الجمعة 23 آب (أغسطس) 2013

حول التناقض والممارسة في الثورة الفلسطينية للأخ منير شفيق

الجمعة 23 آب (أغسطس) 2013

تيار المقاومة والتحرير

حركة التحرير الوطني الفلسطيني - فتح

الأخ منير شفيق

حول التناقض والممارسة
في الثورة الفلسطينية(*)

إيضاح

الهدف من هذا الكتيب يتلخص فيما يلي:
أولاً: محاولة تحليل التناقضات في الوطن العربي، بصورة عامة، وفي الساحة الفلسطينية خصوصاً بصورة تفصيلية.
ثانياً: إذا استطعنا أن نحدد التناقضات بدقة، ونحدد أسلوب معالجتها وحلها، استطعنا وضع استراتيجية وتكتيك صحيحين في المجالات السياسية والعسكرية والتنظيمية للثورة.
ثالثاً: لم تنهج هذه الدراسة نهجاً أكاديمياً في عرض الموضوع، لأنها تطمح في طرح قضايا النظرية والتطبيق، بصورة مبسطة، لئلا تتعقد قراءتها بالنسبة إلى الجماهير وقواعد الثورة.
رابعاً: روعي في هذه الدراسة عدم ذكر أسماء منظمات الثورة والأحزاب والحركات الثورية العربية عندما يتناولها النقد، وذلك لئلا تثار حساسيات (إضافية) تسيء إلى بناء الوحدة الوطنية في الثورة الفلسطينية، وبناء الجبهة العربية العريضة ضدّ الكيان الصهيوني والإمبريالية. ولأن الهدف الأساسي من نقد بعض الاتجاهات في الثورة الفلسطينية أو الوطن العربي هو تقريب وجهات النظر من خلال توضيح بعض القضايا، لإيجاد أرضية للعمل المشترك والالتحام، لا التجريح والهدم.
ملحوظة: كتبت هذه الدراسة قبل أحداث أيلول 1970 في الأردن، لهذا ألحقت بعض الملاحظات في الهوامش.

الاخ منير شفيق

مدخل

عندما تندلع ثورة مسلّحة ضدّ احتلال أجنبي، تواجه عدة تناقضات، خصوصاً، في البلدان المتخلّفة التي ما زالت ترزح تحت نير أنظمة رجعية، شبه إقطاعية، وشبه استعمارية.
وهذه التناقضات ليست على درجة واحدة من حيث الأهمية، أو الحدّة، أو العمق، بالنسبة إلى مرحلة الصراع الوطني ضدّ الاحتلال الإمبريالي الأجنبي لذلك، مسألة تحديد التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية ومسألة كيفية معالجة كل هذه التناقضات وحلها، منفردة ومجتمعة، هما المسألتان اللتان تحظيان بالدرجة الأولى من الأهمية والخطورة في تقرير مصير الثورة، نجاحها أو فشلها، في حقبة تاريخية محددة، وضمن ظروف محلية وعالمية محددة.
إذا خلطنا بين كل هذه التناقضات، ووضعناها على مستوىً واحدٍ من حيث الأهمية، وعالجناها بأساليب غير صحيحة، أو إذا أخطأنا في تقويم دور كل تناقض وأهميته، في مرحلة تاريخية محددة، فسوف تتخبط الثورة، ويصبح من المحال قيادتها إلى النصر، إلا إذا تمّ تدارك ذلك الخلط بأسرع ما يمكن.
تكمن أهمية التحديد الصحيح للتناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية فيما يلي:
أولاً: يساعدنا على فهم طبيعة المرحلة التي تمرّ بها الثورة. أي يساعدنا على فهم طبيعة ثورتنا، مما يؤدي إلى وضع استراتيجية سياسية وعسكرية صحيحة، وتكتيك سياسي وعسكري صحيح.
ثانياً: يساعدنا على معرفة القوى الرئيسية الضاربة، والقوى الحليفة، والقوى التي يمكن تحييدها، والقوى المعادية. أو بعبارة أخرى، سنعرف الأصدقاء والأعداء، وسنعرف شبه الأصدقاء وشبه الأعداء، سنعرف أصدقاء اليوم الذين سيكونون أعداء الغد. وبكلمة، سنعرف ممن تتشكل جبهتنا، وممن تتشكل جبهة العدو في كل مرحلة.
ثالثاً: يساعدنا على معرفة كيفية معالجة التناقضات الثانوية التي تنشأ في صفوف الشعب، وفي داخل الحركة الثورية نفسها، ونحن نحلّ التناقض الرئيسي مع العدو. وهذا يساعدنا على تقويم كل الاتجاهات السياسية والعسكرية التي تنشأ داخل الحركة الثورية، وما يتبع ذلك من تحديد الموقف حيال كل اتجاه. كما يساعدنا على تجنب مقاتلة أكثر من عدو واحد في وقت واحد، أو مقاتلة أعداء المستقبل في الوقت الحاضر. وبكلمة أخرى، يساعدنا على ألا نرتفع بالتناقضات الثانوية إلى مرتبة التناقض الرئيسي، الأمر الذي يؤدي إلى إضعاف جبهتنا، ودعم جبهة العدو، وبالتالي، يؤدي إلى فشلنا في حلّ التناقض الرئيسي بينما نكون قد فشلنا، أيضاً، في حلّ التناقضات الثانوية التي رفعناها إلى مستوى التناقض الرئيسي. وهذا يعني أننا خسرنا الحاضر، ولم نكسب المستقبل.
ولكن، بعد تحديد التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية نأتي إلى قضية هامة، لا تقل أهمية عن تحديد أنواع التناقضات نفسها، وهي مسألة كيفية حلّ كل تناقض ومعالجته. وبعبارة أخرى يجب علينا أن نعرف كيف يعالج كل تناقض، وما هي طرق حله؟ أي، هل نحلّ هذا التناقض أو ذاك بالكفاح المسلّح؟ أم بممارسة ضغوط سياسية؟ أم بالمفاوضات والمساومات؟.. إلخ.
