السبت 14 آذار (مارس) 2020

أمين معلوف والتحذير من الاغتراب الأيديولوجي في رواية «التائهون»

ناتالي الخوري غريب
السبت 14 آذار (مارس) 2020

أمين معلوف في استلهام ذاكرته في روايته «التائهون»، وتصوير شلة من أصدقاء الجامعة، وخيباتهم واغترابهم، وتصوير ما عانوه أبان الحرب، في منصف السبعينيات، وتشتتهم في بقاع العالم، إما قسرًا أو اختيارًا، بعد الانسلاخ عن بِقاعِ المَنْبِتِ، نفسيا وفكريا، إنها رواية الاغتراب بكل أبعاده، وتأزم الهوية والانتماء بين الشرق والغرب، بين الصفح والحقد، بين التقدم والانهزام، وانعكاس الأزمات النفسية على المغتربين تشتتًا وخيبات.
رواية «التائهون» (دار الفارابي 2013، ترجمة نهله بيضون) لأمين معلوف الذي نال مؤخرًا وسام الاستحقاق الوطني من الرئيس الفرنسي ماكرون، تتناول هذه الرواية التي تدور أحداثها في لبنان، وقد اتخذت أسلوب المذكرات في ستة عشر يومًا، تبدأ بالعودة إلى الوطن الأم، بعد اغتراب دام أكثر من ربع قرن، ومن ثم استرجاع الذكريات لشلة من الأصدقاء، ومحاولة لَمّ الشمل، لأيام معدودة، لم يكتب له أن يكتمل.. وكأن ما شُتت وكُسر، لا يمكن أن يجمع بناء على رغبات فردية، إذ يستطيع المرء أن يتخيل شخصًا يواجه كل لقاء، بإحساس بهويته، يقوم على الجوهر المنفصل، والتأمل النقدي لهذه الهوية، ودائمًا ما يكون لاكتراثه واهتمامه بهم، طابع شخصي، يعكس فرديته. وهنا، لا بد من الإشارة، إلى أنها قد تكون، من أقل روايات معلوف مخزونًا معرفيا، وحشدًا للمعلومات المتراصة، تاريخية كانت، أم معاصرة. مقارنة مثلًا بروايته «رحلة بالداسار» التي تتناول البحث عن المصير الإنساني، وانتهاء العالم وتاريخ الحروب وآثارها في حقبة المنتصف الثاني من القرن السابع عشر. كذلك إذا أردنا مقارنتها بروايته «حدائق النور» التي تظهر حياة ماني وظهور المانوية وتطورها، أو في روايتي «ليون الافريقي» و«سمرقند» المثقلتين بالمخزون المعرفي التاريخي. لكن، يبقى لـ«التائهون»، نكهة خاصة، لأنها استلهام ذاكرته، وفي ظني، أنها قد تكون إرادته في التحدث، عن هوية وانتماء أراد تحديدهما، كما في كل نتاجه الروائي، أو غير الروائي، ككتابه «الهويات القاتلة»، في محاولات دؤوبة منه لتصالح الحضارات، خصوصًا تجاوز لعنات الطائفية والتسلط والقمع والقهر باسم الدين، الذي هو براء من كل المجازر التي تُرتَكب باسمه.

أخفقت شخصيات الرواية على المستوى الوطني والكوني بتغيير شامل أو جزئي، في تحقيق الطموحات والقضايا المشتركة بالتعايش السلمي والأمان والاستقرار، ونبذ الولاء الطائفي، انتقالًا إلى الولاء الوطني

