منذ بواكير النهضة العربية في القرن التاسع عشر، التي لم تسلم، شأن محاولات سابقة، من الإجهاض والشد العكسي الذي تجسّد في أفكار ورؤى تقليدية أفقدها التاريخ صلاحيتها، والصراع دائر على أشده بين الجوادين اللذين يقودان العربة . فمقابل كل تنويري ورائد ثمة عدد من ذوي العقول السجينة في الجبس، تماماً كما كان الصينيون يفعلون بأقدام أبنائهم كي لا تنمو، وهذا الصراع ليس حكراً على العرب المعاصرين ومجمل تاريخهم، إنه من صميم الجدلية الخالدة للتاريخ البشري برمته .
ولم تكن أوروبا في المحاولات المتعاقبة للنهوض والانعتاق من ظلام العصور الوسطى خارج هذا المدار، وعدد من نكّل بهم وعوقبوا قد يفوق عدد أمثالهم في أية قارة أخرى، لهذا قد لا تعلم حفيدة جان دارك كم هو الثمن المدفوع لتحقيق ما تنعم به من حرية .
والثورات بدءاً من الثورة الفرنسية لم يكن طريقها ممهداً ومعبداً، فقد قطعت رؤوس ومنها ما ألقي في القمامة كرأس عالم الفيزياء “لافوازيه”، وقد وصف الكاتب الفرنسي ألبير كامو في كتابه عن المقصلة المشهد الدرامي والمؤثر لقطع رأس شارلوت كوردييه ثم صفع الرأس المقطوع الذي ظهرت عليه آثار الأصابع .
إن أسهل الطرق أمام البشر هي تلك المعبدة والمطروقة بحيث يبقى كل شيء على حاله، وبالتالي تسود المقولة الخرقاء وهي ليس بالإمكان أفضل مما كان . لكن التقدم والتحرر وسائر منجزات الحضارة هي الأعسر، لأنها مضادة للغرائز بكل ما تفرزه من نوازع وحشية .
ومن يتصورون أن النهوض ومعركة التنوير ستكون معفاة من تلك الضرائب الباهظة هم فئتان، واحدة لم تقرأ التاريخ أو تصوّرت أنه بدأ بالأمس فقط، والأخرى رومانسية تحلم بأن تقطع المانش سباحة، رغم أنها لم تتعلم السباحة إلا على الرمل أو على السرير .
والحرب السادسة التي يخوضها العرب الآن إذا صدقنا بأنهم خاضوا بالفعل الحروب الخمس ضد عدوهم التاريخي والوجودي هي حرب حضارية بامتياز، فالصراع في العمق وليس كما يطفو على السطح هو بين قوى تحلم بالمضي قدماً إلى الأمام وتعي الخسائر المادية والمعنوية للمراوحة، أو البقاء على هامش التاريخ، وبين قوى تشد إلى الوراء، وكل طرف يحاول ما استطاع استدعاء كل ما لديه من احتياطات، ما يضطر الطرف الثاني الذي يمثّل الشد العكسي إلى تقويل الماضي بدلاً من تأويله، والتلاعب حتى بنصوص مقدسة . والمثير بالفعل أن أكثر الأطراف زعماً بالطهرانية والمثالية هي الأكثر برغماتية وذرائعية في الواقع، لأنها من حيث تدري أو لا تدري تفيض عن الراهن كي تتمدد باتجاهين، هما الماضي الذي يجري تقويله بدلاً من تأويله، والمستقبل الذي تجري مصادرته في الرحم .
الأربعاء 12 شباط (فبراير) 2014
الحرب السادسة
الأربعاء 12 شباط (فبراير) 2014
par
خيري منصور
مقالات هذا المؤلف
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
13 /
2194874
ar أقسام الأرشيف أرشيف المقالات ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
20 من الزوار الآن
2194874 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 20