إن مسألة تقرير كيفية حلّ كل تناقض في الثورة، في مرحلة تاريخية محددة، سواء التناقض الرئيسي، أو التناقضات الثانوية هي المسألة المحورية التي ستجيب على السؤال الخالد: ما العمل؟ كيف نحقق أهدافنا؟ ما هو التنظيم (الإدارة) الذي يستطيع حلّ التناقض وما هي طبيعته وتركيبه وبناؤه الطبقي والإيديولوجي؟.. إلخ. وبعبارة مبسطة، أن نعرف كيف نحقق ما نريد بعد أن حددنا ما نريد، في كل مرحلة تاريخية.
ومن الجدير أن ننوه هنا، أن تحديد التناقض الرئيسي، والتناقضات الثانوية، ومن ثم طريقة معالجة وحلّ كل هذه التناقضات، منفردة ومجتمعة، في مرحلة تاريخية محددة، هو الذي يقرّر نظرياً وعملياً الخطّ الثوري الصحيح أي الاستراتيجية والتكتيك الصحيحين. كما أن أي خطأ في فهم طبيعة المرحلة، أي طبيعة التناقضات في تلك المرحلة، ومن ثم طريقة حلها ومعالجتها، هو الذي يؤدي إلى الانحراف اليميني الانتهازي أو الانحراف “اليساري” الانتهازي. فمثلاً، إذا ركّز على حلّ التناقض الرئيسي وأهملت التناقضات الثانوية إهمالاً كلياً، ولم تقم سياسة صحيحة في طريقة معالجة التناقضات الثانوية، في أثناء حلّ التناقض الرئيسي، فهذا يؤدي إلى الانحراف اليميني الانتهازي. وفي المقابل، إذا ارتفعنا بأحد التناقضات الثانوية، أو بها كلها، إلى مرتبة التناقض الرئيسي، فهذا يؤدي إلى الانحراف “اليساري” الانتهازي.
وكذلك هو الحال بالنسبة إلى طريقة حلّ كل تناقض.. فمثلاً إذا تقرّر حلّ التناقض الرئيسي بأسلوب العمل السياسي فقط، أو المفاوضات، في حين تكون طبيعة هذا التناقض من طراز التناقض العدائي الذي لا يحلّ إلا بالسلاح، فهذا يؤدي إلى الانتهازية اليمينية. وإذا تقرّر حلّ التناقضات الثانوية بالسلاح، في حين يكون السلاح فيه موجهاً لحلّ التناقض الرئيسي، ولم تصل حدة التناقض في التناقض الثانوي إلى مرحلة التناقض العدائي، فهذا يؤدي إلى الانحراف “اليساري” الانتهازي.
على أن من المهم أن نلاحظ هنا، أنه ليس من الضروري أن يكون حلّ كل تناقض رئيسي في المجتمع والتاريخ الإنساني لا يتمّ إلا بالسلاح، كما أنه ليس من الضروري أن يكون حلّ كل تناقض ثانوي لا يتمّ إلا بعيداً عن السلاح والعنف الثوري، فمن الممكن في حالات معينة أن يحلّ تناقض رئيسي ما من غير اللجوء إلى الثورة المسلّحة، وخصوصاً، بعد انتهاء مرحلة المجتمعات الطبقية. وكذلك، من الممكن، في حالات معينة، أن يُحلّ تناقض ثانوي ما عن طريق السلاح والعنف المسلّح، وخصوصاً، عندما ينتقل إلى التحالف مع النقيض العدائي في التناقض الرئيسي، أو عندما ينهج خطأ تخريبياً في داخل الثورة المسلّحة، وتستنفد كل الطرق لوضع حدّ له، ولا يبقى من سبيل غير تصفيته بقوة السلاح. وبكلمة، إن الذي يقرّر طريقة حلّ كل تناقض، هو طبيعة ذلك التناقض، في كل مرحلة تاريخية. فطبيعة التناقض، في ظروف محددة، هي التي تقرّر إن كان ذلك التناقض من طراز التناقض العدائي أو من طراز التناقض غير العدائي.
على أن من المهم أن نلاحظ أيضاً، أن تحديد التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية، وتعيين طرق حلّ كل التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية، ليس أمراً جامداً يتمّ مرة وإلى أمد طويل. لأن التناقضات في حالة حركة وتغيّر مستمرين داخلياً وخارجياً، وبالتالي، يصبح من الضروري ملاحظة كل ذلك ودراسته. وإعادة تحديد التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية. وإعادة تعيين طرق حلّ كل التناقضات الرئيسية والثانوية. فمن الممكن مثلاً أن ينتقل تناقض رئيسي إلى مرتبة التناقض الثانوي، وينشأ تناقض رئيسي آخر مكانه، كما حدث مثلاً عندما دخلت القوات اليابانية الصين، حيث أصبح الكومنتانغ بقيادة شان كاي تشيك تناقضاً ثانوياً بعد أن كان طرف التناقض الرئيسي، وأصبح الغزاة اليابانيون هم طرف التناقض الرئيسي في الصين، بعد أن كانوا قبل الاحتلال تناقضاً ثانوياً بالنسبة إلى التناقض الرئيسي داخل الصين.
كل هذه القضايا النظرية، آنفة الذكر، أكدتها تجارب الثورات المسلّحة في كل البلدان، وخصوصاً، تجارب الثورة المسلّحة في روسيا والصين وفيتنام، وقد عبّر عنها، بشكل رائع، كل من لينين، وماوتسي تونغ، وهوشي منه.
