الأربعاء 1 آذار (مارس) 2023

«الأرجنتين 1985»: المحاكمة بشهادات الضحايا

الأربعاء 1 آذار (مارس) 2023

- سليم البيك

يعطي الفيلم لأحداثه سياقاً واضحاً، هذه البلد وذلك العام، والحدث فيها محاكمة أركان النظام العسكري الديكتاتوري الذي حكم الأرجنتين منذ 1976 حتى 1983، إثر انقلاب نفذته القوات المسلحة الأرجنتينية، بدعم من الولايات المتحدة. وهي المحاكمة الوحيدة – كما ذكر الفيلم – لصفّ قيادات نظام حكم ديكتاتوري في القارة الأمريكية الجنوبية.
لا يمكن القول إن العنوان مكثفٌ لموضوع الفيلم، لكنه من كلمة ورقم، قد لا تدل نقطة تلاقيهما عند الأرجنتينيين على غير ذلك، هي نقطة التقاء الزمان بالمكان، وهي ذاتها نقطة البداية لمشوار الدولة الديمقراطية، بعد عقود من الفاشية العسكرية في البلاد. وقد تقابل الكلمتين، البلد والعام، كلمتان أنهى بهما المدعي العام، ستراسّيرا، في المحكمة، للقاضي، قائلاً «أبداً مجدداً». بمعنى أن يتم الحكم على العسكريين لجرائمهم، كي لا تتجدد تجربة سلطتهم أبداً.
هو فيلم أروقة محاكم، يعتمد في تطور أحداثه على الحجة والحجة المقابلة، أو هذا ما يفترضه هذا النوع من الأفلام، لكن الفيلم تمحور حول شهادات الضحايا، متخذاً لنفسه موقفاً حاسماً من حقبة حكم فيها الفاشيون وانتشر الخطف والتعذيب والقتل الذي مارسته الدولة. كل ما يحيط بالشهادات كان في خدمتها، كأن الفيلم مصنوع من هذه الشهادات، ثم تكونت الحوارات والمشاهد من حولها. الفيلم هو المحاكمة، والمحاكمة هي الشهادات.
يقدم الفيلم موضوعه لمُشاهده من خلال عائلة المدعي العام، بمحوريّة المدعي الذي سيتحول إلى بطل وطني خلال المحاكمة ومن بعدها. يتعرض للتهديد من الفاشيين، يتجنبه الناس الممتلئين برواسب الخوف من الحكم العسكري. يقاوم ويستمر إلى أن ينال من القادة العسكريين الذين أصروا على محاكمة عسكرية، وأصرت الحكومة الديمقراطية على محاكمة مدنية، كان المدعي العام مرافعاً فيها ضد العسكريين، جامعاً مع فريق من الشباب أدلة وأسماء لضحايا لإثبات تورط مباشر للقادة في تعذيب وقتل منهجيين، جعل البعض يعتقد جاداً، كما قال المدعي العام، أن نصف الشعب الأرجنتيني سيختفي بين خطف وإعدام.

لم يداخل الفيلم بين مشاهد وثائقية وأخرى ممثَّلة، بل هذه الأخيرة، بالممثلين أنفسهم، صوّرها مرّات في لقطات سريعة تمر في الفيلم، بتقنيات التوثيقي الثمانيني، خالقاً دمجاً بين الوثيقة والدراما من خلال الخيال ذاته، من خلال عناصر الفيلم ذاتها، ليكون الفيلم بذلك، بذاته، أقرب لوثيقة هي واقعية بقدر ما هي خيالية، مماهياً بين الجانبين. فيلم الأرجنتيني سانتياغو ميتر، ببطولة لريكاردو دارين، تعرضه منصة أمازون، ونال جائزة النقاد الدوليين (فيبريتشي) في مهرجان فينيسيا السينمائي الأخير، كما نال الغولدن غلوب لأفضل فيلم بلغة غير الإنكليزية، ينافس بقوّة على الأوسكار ممثلاً الأرجنتين. لم يستحق الفيلم كل ذلك لموضوعه وحسب، بل لتصوير اعتمد في جمالياته على الألوان المميزة لتلك الفترة، وتحديداً على الإضاءة والظل في تمايز واضح بين الخير والشر، وعلى دمج ممتاز لعناصر الفيلم التشويقي والسياسي والتاريخي والقضائي.
أفلام كهذه تبدأ بمعلومات مكتوبة على الشاشة، تعطي سياقاً تاريخياً لفهم الأحداث، وتنتهي كذلك بمعلومات تشير إلى مآلات الشخصيات والقضايا المتناوَلة، مع صور واقعية لمن صوّر الفيلم شخصياتهم، وهو حال «الأرجنتين 1985» الذي أحاط المُشاهد بما هو سابق لهذا العام وما هو لاحق له، ليضع الحكاية وشخصياتها في سياق أبعد من المصوَّر في الفيلم وحدوده الزمانية المعيَّرة بتواريخ محددة لجلسات المحاكمة، وما سبقها من تحضيرات، تظهر على الشاشة مكملةً التحديد التاريخي للأحداث، مضيفة إلى توثيقية الفيلم في شكله ومضمونه.
يتخطى الفيلمُ الأرجنتين، إلى نماذج مماثلة في أنظمة حكم عسكرية فاشية، اتخذت الخطف والتعذيب والإعدام دون محاكمات، «ممارسةً سياسية» كما قال المدّعي العام، ليكون نهجاً فرض ذاته على المجتمع ضمن حالة من الرعب المنتشرة في الأجواء، حيث الكل عدو محتمل للكل. هذه الحالة التي شهد عليها الضحايا، شهد عليها الفيلم اليوم. علّه يكون نموذجاً تتخذه حالات وبلدان أخرى، عربية وغير عربية، حكمت فيها ديكتاتوريات بالسّيف، سقطت ولم تُحاكَم.

‏كاتب فلسطيني سوري



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 10 / 2184582

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2184582 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40