بعض المثقّفين المتحمّسين للخراب الزاحف في الوطن العربي، يحاججون بأن ما يجري، على سوئه، مخاض لا بد منه للتغيير والإصلاح، وإلى آخر قائمة الشعارات التي باتت محفوظة عن ظهر قلب من كثرة تكرارها، الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والتعددية السياسية . ويبني هذا البعض محاججته على كلام حق يراد به باطل، فحواه أن هذا الخراب والدمار وشلالات الدم، ستؤسس لتحقيق هذه الشعارات، مثلما أن مخاض الولادة ينطوي على ألم يؤسس لحياة مولود جديد .
نخبة النخب هذه فاتها أنّ العموميات ليست بالضرورة صالحة لكل الخصوصيات، وأن الاستناد إليها من دون قراءة دقيقة وعلمية وموضوعية للواقع الخاص، تضليل وتدجيل وتزوير، وهم يروّجون ما يعمّم طالما أن غيرهم يدفع الثمن وهم يقبضون . لا غرابة، إذاً، في أن بائعي الكلام عادة ما يكونون جزءاً من واقع يمتصون ما يستطيعون منه طيلة عقود، ثم يتفننون في التنظيرات الأستاذيّة والفذلكات اللغوية، ويهاجمونه بعد الهروب بعيداً عن ميدان دفع الثمن .
صحيح أن المخاض مؤلم، لكن كل ولادة لها مولودها المنتمي، وأمّه وأبيه، إلى نوع من الكائنات الحية التي تحمل خصائص معلومة، والمخاض يأتي تتويجاً لعملية بيولوجية تأخذ مسارها ووقتها واحتياجاتها . وحتى في هذا المثال، فإن أية أخطاء قد تأتي بالمولود مشوّهاً . ولادة التطور لدى الشعوب شبيهة بالولادات الفردية في كونها تتويجاً لمسار وليست عشوائية، لكنها تختلف في أنها ليست قيصرية ولا يجدي معها الطلق الصناعي، كما أن بعض المجتمعات لها خصوصية تاريخية وبنيتها الخاصة، ولا تحتاج إلى الكليشيهات الجاهزة في الغرب أو الشرق .
عندما تتحدّث وقائع بلدان “الربيع العربي” ومعطياتها عن نفسها على نحو بائس، اجتماعياً واقتصادياً واجتماعياً، وعندما تقدّم صورة سوداء لا تنسجم مع الحد الأدنى من الشعارات التي رفعت في البدايات، يخرج من يتحدّث عن المخاض والفترات الانتقالية، وهو كلام يعوم في مستنقع لزج ولا يعدو كونه هروباً للأمام . فمن يريد إعادة بناء مطعم يستطيع أن يحدد التكاليف والفترة التقريبية التي تحتاجها العملية، لأنه يعرف مسبقاً حجم مطعمه وماهية الأدوات والإمكانات التي يملكها لإعادة البناء . وكذلك الأمر، لو كان لأي حراك شعبي قيادة منظمة وواعية وتعرف ما تريد وتنطلق من واقع شعبها واحتياجاته وطبيعة تركيبته الديمغرافية، لرأينا عملية تغيير تجري كما يخطط لها تقريباً . حتى لو حدثت بعض النتوءات والتعرجات والإعاقات، سيبقى المنحى العام متجهاً وجهته الصحيحة .
في الواقع الملموس، لا شك في أن أي تغيير يحدث معه وضع صعب، لكن بوجود قيادة له يعرفها الشعب ويحاكم مسارها وسياساتها وفقاً لبرنامجها المعلن، يستطيع الجميع رؤية وتلمّس خطوات في اتجاه الهدف، لكن بغياب مثل هذه القيادة . تصبح الأبواب مشرعة للاجتهادات المتخبّطة، في أفضل الظروف، وللتدخّلات الخارجية العابثة، في أخطرها . لدينا العراق نموذج، فهو بعد عشر سنوات على تغيير نظامه، لا يلوح بريق أمل بأنه يتجه إلى مستقبل معلوم الملامح، في حين يحسب الشعب العراقي الأيام والساعات بعدد الضحايا من القتلى والجرحى والمشرّدين والمجهّلين . أصبح الوقت في العراق، ومثله ليبيا، من دماء ودموع .
الخميس 16 كانون الثاني (يناير) 2014
المخاض ومتطلبات التغيير
الخميس 16 كانون الثاني (يناير) 2014
par
أمجد عرار
مقالات هذا المؤلف
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
10 /
2182962
ar أقسام الأرشيف أرشيف المقالات ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
6 من الزوار الآن
2182962 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 5