والآن، إذا جئنا بهذه الحصيلة النظرية الهامة إلى الساحة الفلسطينية، فسوف نرى مجموعة من التناقضات، من بينها تناقض رئيسي، وإلى جانبه ومعه، عدة تناقضات ثانوية، وهذا ما سنركّز عليه في هذه الدراسة تركيزاً مفصلاً قدر الإمكان.
التناقض الرئيسي
التناقض الرئيسي في الساحة الفلسطينية هو بين الكيان الصهيوني وتحالفه العضوي مع الإمبريالية العالمية وعلى رأسها الإمبريالية الأميركية من جهة والجماهير الفلسطينية وتحالفها العضوي مع الجماهير العربية من جهة أخرى.
وهذا النوع من التناقض هو من طراز التناقض العدائي الذي يتميز بطبيعة عدائية مكشوفة، أي من طراز التناقض الذي لا يمكن أن يحلّ إلا بالكفاح المسلّح.. بالجماهير المسلّحة وبحرب الشعب طويلة الأمد، ولا يمكن أن يحلّ بالمفاوضات أو الضغوط السياسية والدولية، أو بالإضرابات والمظاهرات أو الطرق البرلمانية.. إلخ.
أما الأسباب التي استنتج منها هذا التحديد النظري للتناقض الرئيسي وطبيعته العدائية، فهي:
أ – الكيان الصهيوني بكل مؤسساته الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية، عبارة عن احتلال استيطاني من قبل قوى أجنبية جاءت إلى بلادنا لتأخذ كل شيء ولتحلّ محلّ الشعب العربي الفلسطيني، من خلال طرده من أرضه وبيوته وإلقائه خارج حدود الوطن. أي أن الاحتلال الإسكاني الصهيوني عبارة عن تصفية جسدية وثقافية ومادية كاملة للشعب الفلسطيني، واقتلاع هذا الشعب من الجذور. وهذا جعل الكيان الصهيوني في تناقض حادٍّ وعميق مع الشعب العربي الفلسطيني، وحدد طرفي التناقض الرئيسي في الساحة الفلسطينية. ولكن لمّا كان الشعب العربي الفلسطيني جزءاً من الأمة العربية، وكانت الأرض الفلسطينية جزءاً من الوطن العربي، ولمّا كان الكيان الصهيوني الذي يهدد وجود الشعب الفلسطيني يهدد جزءاً من الأمة العربية، وإذا أضفنا إلى ذلك الأطماع الصهيونية في احتلال المزيد من الأرض العربية، إلى جانب التحالف الصهيوني الإمبريالي في المنطقة ضدّ الجماهير العربية، فإن ذلك كله يحدد التناقض الرئيسي الذي يشمل الشعب العربي الفلسطيني والجماهير العربية من جهة، ويشمل الكيان الصهيوني والإمبريالية العالمية من الجهة الأخرى.
أما من ناحية الطبيعة العدائية لهذا التناقض الرئيسي فيكفي أن نلاحظ أن تحقيق الاحتلال الاستيطاني الاستعماري الصهيوني لفلسطين لا يمكن أن يكون إلا بقوة السلاح، بالعنف العسكري، لأنه يتناقض مع وجود الشعب الفلسطيني من الجذور، وهذا ما حدث فعلاً، وما هو قائم فعلاً. فالتناقض إذن تناقض عدائي لا سبيل لحلّه إلا بتصفية أحد طرفي التناقض بقوة السلاح.
ب – يعيش الشعب العربي الفلسطيني بأغلبيته الغالبة خارج حدود الوطن، بسبب ذلك الاحتلال الصهيوني. ولا يستطيع أن يعود إلى فلسطين بالطرق السلبية أو الشرعية، لأن السلاح الصهيوني مشرّع لصدّه على طول الحدود. حتى في حالة عودة أجزاء منه، كما تقترح بعض الدول! فسيكون وضع تلك الأجزاء من الجماهير الفلسطينية مثل وضع الأقلية العربية الفلسطينية التي تعيش ضمن حدود فلسطين المحتلة، أي تحت الحكم العسكري الصهيوني الذي جرّدها من كل حقوقها في وطنها، وأخضعها بالقهر المسلّح لقوانين تعسفية، سواء تلك التي رزحت تحت الاحتلال الصهيوني قبل حزيران 1967 أو تلك التي وقعت تحت الاحتلال الصهيوني بعد حزيران 1967. ويكفي أن يقوم أبناء الشعب بعمل سياسي “شرعي” ضدّ الكيان الصهيوني لكي يتعرض لمختلف ألوان التصفية، ابتداء من طرده خارج الحدود طرداً نهائياً، ومروراً بالتعذيب الجسدي والسجن والنفي، وانتهاء بالتصفية الجسدية. إن هذا الوضع يحكم حلّ التناقض بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الصهيوني بأسلوب وحيد هو الثورة المسلّحة، ولا شيء عداها سوى قبول الشعب العربي الفلسطيني بالفناء.
ج – إن الوضع القانوني في الكيان الصهيوني يحرم أي نشاط سياسي يستهدف إزالة الكيان الصهيوني، وبناء الدولة الفلسطينية الديمقراطية مكانه، سواء أجاء هذا النشاط من قبل عرب فلسطين، أم من بعض القوى اليهودية إذا وجدت. وهذا، بطبيعة الحال، يسدّ الطريق بقوة السلاح في وجه أي نضال سياسي لحلّ التناقض بالطرق “السلمية” أو “السياسية” أو “الدولية”. ويضع أي مطالب بحل هذا التناقض “سلمياً” تحت طائلة “الخيانة العظمى”. وبالتالي، لا يمكن حلّ هذا التناقض إلا من خلال الكفاح المسلّح والعنف الثوري.
