الجمعة 7 تموز (يوليو) 2023

رؤية إسرائيلية لأديب المنفى غسان كنفاني

إبراهيم خليل
الجمعة 7 تموز (يوليو) 2023

- إبراهيم خليل

أثارت روايات غسان كنفاني (1939- 1972) وقصصه، ومقالاته، الكثير من ردود الفعل عربيا، وفي الأوساط الإسرائيلية، بما فيها من صهيونية متطرفة، وأخرى قد نصفها من باب التجاوز بالمعتدلة، التي تناولته في ضوء الهواجس التي تساور القلة من الإسرائيليين حول ما جرى ويجري في فلسطين، وهل هو إقامة دولة لم تكن في يوم من الأيام في فلسطين، أم هو قرصنة جيو- سياسية، وتاريخية، وجريمة أخلاقية تتحمل وزرها أطراف متعددة منها؛ بريطانيا العظمى، وعدد من الدول الاستعمارية الأخرى، والولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الأنظمة العربية التي أسهمت في تحقيق المشروع الصهيوني قولا وعملا، وإمدادا بالمال والسلاح، تجاه شعب شرّدَ من بلاده في مؤامرة لم يسبق أن شهد مثلها التاريخ، ومع ذلك ما زال يسعى للعودة متشبثا، لا بالمفاتيح فحسب، بل بكل ذرة تراب يفديها بالزكيّ من دم مناضليه وشهدائه، أمس واليوم وغدا.
فكان من الطبيعي الاهتمام بترجمة معظم مؤلفات كنفاني إلى اللغة العبرية، وتقديمها للقارئ الإسرائيلي، سواء بهدف كسر العزلة المعرفية، التي أصابت الساحة الثقافية من ناحية، أو بهدف إعادة قراءة نتاج كنفاني بوصفه أديب القضية الفلسطينية الأبرز من ناحية أخرى. وثمة مساهماتٌ بارزة في هذا المجال لعددٍ من المثقفين المهتمين بترجمة الإبداع العربي إلى العبرية، مثال ذلك: الأديب ذي الأصل العراقي شمعون بلاص (1930- 2019) الذي قام بترجمة ثلاث قصص قصيرة لكنفاني، وهي «أرض البرتقال الحزين» و»أبعد من الحدود» و»السلاح المحرم» في كتابه الموسوم بعنوان قصص فلسطينية 1970، وقام بتحرير ترجمة «رجال في الشمس» و»ما تبقى لكم» في عام 1978. وكذلك يهودا شنهاف (1952) الذي قام بترجمة إحدى قصص كنفاني، وهي الموسومة بعنوان «ورقة من غزة» من مجموعته «أرض البرتقال الحزين».
إلى جانب الترجمة، تنوعت أشكال التواصل الأخرى بين آثاره والجمهور الأدبي، ما بين الإعداد المسرحي، والسينمائي، والكتابات النقدية، والمحاورات الروائية. فقد حظي كنفاني باهتمام بالغ؛ نظرا لدوره البارز في دعم القضية الفلسطينية، والتعبير عنها، فمُسْرحَتْ روايتاه «عائد إلى حيفا» و«رجال في الشمس» وعرضتا على خشبة المسرح، وعرضت قصته للأطفال «القنديل الصغير» في مسرح المينا، وهو مسرح متعدد الثقافات للأطفال والشبيبة، ترعاه مجموعة من الفنانين اليهود والعرب.
ويبدو أن الصحافي والأكاديمي داني روبنشتاين، وهو من الإعلاميين الذين شهدوا مجريات النكبة قبل عام 1948 وبعده، من المهتمين بكتابات غسان كنفاني. وقد تجاوز باهتمامه الاطلاع، من حيث هو قارئ، إلى التقصي والبحث والنبش في الوثائق، والمراجع والصحف؛ ما هو قديم منها، وما هو متأخر. فألف من هذا كله كتابا صدر عام 2022 بعنوان «لماذا لم تدقّوا جدران الخزان: غسان كنفاني أديبُ المنفى» والكتاب الذي ترجم للعربية، دون ذكر المترجم صدر في العام الحالي 2023 عن صحيفة معروفة بتاريخها الأسود، وهي صحيفة «يديعوت أحرونوت» مثلما ذكر على الغلاف. يتضمَّنُ الكتاب مقدمة من ثلاث صفحات، أو أقل، بكلمة أدق، وعددا كبيرا من الفصول تمتد على مساحة تربو على 230 صفحة من القطع الكبير. وقد روى المؤلف في مقدمته حكاية عن والده وقعت عام 1993 عندما هُرع من القدس لزيارة أبيه المريض في مستشفى في كفار سابا، فوجده جالسا على السرير يقرأ مقالا له في الجريدة، فخاطبه معلقا على المقال: أراك تفهم الكثير من الشؤون العربية، ثم أضافَ ناصحا: لا تحاول أن تفهم العرب أكثر من اللازم. ويعقب على هذا زاعما أنه، مع ذلك، لم يعمل بنُصح والده، فهذا الكتابُ، بما يعنيه من اتصالٍ وثيق بآثار كنفاني، وبغيرها من كتاباتٍ، محاولة لفهم العرب أكثر مما تَصوّرهُ والده.
في أحد الفصول، وهو بعنوان «كلّ ما تبقى لكم» يفاجئنا المؤلف بأحاديثَ لا علاقة لها بعنوان رواية غسان كنفاني «ما تبقى لكم» 1966. فهو يستهل الفصل بما لديه من تفصيلات عن الانفجار الذي أودى بحياة كنفاني يوم الثامن من يوليو/ تموز 1972 وقد أسْهب في وصفه لهذا الانفجار، وما أحاط به من ظروف، ومواقف إعلامية، واجتهاداتٍ، ومشاهد مأساوية مروعة، وتأويلات عن دور الموساد في عملية اغتيال استهدفته، ردا على عملية قام بها ثلاثة من الجيش الأحمر الياباني قُتل فيها ثمانية إسرائيليين، وجرح عشرات. وأيا ما يكنِ من أمر هذا الحديث التفصيلي شبه المملّ، لا يفوت المؤلف أنْ يربط بين الجنازة الحاشدة التي شُيع فيها، وموقعه من حيث هو كاتب عربيٌ فلسطينيٌ مؤثر. فقد سارت في جنازته نخبة من السياسيين الفاعلين من لبنانيين وفلسطينيين وسوريين، ومن أقطار عربية أخرى. ولا يفوته أيضا أن يربط بين هذه النهاية المؤسفة لكاتب وإعلامي كبير، ومنزلته لدى القراء. وفي هذا يقول: «على مدار سنوات طويلة عثرتُ على الكثير من الكتب، والأعمال الأدبية لغسان كنفاني. وخلال عملي محاضرا في جامعة بن غوريون في النقب، والعبرية في القدس، قرأتُ الكثير من آثاره. وشدَّني كثيرا اهتمام الطلبة العرب الشديد بتلك الآثار، وكانوا يعرضونها بعدّة فعاليات، وبأكثر من لغة، منوّهاً برأي ستيفان فيلد ـ مسْتشرق- الذي أعجب بما تفصح عنه هاتيك الآثار من قدْرةٍ على ذكر الأحداث التي ألمت بالفلسطينيين في بعديها الشخصي، والإنساني، الذي غالبا ما يُهمله المؤرخون.

