السبت 21 آذار (مارس) 2020

محمود درويش: سأمضي بدون أن تراني

إبراهيم عبد المجيد*
السبت 21 آذار (مارس) 2020

في ذكرى ميلاد محمود درويش 13 مارس/ آذار 1941- أجد نفسي أتذكر ما لا أنساه أبدا. محمود درويش كشاعر عظيم عابر للزمان حقا، لكن أن تجمعك معه أوقات نادرة، فهذا أحد أسباب السعادة ولا يزال. أوقات بعيدا حتى عن الشعر والسياسة، وغير ذلك مما يفجره لقاء مع محمود درويش.
كنا تقريبا في شهر يونيو/حزيران عام 1984. كنت قد انتهيت من رواية قصيرة هي «الصياد واليمام»، أعطيتها لدار الهلال للنشر ووجدت نفسي في اليوم التالي أذهب لأستعيدها قبل أن يقرأوها ويحددوا موقفهم منها. سألوني لماذا التسرع هل وجدت ناشرًا أفضل؟ ابتسمت وقلت تحتاج مراجعة أكثر.. لم أقل الحقيقة، الحقيقة أن هذه الرواية ارتبطت بروحي إلى درجة فيها جنون لم أفهمه حتى الآن. ففي اللحظة التي عدت فيها إلى البيت بعد أن سلمتها لدار الهلال ودخلت غرفة مكتبي، شعرت بأنني في متاهة من الضياع. لم يكن وجود نسخة أخرى مصورة منها كافيا للاقتناع أنها لا تزال معي. صارت المكتبة والبيت كله خلاء. كل رواية كتبتها كنت سعيدا بتقديمها لناشر، إلا هذه الرواية. الأمر نفسه فعلته بعدها مع داري نشر. مأساة جيلنا الذي حين انتبه إلى الحياة وجد هزيمة 1967 تملأ الدنيا. تفاصيل الرواية ليس هنا مكانها، لكنها نقلت لي هذا الإحساس بالضياع وخروجها من البيت كان بمثابة إعلان له لا أتحمله. كيف حدث ذلك؟ لا أدري، الأمر يفهمه علماء النفس.
كنت في لجنة في حزب التجمع الوطني، تسمى لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية فيها عدد رائع من أفضل كتّاب ومفكري مصر.. ابتداء من لطيفة الزيات ونوال السعداوي إلى سيد البحراوي مرورا بالعديد من الأسماء مثل فريدة النقاش ورضوى عاشور والسيناريست جلال الغزالي. أسماء لو بحثت عنها سأملأ بها المقال. كان مقر اللجنة حزب التجمع، لكنها لجنة جبهوية ليس كل أعضائها في الحزب، دعت اللجنة محمود درويش إلى ندوة في مقر الحزب ثم لقاء خاص معه. كانت هذه أول مرة يأتي فيها إلى مصر منذ خروجه منها أيام السادات. استمعنا إليه في الأمسية الشعرية، وانتقلنا بعدها إلى اللقاء الخاص مع أعضاء اللجنة. انتهى اللقاء فتقدمت منه وعرّفته بنفسي فقال لي هذه أول مرة أعرف باسمك. قلت له أعرف لأن العلاقات كانت مقطوعة بين مصر والعالم العربي، حتى وقت قريب، المهم أنين أريد أن أعطيك رواية لنشرها لي في مجلة «الكرمل»، لم يكن مسموحا به دخول المجلة إلى مصر. ضحك وقال «الكرمل» مرة واحدة. أنا عمري ما عملتها وأعطاني موعدا في الصباح في الفندق. قال لي الساعة العاشرة، العاشرة والربع لا تأتي. ضحكت وذهبت إليه في العاشرة فوجدته ينتظرني في اللوبي. أعطيته نسخة من مخطوط الرواية وحكيت له ما أشعر به حين أسلمها لناشر، وكيف أذهب في اليوم التالي لاستعادتها. قلت له أنت ستسافر ولن أستعيدها. المهم حتى لو لم تنشر أكون كسرت هذه الحالة. صار يضحك مندهشا ثم قال «أنا حيوان قراءة. سأقرأها في الطائرة، وإذا اعجبتني سأخبر سليم بركات مدير التحرير أن ينشرها في العدد المقبل.. العدد المقبل جاهز للإصدار، سأخبره أن يضعها مكان مواد أخرى ستؤجل، وإذا لم تنشر في العدد المقبل لا تسألني عنها بعد ذلك أبدا».

كم تمنيت أن ألبي مرة دعوة الذهاب إلى الضفة الغربية، أزوره في مقبرته، لكنني أعرف بالمتربصين في مصر الذين سيعتبرون ذلك تطبيعا وليس زيارة لمحمود، رغم أن غيري يذهب.