د – ارتبط وجود الكيان الصهيوني تاريخياً بالوجود الإمبريالي في المنطقة العربية كلها، بل هو، في الواقع، أحد إفرازات الإمبريالية العالمية ليكون قاعدة عسكرية واقتصادية وسياسية من أجل المحافظة على المصالح الإمبريالية في منطقة الشرق الأوسط. وبهذا انعقد تحالف عضوي بين هذا الكيان الصهيوني والإمبريالية العالمية، مما أدخل الكيان الصهيوني جزءاً أصيلاً في معسكر الإمبريالية العالمية على النطاقين العالمي والعربي. وهذا الوضع جعل الكيان الصهيوني طرفاً أصيلاً في التناقض بين الشعب العربي الفلسطيني والجماهير العربية من جهة والإمبريالية العالمية من جهة ثانية. وهذا التناقض بين الجماهير العربية (ومن ضمنها الشعب العربي الفلسطيني) والإمبريالية العالمية تناقض عدائي أيضاً، لأن النفوذ الإمبريالي قائم في المنطقة العربية، بصورة مباشرة، وغير مباشرة، على قوة السلاح والعنف العسكري الإمبريالي والرجعي. ولا سبيل إلى تحقيق التحرر العربي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً من النفوذ الإمبريالي الاقتصادي والسياسي والعسكري والثقافي إلا بقوة السلاح لأن التجربة التاريخية أثبتت أن الإمبريالية العالمية – ويجب التشديد هنا على الإمبريالية الأميركية – لا يمكن أن تتخلى عن مواقعها إلا بقوة السلاح. حتى في الحالات الاستثنائية التي اضطر فيها الاستعمار القديم إلى أن يتخلى عن مواقعه شكلياً، لجأ إلى السلاح، فيما بعد، لحماية مصالحه، وبخاصة، من خلال الاستعمار الجديد الذي تمثله الإمبريالية الأميركية التي تحاصر الوطن العربي بالأسطول السادس وبالقواعد العسكرية التي ينتشر بعضها في بلدان عربية. وينتشر بعضها الآخر في تركيا وإيران وقبرص والمحيط الهندي “وإسرائيل”. وهذا يجعل حلّ التناقض مع الإمبريالية العالمية وحلفائها في المنطقة العربية لا يمكن أن يتمّ إلا بالعنف الثوري، أي بحرب الشعب، مما يضيف سبباً آخر إلى التناقض مع الكيان الصهيوني وهو تناقض رئيسي من طراز التناقض العدائي الذي لا يمكن أن يحلّ إلا بالعنف الثوري المسلّح.
بيد أنه ليس كافياً أن نقول بصورة عامة أن التناقض الرئيسي هو بين الكيان الصهيوني والإمبريالية العالمية من جهة والجماهير الفلسطينية والعربية من جهة ثانية. و يكفي أن نحدد الطبيعة العدائية لهذا التناقض الذي لا يمكن أن يحلّ إلا بقوة السلاح، فمن المهم أن نعرف أين تقع عقدة القوة والضعف في طرف النقيض الإمبريالي والصهيوني، وأين تقع عقدة القوة والضعف في طرف النقيض الفلسطيني والعربي، لكي نحدد بالضبط أين نوجّه الضربة الرئيسية التي تؤدي إلى حلّ التناقض بكل جوانبه وأطرافه. وبكلمات أخرى، أن نحدّد بالضبط أين تقع القوة الرئيسية الطليعية التي توجه تلك الضربة الرئيسية وأين يقع حلفاؤها، في كل حالة، في أثناء حلّ التناقض مع الكيان الصهيوني والإمبريالية العالمية والمواقع الرجعية في المنطقة. وإن الصورة تتضح أكثر إذا ما حللنا معسكر النقيض الإمبريالي الصهيوني الرجعي، وحللنا معسكر الجماهير الفلسطينية والعربية. وهنا نلاحظ ما يلي:
أ - المعسكر الإمبريالي والكيان الصهيوني
إن المعسكر الإمبريالي أشمل وأوسع من الكيان الصهيوني، فالكيان الصهيوني يحتل جزءاً من الأرض العربية، بينما ينتشر النفوذ الإمبريالي على كثير من الأراضي العربية من المحيط إلى الخليج، بما في ذلك فلسطين حيث الكيان الصهيوني. وهذا بدوره يطرح مسألة كيف يمكن حلّ هذا التناقض مع الإمبريالية العالمية والكيان الصهيوني، وبخاصة، بعد أن تأخذ بعين الاعتبار، أخذاً قوياً، واقع التجزئة في الوطن العربي، تلك التجزئة التي أخذت طابعاً تاريخياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، مما جعل حلّ التناقض مع الإمبريالية مسألة في غاية التعقيد، للأسباب التالية:
1 – إن واقع التجزئة جعل مسألة حلّ التناقض تأخذ شكلاً مجزأ، متفاوتاً زمنياً، وصورة وموضوعاً، من قطر إلى قطر.
2 – أقام واقع التجزئة عقبات كبيرة في وجه تحرك جماهيري عربي شامل موحد لتصفية الإمبريالية من منطقتنا تصفية كاملة.
3 – لقد خلق واقع التجزئة وضعاً جعل تحرك أي جزء من الجماهير العربية ضدّ الإمبريالية والرجعية في حالة حصار إمبريالي رجعي منذ البداية.
4 – إن واقع التجزئة جعل تحرر أي جزء من الوطن العربي لا يعني حلّ التناقض الرئيسي مع الإمبريالية العالمية إلا جزئياً. حتى هذا التحرر الجزئي لا يمكن أن يكون إلا هشّاً ومعرّضاً في كل لحظة لهجمة إمبريالية – صهيونية – رجعية تودي به، وخصوصاً، أن ظروف التجزئة التي اتخذت طابعاً دولياً وعربياً وعالمياً، جعل من الصعب لذلك الجزء المتحرر أن يواصل زحفه المسلّح لتحرير بقية الأجزاء العربية؛ لأن تلك الأجزاء معترف بها دولياً على نطاق عربي وعالمي، كما على نطاق هيئة الأمم. وهذا بدوره لا بدّ من أن يؤدي إلى تدخّل دولي خطر، في حالة زحف ذلك الجزء لتحرير بقية الأجزاء، على عكس الوضع في الصين مثلاً، حيث كان وجود منطقة محررة يعني بداية الزحف لتحرير الصين كلها. هذا طبعاً لا يعني عدم تحدي هذا الوضع الخطر، ولكن المقصود هنا هو تحديد ملامح الوضع القائم كما هو.
