق دربه، ثمّ واصلها رفاقه بعد رحيل قائدهم. يضيف الحلبي: «كان يؤمن بأن شكل المقاومة يجب أن يتحرّر من معادلة الحرب إلى الاشتباك المستمرّ، وقد تُرجمت اقتناعاته ميدانياً بالردّ المستمرّ على تصعيد الاحتلال تجاه المتظاهرين في مسيرات العودة». «صاروخ واحد يكفي»؛ يقول أبو مجاهد، وهو أحد رفاقه المقاومين، إنه كان يرى أن من شأن إطلاق صاروخ واحد في كلّ أسبوع أن يُبقي حالة النفير مستمرّة، وأن يُذكّر سكّان المغتصبات من الإسرائيليين على الدوام بأن العيش الهانئ في أرض مسروقة أمر محال.
رحَل صاحب الضربة الأولى في معركة «سيف القدس»، والتي استَهدف فيها بصاروخ «كورنيت» جيباً عسكرياً يتبع شعبة المخابرات في جيش الاحتلال، في 18 أيار، في عملية اغتيال طاولت المنزل الذي كان يوجد فيه في حيّ تل الزعتر شمال قطاع غزة.

- عن الخوف الذي يخفيه اللثام: حتى لا ترسم إسرائيل مستقبلنا

يُكرّر أحد المقاومين الذين رافقناهم تغطية إحدى يديه بالأخرى، كلّما تصادف مروره من أمام الكاميرا. نسأله: لماذا؟، فيتهرّب من الإجابة أمام جمع من رفاقه، مومئاً بعينيه الظاهرتين من خلف اللثام إلى تحرّجه من هذا السؤال. كان مهدي (اسم مستعار) يخفي خاتم زواجه الذي لم يمضِ على ارتدائه سوى ستّة شهور؛ خوفاً من أن تكشفك العروس؟ نسأل، فيجيب ضاحكاً: «ليس تماماً، لكن السرّية واجبة من الناحية الأمنية»، ويضيف: «وأريح للراس...». قرابة عشرين مقاوماً لم يُمط أحدُ منهم اللثام عن وجهه طوال سبع ساعات من وجودنا معهم، باستثناء وقت شربهم للماء حيث أعطونا ظهورهم. ثمّة ضرورات أمنية يراعونها ما استطاعوا، لكنها لا تُسكت الفضول إلى معرفة ما تنطق به ملامح وجوههم لحظة مباغتتهم بأسئلة من خارج السياق. هم ليسوا استثناءً، كما أنهم ليسوا عيّنةً منتقاة بعناية من الشباب الذين قد تصادفهم في مساجد غزة وجامعاتها وحتى مقاهيها. أحد الضبّاط الميدانيين الذين التقينا بهم يعمل مهندساً، وآخر معلّماً للمرحلة الثانوية، وثالث بائعاً للخضار. جميعهم تحكي أصواتهم وعيونهم خوفاً كالذي عشناه.

