تعدد ظاهرة الفساد بتعدد المجتمعات الإنسانية وبالتالي فهي لا تقتصر على دولة دون أخرى، ولا على تنظيم سياسي أو اجتماعي واقتصادي من دون تنظيم آخر، ولا على فترة تاريخية من دون غيرها، حتى وإن تنوعت أشكالها واتسعت معانيها ومضامينها . إذ إن كل من يريد الحصول على امتياز حصري لشخصه أو مجموعته، وكل من يقدّم هذا الامتياز اعتماداً على الوظيفة أو السلطة التي مُنحت له من أجل تسيير الخدمة العمومية، يدخل في خانة الفساد الذي يمثل أحد مظاهر انتشار السلوك الإجرامي في أوساط النخب الاقتصادية والسياسية التي تمنح لنفسها حقوقاً تمنعها عن الآخرين . وينتشر الفساد بوتيرة كبيرة في المجتمعات التي لا يوجد فيها فصل حقيقي بين السلطات بحيث تهيمن السلطة التنفيذية على السلطتين القضائية والتشريعية، وينتج عن ذلك ضعف تام للأجهزة الرقابية وغياب مقلق للمحاسبة والمساءلة وانتشار إحساس جارف بوجود وضعية من انعدام العقاب، في ظل تواطؤ النخب المُسيِّرة التي تعمل على إخضاع المنظمات الأهلية وتنظيمات المجتمع المدني إلى سلطتها .
وتشير بعض الدول في مدوناتها القانونية إلى أن الفساد أو الاتجار بالنفوذ مرادف للحالة التي يكون فيها شخص ما مؤتمناً على السلطة العمومية، أو مكلفاً بمهمة متعلقة بالخدمة العمومية أو منخرطاً في سياق عهدة انتخابية عامة، يمثل من خلالها قطاعاً من المجتمع، ويقوم فيها هذا الشخص بالتوجه بطلب أو يتعهد بتقديم خدمة . ويشدد المشرع على الحالات التي يتم من خلالها العرض على هذا الشخص بأن يقوم أو يمتنع عن القيام بفعل من الأفعال المرتبطة بأدائه لوظيفته، أو أن يحصل من خلال تأثيره المباشر استناداً إلى وظيفته وسلطته على: “امتيازات، وظائف، وصفقات”، أو على أي شيء آخر لمصلحته، ولا يميِّز القانون في الأغلب بين من يطلب الخدمة المدرجة في خانة الفساد وبين من يعمل على تقديمها . وتفيد القاعدة العامة هنا أن كل ثروة أو خير لا يُراقب أو يُحمى بشكل كافٍ يكون عرضة للنهب، لأن المنظومة العقابية الفعّالة تسهم في ردع السلوكات التي تشجّع على الفساد وتجعله مقبولاً لدى قطاع واسع من المجتمع .
لسنا معنيين في هذا المقام بتقديم التعريفات المتعددة للفساد، فنحن نزعم أن الناس يعرفون بحكم الفطرة ما يحق لهم أن يحصلوا عليه وما يتوجب عليهم تجنب طلبه في ظل مجتمع يؤمن بالحد الأدنى من العدل والإنصاف، ولكن ما يعنينا في هذا السياق هو لفت الانتباه إلى حالات الفساد التي تنتشر في العديد من الدول العربية والإسلامية، وبخاصة بعد أن أضحت فضائح الفساد تتصدر عناوين النشرات الإخبارية وتهيمن على الأحاديث العامة للمواطنين في مختلف أماكن التجمعات التي تشكل جزءاً من الفضاء العمومي أو المجال العام للمجتمعات العربية الإسلامية . ونعتقد أن هذا السلوك المشين يعود في جزء كبير منه إلى ضعف ثقافة المواطنة وغياب الإحساس بالانتماء إلى وطن وإلى دولة تحمي الحقوق وترعى الواجبات، لأن انهيار الإمبراطوريات القديمة وقيام الدول الوطنية المعاصرة لم يسهم - عندنا- في خلق عقد اجتماعي أساسه قيم المواطنة التي تجمع ما بين مختلف الأفراد، وأدى ذلك إلى تحوّل رجال الخدمة العمومية إلى إقطاعيين من نوع خاص، وذلك بعد أن عجزت معظم دولنا عن التحول من جمعيات ريعية، يحتجّ فيها الناس على حرمانهم من الريع وليس على تفشي الفساد، إلى كيانات تشاركية تصبح فيها المصلحة العامة جزءاً لا يتجزأ من المصلحة الخاصة التي يتوجب الدفاع عنها وحمايتها .