وهنا، يبرز السؤال: إذن كيف يمكن تصفية الإمبريالية والصهيونية في الأرض العربية؟
لقد لاحظنا من التحليل أعلاه أن انتشار النفوذ الإمبريالي من جهة، وواقع التجزئة في الوطن العربي، من جهة ثانية، جعلا تحرر جزء من الوطن العربي لا يعني نهاية النفوذ الإمبريالي، ولا يؤدي إلى زعزعة الوجود الإمبريالي من الجذور. وذلك لأن النفوذ الإمبريالي لا يتركّز أساساً في جزء، بصورة خاصة، دون آخر من أجزاء الوطن العربي، باستثناء الوضع في فلسطين، أي باستثناء قاعدته الكيان الصهيوني. وهذا ينقلنا إلى أن نلاحظ أن “إسرائيل” تشكل البؤرة القوية الرئيسية للنفوذ الإمبريالي التي ركّز فيها قوته العسكرية والسياسية الضاربة الرئيسية، فهي في الواقع أقوى من الناحية العسكرية حتى من الأسطول السادس نفسه، وأقوى من أية قاعدة أميركية في منطقة الشرق الأوسط كله. وقد أدت ظروف تاريخية عديدة، لا مجال لتعدادها هنا، إلى جعل مصير الإمبريالية العالمية في الوطن العربي، إن لم يكن في الشرق الأوسط بأسره، مرتبطاً كلياً ببقاء الكيان الصهيوني، أو على الأصح بمصير المعركة المسلّحة من الكيان الصهيوني. وهذه حقيقة لا جدال فيها لأن سياسة البيت الأبيض وعسكريي البنتاغون، أكدوا هذه الحقيقة بكل وضوح ودون لبس. وهذا يؤدي إلى استنتاج أن تحرير فلسطين يعني الدخول في معركة رئيسية فاصلة مع النفوذ الإمبريالي كله في المنطقة، تقرّر نتيجتها ليس بقاء الكيان الصهيوني فحسب، وإنما أيضاً، وجود الإمبريالية بأسرها في منطقتنا كلها. ولكي نزيد هذه النقطة وضوحاً يمكن أن نقول إن تصفية النفوذ الإمبريالي من الجزائر، أو من مصر أو سوريا، لا يؤدي إلى معركة فاصلة تراهن فيها الإمبريالية على كل مصيرها في المنطقة. وهذا ما حدث فعلاً، عندما وجهت ضربات رئيسية للنفوذ الإمبريالي في مصر والجزائر وسوريا لم يؤدِّ هذا إلى إلقاء الإمبريالية في البحر، في حين سيكون الأمر مختلفاً في المعركة مع الإمبريالية على الأرض الفلسطينية، حيث سيؤدي الانتصار في المعركة على الكيان الصهيوني والإمبريالية العالمية إلى الإجهاز الكامل على النفوذ الإمبريالي في الوطن العربي كله. وهذا يفسر لنا شدة حساسية الدول الإمبريالية حين تطلق رصاصة واحدة على الكيان الصهيوني. صحيح أن ثمة دوراً للنفوذ الصهيوني على النطاق العالمي في تشديد تلك الحساسية. ولكن المسألة بالنسبة إلى قادة الإمبريالية ليست بعيدة عن إدراكهم الواضح لما يعنيه تحرير فلسطين من الصهيونية والإمبريالية بالنسبة إلى مجموع المصالح والمواقع الإمبريالية في المنطقة العربية والشرق الأوسط، إن لم يكن في العالم كله، بسبب الأهمية الاستثنائية التي يتمتع بها الوطن العربي اقتصادياً وجغرافياً وسياسياً وعسكرياً. هذا ويمكن أن نلمس ذلك أكثر، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الإمبريالية لم تخلق “إسرائيل” نتيجة حبّ رومانتيكي، وإنما لتكون الحشد من المستوطنين الأوروبيين والأميركيين الذين يشكلون الفيالق العسكرية الضاربة وجعل المصالح الإمبريالية في المنطقة، وجعل النفوذ الإمبريالي في بلادنا العربية “أبدياً”.
لذا من الضروري أن نرى بوضوح أين تقع العقدة في الطرف الصهيوني الإمبريالي في التناقض الرئيسي، تلك العقدة التي يؤدي حلها إلى حلّ ذلك التناقض الرئيسي كله. وهذه العقدة، كما رأينا من التحليل أعلاه، هي دولة “إسرائيل”.
ومن هنا يصبح من الأساسي انطلاقاً من الظروف الخاصة لوطننا العربي، وانطلاقاً من طريقة توزيع النفوذ الإمبريالي في المنطقة، أن نستنتج أن الطرف الإمبريالي والصهيوني في التناقض الرئيسي يتجمع ويتركّز في بؤرة محورية هي الكيان الصهيوني الذي هو قلب طرف النقيض المقابل للجماهير الفلسطينية والعربية في التناقض الرئيسي في منطقتنا.