بالعودة إلى مهدي، الذي قرّر أن يخفي عن عروسه وأهله جميع التفاصيل المتعلّقة بعمله المقاوم، وأخذ منذ أربع سنوات قضاها في هذا الطريق الاحتياطات اللازمة كافة لذلك، هو يرى أن طريقه محسومة بواحد من خيارَين، أكثرهما ثقلاً على نفس والديه أن يُقتل وهما حيّان، يحضران جنازته وينزلانه التراب بأيديهما. يكمل حديثه وقد تمكّنت منه اللحظة فيبتلع ريقه: «فكرة الاستشهاد لا تغادر تفكيري، ومع أن هذه النهاية هي التي يتمنّاها كلّ مجاهد على مستواه الشخصي، لكن التفكير في ألم الفراق الذي يتركه لذويه وأحبابه يجعلنا نقتصد في تقديم فرضيات تَصوّره لأهلنا، لذا نتخفّى، ليس لأنهم لن يتقبّلوا ذلك، إنما لأننا سنجبرهم على أن يعيشوا هواجس الفقد القاسية طوال المدة التي نغيب فيها عن عيونهم، سواء كنا في أشغالنا الحياتية أم في عملنا المقاوم». لكن، إذا كانت حسابات العمل المقاوم معقّدة إلى هذه الدرجة، لماذا تدخلونه؟ يتنهّد الشاب الذي يَظهر أنه تجاوز الثلاثين من عمره، ثمّ يستأنف كلامه بطلاقة لغوية لافتة للانتباه: «لن أقول لك لأن تكليفنا الشرعي هو أن نسلك هذا الطريق، ولن أقول لك لأن المقدّسات أغلى من أرواحنا، لكنّني سأردّ بمنتهى الذاتية والفردية، لأنّني لا أريد لأبنائي الذين سيولد أحدهم بعد ثمانية شهور من اليوم، أن يعيشوا في بلاد ترسم إسرائيل مستقبلها، أنا أصنع مستقبل أولادي». مهدي، وهو أحد مقاومي وحدة المدفعية، يعمل مهندساً معمارياً، وكان قد أنهى الثانوية العامة بمعدّل 97%، ويعيش وضعاً مادياً ميسوراً كما قال. ترك هذه الملاحظات كلّها على هامش حديثه، ربّما لأنه أراد أن يشعرنا بالقدر الذي استطاع فيه أن يحقّق ذاته حتى قبل انضمامه إلى العمل المقاوم.

أصلاً فكرة المقاومة دافعها الخوف، لكن ليس الانصياع لهذا الخوف، لأن الانصياع له هو الجبن

في وحدة الدروع، التقينا بالمقاوم خالد (اسم مستعار)، وهو والد لطفلين. الشاب ذو البنية الرقيقة، واحد من المقاومين البارعين في استخدام سلاح «الماليوتكا»، وقد أسهب في شرحه عن مدى الدقة التي تتطلّبها الرماية بهذا السلاح: «هذا المقبض مثلاً يحتاج إلى أصابع عازف بيانو أو صائغ ذهب لكي تتحكّم عَبره بالمقذوف أثناء تحليقه بدقّة». بالنسبة إلى خالد، فإن عائلته على دراية كاملة بانتمائه إلى المقاومة، لكن ما يخفيه هو أنه يعمل في تخصّص الدروع، إذ إنه يقول لزوجته ووالديه إنه يعمل في سلاح الإشارة، لكي يعطيهم انطباعاً أكثر إثارة للطمأنينة، خصوصاً أن الخروج إلى العمل يتطلّب منه انقطاعاً تامّاً عن وسائل الاتصال. هل تخاف عائلتك عليك؟ نسأله، فيجيب: «بالتأكيد، وأنا أيضاً أخاف على نفسي». يفاجئنا الجواب الذي يكاد يخدش هالة البطولة التي نفترضها في عقولنا عمّن هم أمثاله، قبل أن يتابع: «الفكرة أن هناك مسؤولية تجاه نفسك، يجب أن لا تهدرها، هذه المسؤولية من الناحية العسكرية، لأن كلّ مقاوم هو مشروع عُمل على تدريبه طويلاً». أمّا من الناحية الشخصية، فإن أكثر ما كان يخشاه خالد هو أن يتعرّض بيته للقصف، ففكرة أن يدفع الجميع ثمن خياره تبدو صعبة التقبّل. هنا، يدخل محمود (اسم مستعار) إلى حوار الخوف الذي بدا أنه طال: «ربّما نحمل في الميدان خوفاً مضاعفاً، لكن التعامل مع الخوف هو الفارق، المقاوم يدفعه خوفه إلى تحدّي الاحتلال بوصفه المُسبّب لهذا الخوف». يكمل الشاب العشريني المتخرّج من قسم العلوم السياسية: «أصلاً فكرة المقاومة دافعها الخوف، لكن ليس الانصياع لهذا الخوف، لأن الانصياع له هو الجبن، بل الاعتراف بوجوده والتمرّد عليه والعمل على القضاء عليه».