وفي الاستطراد، الذي يتصف به المؤلف، يحدثنا عن جورج حبش ودراسته في الجامعة الأمريكية، ونشاطه السياسي والحزبي، بدءا من حركة الفداء، مرورا بحركة القوميين العرب، وانتهاءً بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وإصدار صحيفة الهدف. والمؤلف لا يتبع في هذا نسقا موحدا، فما أسرع ما ينتقل من هذا الموضوع لآخر. فهو في حديثه عن سيرة غسان يتحدث عن موضوع الحرب (1948) وعن جيش الإنقاذ، والحوادث التي تكررت في يافا وغيرها.

في فصل آخر بعنوان «عالم ليس لنا « وهو عنوان إحدى مجموعات غسان القصصية الصادرة عام 1965، يستأنف المؤلف رصده لمسيرة الأديب، وما مرّ به من ظروف، تبدأ بالتنقل من عكا إلى يافا ومن يافا لحيفا ثم يعرض للحوادث التي ألمت بالبلاد، واضطرار الأسرة للنزوح إلى جنوب لبنان، فإلى دمشق، وفي نقولٍ لهُ من كتاب لفيحاء عبد الهادي بعنوان «وَعْدُ الغد» يرسم لنا صورة لتلك المعاناة التي شهدتها الأسرة، فقد تحولت من أسرة بورجوازية لأخرى معدمة، تمر بها أيام ولا تجد ما تأكله. واضطرار غسان وبعض إخوته للعمل غير المجزي تارة، وتارةً للحصول على بعض الفرنكات. ويشير لسفر شقيقته فايزة للكويت، والعمل مدرسة هناك، مما خفف عن الأسرة بعض النفقات، لكنَّ المؤلف يقف بنا في هذا الفصل، وفي فصل آخر بعنوان «رسالة من الطيرة» عند إحدى قصص غسان القصيرة التي تسلط الضوء على أحد المتطوعين الذين قاتلوا ببنادق تركية قديمة. وعلى عادته يسترجع تفاصيل أخرى من سيرة غسان، وسيرة آخرين كانت لهم به علاقة وطيدة، كصلاح خلف (أبو إياد) وجورج حبش، الذي التقاه وتعرف إليه في دمشق، ونشأت بينهما علاقة بقيت متينة حتى استشهاده.