ب – الجماهير الفلسطينية والعربية
في الواقع، إن الملامح الرئيسية للتحليل الذي قدم لصورة الوضع بالنسبة إلى الطرف الصهيوني والإمبريالي في التناقض الرئيسي في الوطن العربي، يمكن أن يسحب على وضع الجماهير الفلسطينية والعربية من حيث السمات التي تكونت في المنطقة بسبب واقع التجزئة وقيام الكيان الصهيوني وانتشار النفوذ الإمبريالي، كما وصفناه أعلاه، ولكن لا بدّ من ملاحظة ما يلي:
1 – إن الجماهير العربية الفلسطينية جزء من الجماهير العربية، كما أن فلسطين جزء من الوطن العربي. وهي لهذا – أي الجماهير الفلسطينية – مرتبطة عضوياً بالجماهير العربية في داخل طرف التناقض الرئيسي الذي يقابل طرف الكيان الصهيوني والإمبريالية العالمية في ذلك التناقض. لذلك، فهي، أي الجماهير العربية الفلسطينية مثلها مثل بقية الجماهير العربية في كل أجزاء الوطن العربي جزء أصيل في الصراع ضدّ معسكر الإمبريالية والكيان الصهيوني.
2 – الجماهير الفلسطينية هي الجزء من الجماهير العربية الذي وقع مباشرة في مقابل الكيان الصهيوني الذي لعب دور البؤرة في قطب التناقض الرئيسي الموجّه للجماهير العربية كلها. وهي – أي الجماهير الفلسطينية – ذلك الجزء من الجماهير العربية الأكثر انسحاقاً من جراء النفوذ الإمبريالي وقيام الكيان الصهيوني مباشرة على أرضها فلسطين. ولذا أصبحت، بسبب الظروف الموضوعية والتاريخية التي جعلت من فلسطين مركز الاحتلال الصهيوني، في وضع جعلها تشكل ذلك الجزء من الجماهير العربية الأكثر تعرضاً للإبادة والقهر والنهب الإمبريالي والتصفية نتيجة وجود النفوذ الإمبريالي، وقيام الكيان الصهيوني الذي اتخذ بالنسبة إليها شكل الاحتلال الاستيطاني السكاني لأرضها، ومزّقها وشتّتها بعد أن اجتثّها من الجذور، مستهدفاً تصفيتها جسدياً وإنسانياً، وإنهاءها كشعب له أرض هي فلسطين. وهذا بدوره وضع الجماهير الفلسطينية في مركز البؤرة في الطرف المقابل لطرف الكيان الصهيوني والإمبريالية العالمية في التناقض الرئيسي في المنطقة العربية. ومن هنا كان وضعها في ذلك التناقض الرئيسي مقابلاً ومواجهاً لوضع الكيان الصهيوني. وبالتالي، قد شكّلت الجماهير العربية الفلسطينية، موضوعياً، القوة الضاربة الرئيسية في معسكر الجماهير العربية في حلّ عقدة تجمع النفوذ الإمبريالي، أي في الصراع ضدّ الكيان الصهيوني في فلسطين، وهي العقدة التي يمكن حشد الجماهير العربية كلها، من خلال تحركها ضدّ الكيان الصهيوني، وتحريكها – أي الجماهير العربية – لحلّ التناقض الرئيسي كله عبر الكفاح الشعبي المسلّح ضدّ الكيان الصهيوني.
وهنا لا بدّ من أن نقف قليلاً للفت النظر إلى نقطتين:
الأولى: إن التحليل السابق لطرفي التناقض في التناقض الرئيسي، لا يعني التقليل من أهمية الضربات التي وجهت للنفوذ الإمبريالي في بعض أجزاء الوطن العربي، وضرورة توجيه المزيد منها حيثما أمكن ذلك. ولكن القصد هو التشديد على أن طريق تحرير فلسطين من خلال حرب الشعب هو طريق التصفية الكاملة للإمبريالية والكيان الصهيوني، وإنجاز الثورة العربية في الوطن العربي أي إنجاز التحرر والوحدة والثورة الاجتماعية.
الثانية: لا يعني التحليل السابق عدم رؤية الترابط والوحدة في داخل كل طرف من طرفي التناقض الرئيسي.. لأن من الواضح أن ضرب الإمبريالية في أي جزء يؤثر في وضعها في الأجزاء الأخرى، مجتمعة ومنفردة، وعلى جماع النفوذ الإمبريالي والصهيوني. كما أن من الواضح أن تحرك أي جزء من الجماهير العربية يؤثر إيجابياً في تحرك بقية الأجزاء من الجماهير العربية، منفردة ومجتمعة، وعلى جماع الثورة العربية. ولكن القصد هو أن نرى ضمن الترابط والوحدة أين تقع البؤرة الرئيسية أو العقدة الرئيسية التي ترتبط وتتأثر بها بقية الأجزاء أكثر من غيرها، وبصورة أكثر حسماً، ويكون حلّها مفتاح حلّ كل التناقض الرئيسي. وبكلمة أخرى، لا يكفي أن نرى الترابط والوحدة بين الأشياء، بصورة عامة، وإنما يجب أيضاً أن نعرف طبيعة ذلك الترابط والوحدة، ودور وأهمية كل جزء أو ظاهرة في ذلك الكل بالنسبة إلى بقية الأجزاء أو الظواهر، مجتمعة ومنفردة، في داخل ذلك الترابط وتلك الوحدة.