- لا يشبه شيئاً ممّا نتخّيل... الإعلام الحربي يقاتل أيضاً

قد يختلط عليك الأمر ابتداءً، إذ إن التصوّر الذي تحمله في ذهنك عن وحدات الإعلام العسكري التابعة للأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة، هو بيئة عمل متواضعة، بإمكانيات فنّية بسيطة، وبمجهود ورؤية ذاتيَّين. لكن الدخول إلى مكتب الإعلام الحربي لـ“سرايا القدس”، الذراع العسكرية لـ“حركة الجهاد الإسلامي”، سيُغيّر تصوّرك عن طبيعة تلك الوحدات، التي تَطوّرت بشكل متزامن مع تطوّر إمكانيات المقاومة الميدانية. مكاتب متراصّة بعناية فائقة، والعشرات من المحرّرين المحاطين بعدد كبير من شاشات التلفزيون المُقسّمة إلى عدّة نوافذ، في كلّ منها قناة عبرية معيّنة. وفي أجهزة الحاسوب، تلاحظ أن الإعلاميين الشباب يتابعون مواقع إسرائيلية متنوّعة وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي. المكتب الذي زارته “الأخبار” خلال إعداد هذا التقرير، هو واحد من مجموعة مكاتب فرعية موزّعة في محافظات القطاع. أمّا ديسك التحرير فهو عبارة عن وحدة رصد ومتابعة للإعلام الإسرائيلي. تتبدّى على وجوهنا الدهشة، فيُعلّق أبو أحمد، وهو مسؤول هذه الوحدة، متسائلاً: “تُشبه ديسكات التحرير في وكالاتكم؟”، فنجيب: “بل تَفوق كثيراً منها ترتيباً”. يقول الرجل الذي يوحي صوته بأنه تجاوز أربعينيات العمر: “هؤلاء الشباب تلقّوا عدداً كبيراً من دورات التحرير والترجمة. يجيد الكثيرون منهم اللغة العبرية، حديثاً وكتابة. ويتخطّى دورهم جانب المتابعة الإعلامية للإعلام الإسرائيلي، إلى أدوار أكثر أهمية، تتعلّق بجمع المعلومات ورصد الحالة النفسية للمجتمع الإسرائيلي خلال المواجهة”.

الوصول إلى هذا المستوى الاحترافي من العمل، استغرق بكلّ تأكيد سنوات من الدراسة الأكاديمية والتدريب المتعدّد المستويات والمناهج. وإلى جانب ديسك التحرير والمتابعة العبرية، صالة أخرى مشابهة، لكن الحائط يزدحم بالعديد من الشاشات التي تعرض أهمّ القنوات العربية والإنجليزية. “لا نتابع الإعلام العبري فقط، لكوننا نعلم أنه مسيّس ومسيطَر عليه من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بل نتخطّاه إلى متابعة صفحات المستوطنين الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، وتعليقاتهم وتفاعلهم مع رواية جيشهم ومع ضربات المقاومة”، يضيف أبو أحمد الذي يبدي قدراً كبيراً من الإحاطة بمجتمع الاحتلال، وحتى بالخلفيات السياسية لكلّ مؤسسة إعلامية إسرائيلية. ويتابع: “نقدّم بشكل مستمرّ محدّدات لشكل الرسائل الإعلامية التي تبثّها السرايا، وأيضاً توقيت بثّها بما يحقّق أكبر مستويات التأثير على الجبهة الداخلية للاحتلال”.