أخفقت شخصيات الرواية على المستوى الوطني والكوني بتغيير شامل أو جزئي، في تحقيق الطموحات والقضايا المشتركة بالتعايش السلمي والأمان والاستقرار، ونبذ الولاء الطائفي، انتقالًا إلى الولاء الوطني، لأن العوامل المساعدة في غالب الأحيان، لم تتمتع بالقدرة الكافية، التي تجعلها تواجه العوامل المعاكسة، ما جعل الكاتب يقر بهيمنة الانغلاق، وإمكانيته في القضاء على كل ما هو إيجابي. كما نلاحظ، أن العلاقة في محور الاتصال، بين المرسل والمرسَل إليه، عادةً ما حملت في طياتها، تلك العلاقة الجدلية بين طرفين متناقضين ومتعارضين، كل يعطي الحق لنفسه في الدفاع عن مواقفه، إلا أنها طرحت العديد من المسائل، منها ما لن نستطيع عرضه هنا، خوفًا من الإطالة، نذكر أبرزها في معالجة معلوف جدلية القومية والكونية، إذ لا يمكن أن يجتمعا في أمة واحدة، كما حاول إلقاء الضوء على قضية الثورات العربية، «وقضية ضياع هذه الثورات بين التقدميين، ومن ثم تلقف المحافظين لها، متنبئًا بـ«مصيبتين رئيسيتين في القرن الواحد والعشرين: الأصولية الإسلامية ومعاداة الأصولية الإسلامية» (التائهون). إذ إنه يحاول أن يستشرف مستقبل هذه الثورات، خاصة في العالم العربي التي «تقوم باسم الشعب، ويجد الشعب نفسه مرميًا على الطرقات» (التائهون).
كذلك، توضحت في رواية معلوف جدلية التقدم والانهزام، إذ يقول على لسان إحدى الشخصيات: «أردتُ لهذه المنطقة أن تتطور وتتقدم وتنتقل إلى الحداثة، ولم أصادف سوى الخيبات. فباسم التقدم والعدالة والحرية والأمة والدين، لا يكفون عن إقحامنا في مغامرات تتحول إلى كوارث في نهاية المطاف. إنها صرخة عالية الصوت على رفض الاغتراب السياسي والاقتصادي، «حيث يأخذ الاستغلال سمة القانون الطبيعي، أو حيث يصبح القانون أداة تبرير الاستغلال، (كما حصل مع انغماس تانيا ومراد في السلطة القائمة) وبذلك تكون الدولة أداة قهر الفرد وكبح تفتحه، وهو الذي تدعي تمثيله»، من هنا كانت ثورة آدم على الطبقية في المجتمعات العربية، وتاليا، ثقافة الانهزام والانكسار. أما على مستوى الاغتراب الأيديولوجي، الذي يقوم في مستوى الوعي، فحذر آدم، من القيام بثورات، بناء على «وعي مغترب»، لذلك كان ينادي أن «على دعاة الثورة الإثبات سلفًا بأن المجتمع الذي سيعملون على إنشائه، سيكون أكثر تحررًا وإنصافًا وأقل فسادًا من المجتمع القائم حاليًا» (التائهون). وهو ما ينطبق على المنفى زمن القياصرة بالمقارنة مع المنفى في الحقبة الستالينية، يكاد يشبه المخيم الصيفي»، إشارة منه إلى خطر التحولات بين الواقع والمرتجى. ومن ثم يعرض معلوف بعض القضايا المتأزمة في هذا الشرق عند الإسلاميين المعتدلين الأثرياء المتألمين عند رؤية قومهم في أسفل الهاوية. «فمن ينطقون بلغتي ومن يعتنقون ديانتي، يحقرون في كل مكان، وغالبا ما يتعرضون للكراهية. إنني أنتمي، بحكم الولادة إلى حضارة مهزومة، وإذا لم أشأ التنكر لأصلي، فأنا محكوم بالعيش مع هذه الوصمة على جبيني». كذلك تطرح هذه الرواية محور التحرر والتدين، بين آدم المتحرر ونضال المتدين والمطرف الإسلامي/ الغرب والشرق علاقة قائمة على عدم المساواة/ الأذية المتبادلة/ اللحية بين غيفارا والإسلامي/ التغيير، وغيرها من المحاور التي لن يتسنى لنا مناقشتها في هذا المقال.
إنه الخوف الدائم عينه، مما يبدأه التقدميون، ورافعو لواء الثورة والتغيير، ومن ثم تلقف المحافظين، لهذه الثورات، وتسلمهم السلطة، ومن ثم الانغلاق والانهزام مجددا في معاداة كل ما هو خارجي. كذلك تظهر الرواية التحولات التي أصابت الشخصيات، من شخصيات تفاؤلية تقدمية مناضلة، إلى شخصيات تستشرف التخلف الحاصل والشعور بالانهزام والانكسار، وعدم جدوى الثورات التي تقحم الدين بما هو منها براء، والتي تقدس العنف وتُرتكب باسم الشعوب الذين يرون أنفسهم لاحقًا بلا وطن.

٭ أكاديمية وروائية لبنانية



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2184624

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع مقالات ومحطات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2184624 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40