إن التحليل السابق لسمات كل طرف من طرفي التناقض الرئيسي، وتحديد العقدة الحاسمة في كل طرف، أي تحديد القوة الضاربة الرئيسية، وكيفية حلّ هذا التناقض يقودنا إلى إدراك الخطأ الذي وقعت فيه الحركة الوطنية والحركة الثورية العربية، حين لم تستطيعا رؤية أين تكمن عقدة التناقضات في أرضنا العربية، وبشكل خاص، في المشرق العربي، أي حين لم يجرِ تحليل دقيق لطبيعة التناقضات التي تواجه الثورة العربية، وبالتالي وضعت استراتيجية وتكتيك للثورة العربية تخبطاً بين الانحرافين اليميني و“اليساري”. وكانت مظاهر هذين الانحرافين بالنسبة إلى قادة الحركة الوطنية والحركة الثورية العربية كما يلي:
أولاً: أهملوا حلّ التناقض الرئيسي، وغرقوا في حلّ التناقضات، داخل كل بلد عربي، على حدة، بأسلوب النضالات السياسية، أو الانقلابات العسكرية الفوقية، متذرعين بالشعار القائل إن الطريق إلى فلسطين يأتي بعد تحرير الأقطار العربية وتوحيدها وبناء “الاشتراكية”، متخطّين الجماهير الفلسطينية، ومكرسين تمزقها وفقدانها لوحدتها، وطالبين من أجزائها في كل قطر أن تذوب في النضال السياسي للجماهير العربية في كل قطر عربي.. وهكذا وقعت هذه الاستراتيجية ببراثن الانحراف اليميني حين لم ترَ موقع الجماهير الفلسطينية طليعة ضاربة، في حلّ التناقض الرئيسي، ضدّ الكيان الصهيوني، وألحقتها مفتتة في الحركة الوطنية العربية التي فرت من مواجهة ذلك التناقض الرئيسي الذي يفرض تسليط النار على الكيان الصهيوني، معتبرة أن الثورة العربية بديل للثورة الفلسطينية دون أن ترى في الثورة الفلسطينية شرارة إشعال الثورة العربية.
وقد وقعت تلك الاستراتيجية أيضاً في الانحراف الانتهازي “اليساري” حين اعتقدت أن بالإمكان بناء “الاشتراكية” في الوطن العربي قبل حلّ التناقض الرئيسي، أي قبل حلّ مسألة التحرر الوطني ضدّ الاحتلال الصهيوني لفلسطين، فهذا القفز عن المراحل التاريخية لم يؤدِّ إلا إلى سلوك طريق المغامرة والابتعاد عن الجماهير، وبخاصة أن شعار الاشتراكية بقي شيئاً نظرياً إلى جانب تفريغه من المحتوى العلمي، أي عدم فهم الاشتراكية العلمية وعدم تطبيق القوانين العامة والخاصة للبناء الاشتراكي (في هذا المجال “انتهازية يمينية”).
ثانياً: لم يستطيعوا أن يروا أن الكيان الصهيوني هو بؤرة تجمع كل النفوذ الإمبريالي والرجعي في المنطقة العربية، أي لم يروا هذا الكيان بوصفه القوة الضاربة الرئيسية لمصلحة الإمبريالية العالمية والرجعية العربية والصهيونية العالمية وبالتالي، لا يمكن تحقيق التحرر والوحدة والثورة الاشتراكية إلا من خلال توجيه الضربة الرئيسية إلى هذه القاعدة الرئيسية، التي مع حلّها وفي أثناء حلّها، يمكن حلّ التناقضات الأخرى في العالم العربي، وتحقيق الثورة العربية بمعناها الجذري العميق عبر تحرك جماهيري ثوري مسلّح شامل، يتصلب ويتعمق في الحرب الحامية ضدّ العدو الصهيوني والإمبريالي على الأرض الفلسطينية أولاً ثم يمتد إلى الأرض العربية ثانياً.
ثالثاً: لم يستطيعوا أن يروا أن فتح النار على الإمبريالية من خلال الكفاح المسلّح لتحرير فلسطين.. هو الشعار الذي يمكن أن يحشد تحت لوائه أوسع الجماهير الشعبية وينظمها ويعبئها ويسلحها، ويوحدها، أكثر من أي شعار آخر.
حقاً إن الكيان الصهيوني هو بؤرة القوة المادية في النفوذ الإمبريالي في المنطقة العربية من ناحية القوة التكنيكية والعسكرية والبشرية، إلا أنه أضعف نقطة من الناحية السياسية بالنسبة إلى بقية مواقع الإمبريالية في المنطقة. لذا، الضرب المباشر فيه هو أقوى نقطة من الناحية السياسية، من جانب الثورة العربية عبر الثورة الفلسطينية التي يمكن أن تحشد تحت رايتها أوسع الجماهير، ليس بمظاهرة أو إضراب سياسي، وإنما تحت السلاح مباشرة، أي يمكنها من خلال حرب الشعب إحداث التغيير الثوري بكل جوانبه بما في ذلك ضرب التجزئة.
نعود فنقول: إن تحديد التناقض الرئيسي وطريقة حله هو الذي يحدد الخطّ الثوري الصحيح، فنحن عندما نقرّر أن التناقض الرئيسي يكمن بين الكيان الصهيوني بارتباطه العضوي بالإمبريالية العالمية من جهة والجماهير الفلسطينية بارتباطها العضوي بالجماهير العربية من الجهة الأخرى. وعندما نقرّر أيضاً أن هذا التناقض من طراز التناقض العدائي الذي لا يمكن حلّه، من جانبنا، إلا بحرب الشعب، وليس بالمفاوضات والحلول السياسية، بسبب أن الطرف السائد في هذا التناقض الآن هو الاحتلال العسكري الصهيوني – الإمبريالي للأرض الفلسطينية. وهو مغروس بالاستيطان الأجنبي المسلّح، والمتفوق مادياً وتكنيكياً الذي يحمل طبيعة استغلالية عدوانية توسعية، لذلك لا مجال لحله إلا بتدمير قوته العسكرية الضاربة وتصفية سائر مؤسساتها التي هي ذات طبيعة عنصرية عدوانية عسكرية، بما في ذلك المؤسسات الاقتصادية والنقابية والثقافية.
من هنا، نرى بوضوح الانحراف اليميني لدى القوى المعادية للإمبريالية، سواء أكان في الساحة الفلسطينية أو الوطن العربي أو في العالم. تلك القوى التي تحاول حلّ التناقض مع العدو الصهيوني والإمبريالي في بلادنا عن طريق الضغوط السياسية أو المفاوضات، أو المساومات أو في تطبيق قرارات هيئة الأمم، ومجلس الأمن، ومشروع روجرز.