الوصول إلى هذا المستوى الاحترافي استغرق سنوات من الدراسة والتدريب المتعدّد المستويات والمناهج

في داخل مكتب الإعلام الحربي أيضاً، العديد من الاستوديوات المعزولة، وغرف المونتاج والتحرير المرئي، المجهّزة بأحدث المعدّات الفنية، إلى جانب كاميرات التصوير الحديثة، والإضاءة، وأجهزة المونتاج الاحترافية. يقول ضابط الإعلام الحربي الميداني، أبو الوليد: “نحن ندرك خصوصية الصورة ودورها وتأثيرها النفسي. لذلك، نحرص على تقديمها بأفضل جودة متاحة، وبأعلى المستويات الاحترافية”. يضيف الضابط الشاب: “الأمر لا يتعلّق فقط بما نريد أن نقنع به الجمهور الإسرائيلي وقيادة الجيش بعنايتنا الفائقة بالتفاصيل الفنّية حتى خلال الحرب، ومدى الراحة النفسية التي تعمل بها طواقمنا، بل إن دور الإبهار البصري مهمّ بالنسبة إلى جمهور المقاومة، الذي توفّر له هذه الرسائل رافعة نفسية ومعنوية كبيرة، تنعكس على صمود الشارع الذي يتحمّل القدر الأكبر من ضغط الحرب وتكلفتها البشرية والمادّية”.
يسهب أبو الوليد في شرح الدور الذي أدّته الكاميرا في الميدان، حيث بدا واضحاً ما أولته المقاومة من اهتمام لحضور الصورة. رافقت الكاميرا المقاومين في وحدات المدفعية والصاروخية والدروع، ووثّقت بالعشرات من المقاطع ذات الجودة الفائقة، عمليات الاستهداف. ولعلّ أكثر مشهد انعكس على معنويات الجمهور، كان استهداف جيب المخابرات الإسرائيلي على الحدود الشرقية لشمال قطاع غزة بـ“الكورنيت”، ذلك المشهد الاحترافي الذي بعث بالعديد من الرسائل عن مدى سيطرة المقاومة على عناصر الميدان، وفشل أسلوب الصدمة النارية الذي تتبعه الوسائط العسكرية الإسرائيلية في التأثير على ثبات المقاومين.

ساعة البهاء
واحد من الأساليب النفسية المهمّة التي اتبعتها المقاومة في “سيف القدس”، هو تحديد ساعة إطلاق الصواريخ. بالنسبة إلى “السرايا”، فإن التقليد الذي حفظه الشارع الغزّي كما مجتمع الاحتلال، هو الضرب في “تاسعة البهاء”، أي التوقيت الذي قصف فيه قائد لواء الشمال في سرايا القدس، بهاء أبو العطا، مستوطنة “سديروت” المحاذية للقطاع بصلية صاروخية أثناء حفل انتخابي أقامه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، لجمهوره في 19 أيلول 2019. بعد اغتيال أبو العطا، أصبحت التاسعة هي توقيت “السرايا” بامتياز. وفي الجولة الأخيرة، حضرت تلك الساعة بشكل يومي، حتى إن الشارع الغزّي كان يترقّبها من شرفات المنازل بالاحتفاء والتكبير. بالنسبة إلى “السرايا”، فإن تحديد ساعات الإغراق الصاروخي يتجاوز الأثر المعنوي لدى جمهور المقاومة، إلى رسائل تعكس حالة الاقتدار والتمكّن. يقول أبو الوليد: “تحديد ساعات الكثافة الصاروخية كان يمثّل تحدّياً ودليلاً على إثبات فشل منظومة القبّة الحديدية التي لديها علم مسبق بلحظة الصفر، وهي تفشل في التصدّي للرشقات الصاروخية. هذا الأمر أسهم في كسر غرور القوة التي يتباهى بها الجيش الإسرائيلي، وأيضاً، كان يقدّم دليلاً يومياً على سلامة مخزون المقاومة الصاروخي الذي يحرص الاحتلال على بثّ مزاعم تدمير قدر كبير منه في كلّ تصريح يَعقب الغارات الحربية”.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 50 / 2184502

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ملفات  متابعة نشاط الموقع «ملف في الأخبار»   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2184502 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40