كان الجو في ذلك اليوم غائماً رغم أن الشمس أخذت من أجسادنا ما يكفيها لتشبع ضوءها الجميل .. لم تتوقف الضحكات حد الاستهزاء من صديقي المجنون ، بل استمرت لتصل أيضاً صديقتي النرويجية إيزابيل ، إنها لم تكن تعلم أن الفلسطيني لا يرى كل هذهِ التصرفات سوى أنها سخرية تشابه في عمقها الحياة هناك، فهم لا يعرفون أصوات القذائف ولم يشاهدوا بعد تفاصيل الموت .
بل لم أكن أعلم أنا ، أن هذه التصرفات ما كانت لتطرحها إيزابيل إلا تناغماً مع حياة بريئة طيبة بيضاء كلون النهار في قلوبهم التي لا تعرف الحزن أبداً .
دقت الساعة مجدداً حتى طلبت منا الصديقة ريبيكا الاستعداد للمغادرة، كنت أعشق ركوب القطار الطويل الذي يبلغ طوله مساحة شارع الجلاء في غزة ، وكنت دائم التأمل ما بين مساحتين منفصلتين في النرويج وفي غزة ، متفقتان بأن الموت قد يأتي في كلّ لحظة وفي كل حين ، ألم يقولوا عن هذا القطار بأنه قطار “الموت” ، وألم يقولوا عن شارع الجلاء بأنه شارع “الموت” ، لقد قصفوني كثيراً هناك لكني كنت أتبسّم فهكذا التراجيديا المذهلة ، لست خائفاً أو نادماً، لكني إذا ما متّ على أعتاب القطار، فإنني أفتقد بهذا الموت ألوان الطيف لحياة لا تعرف الموت .
اصطحبني صديقي العراقي أحمد إلى ركن منزوٍ في حديقة بيته الراقية، تعثر أمام أول لوحة فنية رأيناها معلقة على أسوار تلك الحديقة ، بدا وكأنه يرى الأشياء فيها بعيون اعتادت على أن تبكي كلما شاهد تلك اللوحة ، بدأت اقترب منه حتى لامست يدي خصلات شعره .
ــ ما بك يا أحمد، ماذا ترى في تلك اللوحة الحزينة ؟!
ــ بعض الشوارع الممزقة يا عمر وأوطان .
ــ أتقصد وطني المذبوح هناك في فلسطين ؟
ــ بل وطني المذبوح هنا في حديقتي .
ــ أي وطن تقصد !
ــ الغربة
ذاك لأنه لم يولد في بغداد ولم يأكل من طعامها ولم يشرب من ماءها ولم يصافح على الإطلاق شوارعها وترابها، ويشكو الغربة للوحة فنية شابهت إلى حدٍ كبير شارع الجلاء في غزة ، وشوارع مخيم النصيرات التي اختلطت ملامحها المذبوحة بلون شارع عابر في تلك اللوحة الشهيدة .
استرخ قليلاً تحت مظلته التي اعتاد الجلوس تحتها، استل آلته الموسيقية “العود” حتى داعبت أنامله هدوء الأحبال الصوتية .
ــ تلك الحياة قاسية يا عمر
ــ استغربت ! ، نعم يا صديقي قاسية للغاية ولكن لماذا تقول هكذا ؟
ــ لا لشيء ، إنني فقط أتمنى لو أنني بالحياة وحدي مع آلتي الموسيقية هذه .
ــ إذن، وماذا تستفيد ، ما الفرق بين الناس من حولك وبين آلتك الموسيقية ؟
ــ اييييه “فقط الوفاء” ، هل سمعت عن آلية موسيقية تغدر بصاحبها ؟
ولن أجد يا أحمد لطالما عبرت عن أنفاسك بطريقتك الخاصة ، فالوفاء في آلتك الموسيقية يمنحك أنغاماً دافئة لتطيب على صدرك رائحة الحياة الجميلة ، البريئة، المتصلة بإحساسك الوردي مع مدينتك الغائبة “بغداد” .
في غزة، بالكاد تصحو حيّا وأنت لا تحلم ولو لليلة واحدة بذاك الشبح الذي أراد من آلتي الموسيقية أن تصمت أبداً .. أبداً حتى الثمالة .
فضحكاتك المهزومة يجب أن تخرس أو فلتدفع ثمن إظهارها 3 شواقل على كل ابتسامة، سارع إلى الصلاة لربما تطعنك سكين غادرة تقسو عليك كما تقسو الشمس الحارقة على أجساد الشوارع .. لا تحمل الحلم معك أينما تسير فيها .. فقط عليك أن تشكر الله في كلّ خطوة بأنك ما زلت مذبوحاً، وعلى قيد الحياة .
ولربما عرفت الآن لماذا فاقت صديقتي إيزابيل بسخريتها النرويجية وجعي الغزّي .. ولعلي فهمت تفاصيل لوحة أحمد التي هزمت بألمها الألم ذاته وباتت تتوق لرؤية بغداد الممزقة .. فالقطار لا يسير باتجاه الجداران المثقوبة .. وشارع الجلاء لم يفهم سرّ تناثر أشلاء الشهداء فيه بعد ..
فلم تكن تلك الحياة بقسوتها لتمر عن قلوبنا البريئة إلا لتنهش اللون الأبيض على لوحة الحقيقة .. في كلّ يوم تكبر أحلامنا وطموحاتنا وبكبرها تكثر سكاكين الغيرة التي لا ترى إلا بعيون سوداء قاحلة .. إن علينا أن نلتزم بأخلاقياتنا ونعي أن الصمت لا يهزّ قوة الحلم لغدٍ مشرق .. وأن سكاكين الحياة مهما كثرت ضرباتها تمنحنا الثقة بذاوتنا لكي نبقَ ونستمر .
لنعي، أن في كلّ دمعة .. صدق جديد يضاف إلى رصيد القلب الأبيض