يبدو أن المفاوضات المباشرة «الفلسطينية الإسرائيلية» التي استؤنفت مؤخراً بين الطرفين في واشنطن ومن بعدها في منتجع شرم الشيخ المصري ستبقى مفعمة بالمفارقات «غير السارة» نظراً لقناعة «الإسرائيليين» بأن العرب وعلى الأخص منهم الفلسطينيون باتوا على قناعة أكيدة باستحالة وجود حل بديل للصراع مع «إسرائيل» غير المفاوضات، والقبول بما يمكن أن يجود به «الإسرائيليون» من تنازلات، وفقاً لما جاء بالنص على لسان ايهود باراك وزير الحرب الصهيوني في حديث مع صحيفة «هآرتس» قال فيه : «اليوم تتنافس الدول العربية في ما بينها على أية مبادرة سلام يتبناها المجتمع الدولي، وإذا كانت الدول العربية قد أضحت، إلى هذا الحد، متلهفة على أية مبادرة سلام، فإن وضع «السلطة الفلسطينية» أكثر صعوبة من ناحية افتقار البدائل ومن ثم التعويل المطلق على المفاوضات من دون تدبر أو انتظار لمعرفة مدى صدقية النوايا «الإسرائيلية» تجاه المفاوضات». وهنا بالتحديد تتكشف مدى «درامية المفارقات» بين الموقفين الفلسطيني و«الإسرائيلي».
ففي الوقت الذي اهتمت فيه «السلطة الفلسطينية» بتوجيه اللعنات إلى الخيارات البديلة ولمن يطرح هذه الخيارات تبارى قادة الكيان في التشدد وفرض الشروط، والحرص على النيل من شأن المفاوضات والتشكيك في جدواها في محاولة لإظهار محدودية أولوية هذه المفاوضات بالنسبة لهم رغم أنهم من ضغطوا وبشدة على الإدارة الأمريكية من أجل اقناعها بالقبول بهذه المفاوضات كبديل لمسار المفاوضات غير المباشرة التي كانت تجري بوساطة أمريكية.
في الوقت الذي تتهافت فيه «السلطة» ودول عربية على المفاوضات، يحرص «الإسرائيليون» على تنسيق الأدوار بينهم، حيث يظهر وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان كمتشدد غير مكترث بالمفاوضات ويؤكد عدم جدواها، في حين يظهر وزير الحرب إيهود باراك كمتفائل ومتحمس وصاحب رؤية يمكن الحوار حولها، أما رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو فهو الحريص على التوفيق بين المتشددين والمعتدلين والأكثر حرصاً على مصالح «إسرائيل» وعلى الإجماع «الوطني».
وفي الوقت الذي رفض فيه ليبرمان الاستمرار في تجميد الاستيطان كشرط فلسطيني لمواصلة المفاوضات حرص على أن يظهر عدم أولوية المفاوضات بالنسبة «لإسرائيل» عندما قال : «أي شيء لن يفيد بما في ذلك الحلول الوسطية التاريخية «يقصد ما تحدث به نتنياهو بهذا الخصوص» أو التنازلات المؤلمة» فضلاً عن هذا كله الشروع في «اتفاق مرحلي طويل الأمد» باعتباره الحل الوحيد، أي اتفاق على دولة فلسطين مؤقتة لأجل غير مسمى لحين اكتمال مشروع التوسع الاستيطاني ليشمل كل ما يريد «الإسرائيليون» ضمه إلى الكيان وفرض الدولة المؤقتة دولة دائمة.
ففي الوقت الذي يجري فيه تسويف حق العودة للفلسطينيين المنصوص عليه في الوثائق الدولية يؤسس نتنياهو لـ «حق عودة بديل» لليهود بدلاً من الفلسطينيين من خلال شرط الاعتراف الفلسطيني والعربي بـ «تهويد إسرائيل»، بكل ما يعنيه من اعتراف بأن هذه الدولة هي «الدولة» القومية للشعب اليهودي، أي أن كل يهودي في أي مكان في العالم أياً كانت جنسيته المدنية، لا بد أن تكون له جنسيته القومية الدينية، أي الجنسية اليهودية وتكون «إسرائيل» هي دولته، وله حق العودة بل واجب العودة إليها.
نتنياهو لم يكتف بذلك بل اعتبر أن «لا نضال أكثر عدالة من نضالنا من أجل العودة إلى وطننا، ولن تكون هناك علامة استفهام حول حقنا ولا على عدالة قضيتنا» القضية إذن قضية نضالية وليست مجرد قضية مسميات كما يتصور أو كما يسخر البعض من الاصرار على «يهودية» الدولة، بل الأمر يفوق هذا كله عندما يقول نتنياهو «إن القرن العشرين أوضح جيداً أن مستقبل الشعب اليهودي متعلق بمستقبل دولة «إسرائيل»».
معنى هذا أن المفاوضات الحالية هي بمثابة مفاوضات «حق العودة البديل» لليهود طالما أن حق العودة الفلسطيني تحول إلى ذكرى.