بعد شهرين وجدت المجلة في القاهرة ـ العدد الحادي عشر لا أنسى ـ وكانت أكبر إطلالة لي على العالم العربي عرفني بعدها الكثيرون من الأدباء والشعراء. وصرت من كتّاب المجلة، أنشر فيها بين حين وحين قصة قصيرة. صار حين يأتي إلى القاهرة يتصل بي لألقاه. أحيانا كان يأتي في مهام خاصة بمنظمة التحرير لا يقابل أحدا، لكنه يتصل بي فألقاه، وهكذا. حدثني مرة المرحوم أحمد دحبور أنهم مندهشين من هذه المحبة من محمود درويش لي. الغريب أنه في كل لقاء كان يستمع إلى حديثي أكثر مما يتكلم ودائما يضحك سعيدا. سألني مرة عام 1985 عن عمري قلت التاسعة والثلاثين فقال لي انتبه يا إبراهيم، بعد الأربعين يجري العمر فلا تجعل شيئا يشغلك عن الكتابة. وفعلت. حكى لي كيف أصابته بعد ذلك أول أزمة قلبية وهو مع حبيبته. صار تقريبا يأتي مرة كل عام في معرض الكتاب، فألقاه في المعرض وفي الفندق. في عام 1994 كنا عددا من الكتاب في فرنسا، وكانت رواية «البلدة الأخرى» قد صدرت بالفرنسية، وفي ندوة لي في معهد العالم العربي حول الرواية حوَّلت الندوة إلى ضحك وقفشات، كعادتي في الندوات الخارجية، التي لا أحب أن أشغل نفسي فيها بمشاكل مصر والمصريين، فأنا أعيشها في مصر وهذا يكفي. كنت ألمح محمود درويش بين الحضور لا يكف عن الضحك. ما أن انتهت الندوة ونزلت أصافحه حتى قال لي «بهدلت الدنيا من الضحك يا إبراهيم». بعد ثلاثة أشهر أو أربعة قابلته في القاهرة في الفندق، وكان ينتظرني. ما إن رآني حتى وقف يشير لي هاتفا «الرواية نجحت.. الرواية نجحت». كان يقصد البلدة الأخرى التي استقبلت استقبالا جميلا في فرنسا، وكتب عنها في أهم الصحف مثل «اللوموند» و«ليبراسيون» وأقيمت حولها الندوات، لا أنسى سعادته هذه أبدا.

كانت أول مرة أعرف بمحمود درويش من كتاب رجاء النقاش «محمود درويش – شاعر الأرض المحتلة» الذي نشرته دار الهلال عام 1969، بعد الهزيمة بحوالي عامين، فكان أحد أسباب الصمود لنا في الحياة. لقد احتواني هذا الكتاب وملأ عليّ حياتي بالأمل. رغم أن الكتاب يحتوي أشعاره الأولى، إلا أنه في كل ما تطور فيه من كتابة للشعر كان يشملني الإحساس بالتفاؤل والأمل. حين كنت أقرأ نثره مثل «بيروت.. ذاكرة للنسيان» أو رسائله مع سميح القاسم، أو غيرها لا أجد أبدا فرقا بينها وبين ما يكتبه من شعر. كلها تحملني إلى السماء. قبل سفره إلى أمريكا للعلاج الأخير تقابلنا في مصر بعد أمسية شعرية له بمعرض الكتاب، لم تكن تكفيني اللقاءات الشعرية، فكنت حريصا على أن انفرد به في لقاء في الفندق. كان في تلك المرة قد ازداد كهولة بشكل مريب غير مطمئن. لم يكن قلقا من العملية لكن تلك الكهولة كانت تشي بالوداع . عرفت بعد أن توفي عام 2008 أنه كان قد طلب من الأطباء في حالة إصابته بالسكتة الدماغية أن ينزعوا عنه كل أنابيب الحياة. لا يحب أن يكون مثل إرييل شارون، الذي كانت الأخبار عنه أنه خارج الحياة بالسكتة الدماغية. وحدث ما أراده محمود درويش . محمود درويش لم يكن ابن فلسطين فقط لكنه كان ابن العالم كله. عالمنا العربي للأسف بعيدا عن الضفة الغربية، ليس فيه ميدان ولا شارع باسمه ولا مدرسة.
كم تمنيت أن ألبي مرة دعوة الذهاب إلى الضفة الغربية، أزوره في مقبرته، لكنني أعرف بالمتربصين في مصر الذين سيعتبرون ذلك تطبيعا وليس زيارة لمحمود، رغم أن غيري يذهب. الضجة معي تكون مفيدة دائما لهم، سأمضي راحلا بدون أن أقف أمامك مرة أخرى يا محمود فلا تلمني.

٭ روائي من مصر



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2184594

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2184594 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40