الثلاثاء 22 حزيران (يونيو) 2010

قصص تروي قصصاً

الثلاثاء 22 حزيران (يونيو) 2010 par الياس خوري

لن يكون العالم بعد موته مثلما كان في حياته. كان جوزيه ساراماغو الذي عاش اعوامه الأخيرة في بعيد جزر الكناري، أشبه بشجرة نتفيأ ظلها، كلما استبد بنا العطش الى العدالة. هذا البرتغالي النبيل والشجاع، كان مدرسة في الأخلاق. من صدامه مع الكنيسة الكاثوليكية بعد صدور روايته الكبرى: «الانجيل بحسب يسوع المسيح»، الى احتقاره لزمن برلوسكوني واضرابه من أسياد ديكتاتورية المال، الى موقفه ضد الاحتلال الاسرائيلي حين قام مع مجموعة من الكتاب العالميين بزيارة شاعر فلسطين محمود درويش في رام الله، من أجل التضامن مع نضال الشعب الفلسطيني خلال انتفاضة الأقصى، عام 2002. وفي رام الله قارن بين معسكرات الاعتقال الجماعية في فلسطين وبين معسكرات الابادة النازية.

كان هذا البرتغالي العجوز، الذي نضبت حياته قبل ان ينضب قلمه، نموذجا للمعنى الأخلاقي للمثقف والكاتب. كان الأكثر جرأة، والأقل احتفاء بمغريات هذا الزمن. ولعل صديقنا الشاعر الكبير سعدي يوسف حين أطلق على نفسه لقب الشيوعي الأخير، كان يتصادى مع هذا الشيوعي البرتغالي الذي لم ينحن لعاصفة الرأسمالية المتوحشة، وبقي امينا حتى النهاية لقضيتي المساواة والعدالة.

سوف يُكتب الكثير عن سيرة هذا الكاتب الذي احترف الكتابة في الخمسين. أصوله المتواضعة، عدم اكماله لدراسته، انضمامه الى الحزب الشيوعي، عضويته في البرلمان... وسوف يتوقف الكثير من المعلقين عند تصريحه الشهير الساخر الذي قال فيه: «اعتاد الناس ان يقولوا عني، انه جيد لكنه شيوعي، والان يقولون انه شيوعي لكنه جيد».

غير ان سرّ ساراماغو الكبير اسمه الحكاية. امتلك هذا الكاتب سحر المزج بين الحكاية الكنائية والخرافة، كان واقعياً في تجاوز الواقع، وتاريخانياً في تأويل التاريخ، ومهندس اشكال ورؤى.

لا تستطيع أن لا تتوقف طويلا عند حكاية العماء الذي يضرب جميع ابطال روايته «العمى»، فتصير العلاقات الاجتماعية صفحة سوداء يكتب عليها بياض العماء حكاية استغلال الانسان للانسان. كما لا تستطيع ان لا تنذهل من نقطة انطلاقة روايته عن المسيح. يسوع الناصري الذي نجا من مذبحة الأطفال التي صنعها هيرودس، سوف يحمل وزر خطيئة والده، الذي هرب بإبنه من دون ان يقوم بإبلاغ الآخرين، فدفع الأب وابنه حياتهما على الصليب ثمناً لهذه الخطيئة «الأصلية».

عالم من الكنايات والأفكار، وسحر اسلوبي يأخذ الفكرة الى تجسيدها الحكائي، محولا الحكاية امثولة عن المصير الانساني.

من «حصار لشبونة» الى «كل الأسماء» و«سنة موت ريكاردو رايس» وصولا الى «الفيل»، كانت رحلة ساراماغو مع الرواية تلخيصاً مكثفاً للتأمل في أحوال الانسان، ومدوّنة كبرى عن ضرورة الأدب، وحاجة الانسان الى فيئه الروحي، في قراءة تجربته التاريخية مع البحث عن المعاني.

«نحن قصص تروي قصصاً، بمعنى ما»، كتب الشاعر فرناندو بيسوا. كأن مؤلف رواية «سنة موت ريكاردو رايس»، وهو أحد أسماء بيسوا المستعارة، جعل من كل عمله الروائي تجسيداً مكثفاً لهذه العبارة.

رواية المتاهة المتعددة الصوت، النثر الكثيف الذي ينعطف في دوائر تنتقل من صوت الى آخر، السخرية والفكاهة التي تضبط الايقاع الروائي، جعلت من أعمال ساراماغو احدى العلامات الكبرى لأدبنا المعاصر، وللفن الروائي الذي يتجدد مع كل قصة أو حكاية ترويها قصصنا لبعضها البعض.

هذا الروائي الذي ولد في قرية أزينهاغا عام 1922، وعمل ميكانيكياً قبل ان يصير صحافياً ومناضلاً وكاتباً، عبر برواياته من قرن الدم والجريمة الى قرننا الذي تصطبغ بداياته باللايقين والدم.

غير أن ساراماغو، (نوبل للأدب 1998) قدّم معنى جديداً للالتزام الأدبي. شارك أدباء امريكا اللاتينية الكبار في اطاحة الواقعية الجامدة، ورسم رؤية جديدة لمعنى التحرر من كل قيد، جاعلا من الرواية عالماً مرسوماً بحبر المعرفة وسؤالاً متجدداً عن المعاني الضائعة.

عام 2002 قفز ساراماغو الى مقدمة المشهد الفلسطيني. ذهب الى رام الله، وتجوّل في الوطن المحتل، ورفع صوته عالياً في مواجهة عهر الاحتلال ووحشيته.

كان يجب أن يأتي صوت الضمير من مكان ما. امتلك هذا العجوز الرائي شجاعة تخلّى عنها اغلبية المثقفين في زمن يسعى الى تحويل المثقف تقني معرفة، والكاتب والفنان مهرجاً في خدمة وسائل الاعلام.

ولأن التزام الضمير وحدة لا تتجزأ، جاءت مواقف ساراماغو الفلسطينية جزءا من مواقفه النقدية في البرتغال واوروبا. غادر وطنه وهزىء من دور النشر التي يمتلكها الميلياردير الايطالي المهرّج الذي صار رئيساً للوزراء، وانتقد الاتحاد الأوروبي في نزعته النيوليبرالية، التي ستجعل بلاداً كالبرتغال واسبانيا واليونان، مجرد مشهد خلفي لرأسمالية متوحشة سوف ترمي جنوب اوروبا في الفاقة والديون والأزمات.

كان ساراماغو صديقاً للكلمة، وصديقاً لفلسطين.

عالم من دون ساراماغو لن يشبه بالتأكيد عالماً ملأه هذا الكاتب العظيم بالحكايات والمواقف والرؤى.

تحية الى ساراماغو.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2182233

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع مواد  متابعة نشاط الموقع سرد وحكاية   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2182233 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40