وجاءت فضيحة الفساد الأخيرة في تركيا التي مسّت حزب العدالة والتنمية الموصوف بحزب “الحق”، لتُبرز للجميع أن الفساد لا يقتصر على تنظيم سياسي دون آخر، وأنه سلوك ناجم عن هشاشة مؤسسات الدولة في المجتمعات العربية -الإسلامية، نتيجة الأسباب المركّبة والمعقدة التي أتينا على ذكر بعضها، وعليه فإن مجتمعات العدل والمعرفة لا يبنيها من يرفعون شعارات “الإسلام السياسي”، وإنما تقيمها مجتمعات تراهن على صلابة وكفاءة المؤسسات التي تسهر على رعاية وتسيير المصالح العمومية والمرفق العمومي . لقد رفعت جماعة الإخوان ومعها جل التنظيمات المرتبطة بحركة التوظيف السياسي للإسلام، شعارات “الطهارة” و“الاستقامة” و“التقوى” من أجل الوصول إلى الحكم، وذهبت إلى حد تكفير خصومها وسعت أيضاً إلى احتكار القيم والأخلاق المتعارف عليها كونياً لمصلحتها، لكنها فشلت حتى الآن في تجسيد ادعاءاتها، بل إنها أساءت، بالرغم من قصر بعض تجارب حكمها، إلى مؤسسات الدولة أكثر مما أساء خصومها طيلة عقود من الزمن .
من الصعب في كل الأحوال على هذا النوع من التنظيمات السياسية أن يعترف بأخطائه لأنه يرى أن نموذج الحكم الذي يدافع عنه نموذج “رسولي” مستلهم من الشرائع السماوية، ولا يجدون أي حرج بالتالي في إرجاع إخفاقاتهم إلى عناصر أجنبية وإلى مؤامرات داخلية . فقد تحدث أردوغان كما تحدث مرسي من قبله، عن وجود خطط وصفت بالدنيئة، من أجل الإطاحة بحكمهم، في اللحظة يعمل فيها حزب العدالة والتنمية في تركيا على تحويل سلطته إلى دولة موازية قادرة على التحكم في مفاصل الدولة التركية، ولم يتورّع عن إسقاط هذه التهمة على خصمه وحليفة السابق فتح الله غولان، زعيم إحدى أقوى التنظيمات الدينية في تركيا . والحقيقة أن الفساد يظل مرتبطاً في اعتقادنا، ارتباطاً لا تنفصم عراه بالنزعات الشمولية لعض التنظيمات ومشاريع الحكم، لأن هناك من يريد أن تكون مؤسسات الدولة في خدمته وخدمة أتباعه، بدل أن يكون هو خادمها والمدافع المستميت عن مصالحها وعن صفائها ونقاء ذمتها المالية . لأن الفساد في كل الأحول تتسارع وتيرته ويزداد انتشاره، في الحالات التي يعتقد فيها بعض الحُكام أنهم يشكلون الضامن لاستمرارية الدولة، ولا يقنعو بأن يكونوا في خدمة المصلحة العمومية التي خولتهم إياها رغبة قسم هام من الإرادة الشعبية عبر صناديق الاقتراع . إن الدولة الموازية تتحول في مجتمعاتنا إلى نسق ضخم يبتلع الجميع ويعجز مسيِّروه عن حمايته من الانجراف نحو الفساد، ولا تستطيع النوايا الحسنة لبعض أفراده، التحكم في هذا السرطان الذي يتغلغل بسرعة فائقة داخل كل مفاصل الدولة .
الاثنين 30 كانون الأول (ديسمبر) 2013
الفساد والدولة الموازية
الاثنين 30 كانون الأول (ديسمبر) 2013
par
الحسين الزاوي
مقالات هذا المؤلف
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
17 /
2189802
ar أقسام الأرشيف أرشيف المقالات ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
17 من الزوار الآن
2189802 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 17