وفي الاستطراد، الذي يتصف به المؤلف، يحدثنا عن جورج حبش ودراسته في الجامعة الأمريكية، ونشاطه السياسي والحزبي، بدءا من حركة الفداء، مرورا بحركة القوميين العرب، وانتهاءً بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وإصدار صحيفة الهدف. والمؤلف لا يتبع في هذا نسقا موحدا، فما أسرع ما ينتقل من هذا الموضوع لآخر. فهو في حديثه عن سيرة غسان يتحدث عن موضوع الحرب (1948) وعن جيش الإنقاذ، والحوادث التي تكررت في يافا وغيرها. وحكايات متواترة عن المتطوعين من أمثال الحوينطي، ورؤساء بلديات، والحاج أمين الحسيني، معتمدا في ذلك على ما كتبته روزماري الصايغ زوجة المؤرخ الفلسطيني يزيد الصايغ. في الأثناء يستأنف الحديث عن أحد أبطال القصص، وهو منصورالذي يحاول أن يستلف بندقية قديمة من عمه ليشارك في القتال شأنه شأن المتطوعين. وفي القصة يروي غسان التفاصيل عن بطولة هذا النموذج، ولولا هذا الجزء من حديث المؤلف عن القصة لما كان للفصل علاقة بالعنوان. والصحيح أنّ هذه القصة تكررت في غير مجموعة بعناوين أخرى، ونماذج أخرى. والمؤلف يتنبه لهذا لافتا النظر لمجموعة «عن الرجال والبنادق» التي صدرت في بيروت 1970.

وفي الفصل منتصف مايو ـ الكويت، يتابع داني روبنشتاين ما هو متداول من أخبار كنفاني الذي غادر دمشق للكويت، ملتحقا بشقيقته فايزة للعمل في التعليم في موقع يقال له السالمية. وقد عهدتْ التربية الكويتيه له بتدريس الرسم والتربية الرياضية. لكن المؤلف على عادته يعود بنا القهقرى، فيروي مزيدا من التفاصيل عن رحلة النزوح، ثم العودة لحديث الحرب التي اشتدت في منتصف مايو/أيار 1948 وفي هذه الأثناء نجد إشارات متكررة لكل من جورج حبش، ووديع حداد، وياسر عرفات، وفوزي القاوقجي، والجيش الذي سمي بجيش الإنقاذ مع أنه لم يأت للإنقاذ مثلما يدّعون. فقد دخلوا الحرب – في رأيه – بلا خطط، وبلا هدف واضح. والدليل على هذا أن الجيش المصري الذي قدم من منطقة العوجا كان بمقدوره أن يصل إلى تل أبيب، دون مقاومة تصدّه، أو تؤخره. وفضّل بدلا من ذلك الاتجاه نحو الخليل، ويبدو أنّ الهدف يقتصر على الاحتفاظ بالجزء الذي أعطاه قرار التقسيم للفلسطينيين. وحتى هذا الهدف لم يحققوه. وفي هذا الصدد يذكر شيئا مما جرى في اللد والرملة – وهما عربيتان وفقا لقرار التقسيم- فقد انسحبت منهما القوة العراقية – الأردنية تاركة الأهالي الذين يناهز عددهم في اللد وحدها نحو 50 ألفا يواجهون مصيرهم. فارتكبت مذبحتان، إحداهما في المسجد، والأخرى في الكنيسة. ويقول المؤلف: إن إسحق رابين، وكان عمره إذ ذاك 26 عاما، تردد في ارتكاب المجزرة، إلا أن بن غوريون أمره بالتخلص من سكان المدينتين قسرا، ودون السماح لهم باستخدام الشاحنات، وقد جاء في بعض ما كتبه قسطنطين زريق في «معنى النكبة» نقلا عن جورج حبش: «إنه شاهد بعينيه الآلاف يمشون مسافات طويلة من اللد إلى رام الله الشيوخ والنساء والأطفال يتساقطون هلكى من التعبِ وشدة العطش».
في عام 1959 كتب غسان كنفاني قصة قصيرة بعنوان «في جنازتي» وكان قد اكتشف وهو في الكويت إصابته بداء السكري وراثة عن والدته، وقد صعب عليه مثلما يذكر صديقه فضل النقيب العمل في التدريس. وازدادت لديه هواجس التفكير بالموت، وتوقف في طريقه من الكويت إلى بيروت في دمشق لزيارة العائلة. وفي الأثناء كتب تلك القصة، ويقتبس روبنشتاين في خاتمة الكتاب: «أنا الآن أمشي في جنازتي كل التحذيرات العاقلة التي عرفتها في حياتي تبدو لي الآن كفقاعة صابون غبية، الإنسان شجاع ما دام لا يحتاج إلى الشجاعة، لكنه ينهار عندما يجري الحديث عن أمر جديّ. عندما يترتب عليه فهم الشجاعة بمفهوم الاستسلام + بمفهوم التخلي عن كل شيء».
ويختتم المؤلف هذا الاقتباس قائلا: من متابعتي للتجربة الفلسطينية يظهر لي أن غسان كنفاني نجح في أن يكون بطلا، ومن الذين ما إن تذكر اسماؤهم حتى تذكرَ بها معاني الخلود، والإبداع الروائي، والقصصي، والصحافي. غسان كنفاني تحول ليصبح بطل الثقافة الفلسطينية والعربية، الأول.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2184525

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2184525 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40