على أننا، من الناحية الأخرى، نجد انحرافاً انتهازياً “يسارياً” في داخل الساحة الفلسطينية نفسها، هو وليد عدم فهم طبيعة المرحلة التي تمرّ بها ثورتنا، لأنه يخلط بين مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي ومرحلة الثورة الاشتراكية.
إننا لا نستطيع أن نخطو بالثورة الفلسطينية خطوة واحدة إلى الأمام، إلا إذا فهمنا طبيعة المرحلة التي تمرّ بها ثورتنا. هل هي مرحلة تحرر وطني ديمقراطي؟ أم هي مرحلة ثورة طبقية اشتراكية؟ إن الذي يقرّر طبيعة مرحلة ما ليست رغباتنا، ولا مبادئنا ومثلنا، وإنما الواقع الموضوعي نفسه، أي مدى تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج السائدة وطبيعتها، أو بكلمات أخرى طبيعة التناقض الرئيسي، في مرحلة تاريخية محددة. وإذا شئنا التبسيط أكثر، نقول، حال العدو وحالنا.
كنا نعيش في فلسطين في مجتمع متخلف رزح تحت وطأة الاحتلال التركي ردحاً طويلاً من الزمان. ثم وقع ذلك المجتمع تحت الاحتلال المباشر للاستعمار البريطاني. وكان يسوده اقتصاد استعماري وشبه إقطاعي، ثم تخلله الغزو الصهيوني الاستيطاني الذي أسفر عن احتلال أجزاء كبيرة من فلسطين، وتشريد غالبية شعبنا من وطنه. والآن هو يحتل – أي الغزو الصهيوني – فلسطين بأسرها، مضافاً إليها أجزاء من الجمهورية العربية المتحدة وسوريا، بينما يعيش شعبنا الآن إما تحت الاحتلال المباشر، أو مشرداً في معسكرات اللاجئين بلا علاقات اقتصادية وبلا أرضٍ أو حتى هوية.. إلخ.
إذن، ما هي المرحلة التاريخية التي تمرّ بها ثورتنا؟ إنها مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي الذي يستهدف إزالة الكيان الصهيوني – الإمبريالي بكل مؤسساته الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية، وإرجاع الشعب العربي الفلسطيني إلى أرضه، وتحريرها كلياً من الصهيونية والإمبريالية، وتحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية والديمقراطية.
عندما نتحدث عن طبيعة مرحلة ما في الثورة، نتحدث، في الواقع عن طبيعة التناقض الرئيسي نفسه في بلد ما وفي فترة تاريخية محددة. ومن تحديد طبيعة المرحلة يتحدد الهدف – برنامج الحدّ الأدنى – الذي تعمل الثورة على تحقيقه.
أما أهداف برنامج الحدّ الأدنى التي يجب تحقيقها في مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي، من خلال الثورة الفلسطينية، على الأرض الفلسطينية، فهي:
أولاً - من الناحية السياسية: تصفية الدولة الصهيونية والسيطرة الإمبريالية، وتحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية (وهذا هو محتوى التحرر الوطني).
ثانياً – من الناحية العسكرية: تصفية المؤسسة العسكرية الصهيونية وجيشها وقوات الاحتياط، وبناء الجيش الشعبي الفلسطيني، من أجل إنجاز التحرر، ومن ثم حماية مكتسبات مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي.
ثالثاً – من الناحية الاقتصادية: تصفية علاقات الإنتاج الاحتكارية الصهيونية والإمبريالية أي مصادرة كل الملكية الصهيونية والإمبريالية للأرض والاقتصاد وأدوات الإنتاج والعقار، ومصادرة أملاك كل المتعاونين مع العدو من أبناء الشعب الفلسطيني وتحويلها إلى ملكية عامة لمصلحة الشعب في الدولة الفلسطينية، وإقامة اقتصاد الديمقراطية الجديدة مكانها (وهذا هو محتوى الديمقراطية في مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي على الأرض الفلسطينية).
رابعاً: تصفية المؤسسات الاجتماعية والثقافية الصهيونية ومحاربة الإيديولوجية الصهيونية والإمبريالية والرجعية، لأنها كلها ذات طابع عنصري رجعي استعماري، وإقامة مؤسسات الدولة الفلسطينية الديمقراطية مكانها بثقافة ثورية جديدة (وهذا هو محتوى الثقافة الجماهيرية الوطنية الديمقراطية العلمية).
ذلكم هو محتوى مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي في فلسطين التي هي جزء من مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي في الوطن العربي والعالم الثالث، ففلسطين جزء من الوطن العربي، وجزء من العالم الثالث. والثورة الفلسطينية جزء من الثورة العربية وثورة العالم الثالث، وجزء من الثورة العالمية.
وهنا، علينا أن نلاحظ أن محتوى الديمقراطية في الثورة الصينية أو الفيتنامية كان تصفية الإقطاع والكومبرادور والمصالح الاقتصادية الإمبريالية، بينما محتوى الديمقراطية في فلسطين هو تصفية الملكية الصهيونية والإمبريالية. لذلك سيكون القطاع العام في الأرض والصناعة والتجارة والعقار في الدولة الديمقراطية الفلسطينية، أكبر وأوسع نسبياً منه في مرحلة الدولة الديمقراطية في فيتنام والصين. وهذا راجع إلى طبيعة الملكية الصهيونية والإمبريالية في فلسطين، هذه الملكية التي تشمل الاقتصاد “الإسرائيلي” كله، وهي أوسع نسبياً من ملكية الكومبرادور والإقطاع والإمبريالية في الصين أو فيتنام.
ومن ناحية أخرى لا بدّ من ملاحظة ما يلي فيما يتعلق بالملكية العربية للأرض الفلسطينية:
أولاً: كانت خطة الاستعمار البريطاني عندما دخل فلسطين تستهدف عدم نشوء ملكية إقطاعية كبيرة على خلاف خطته في العراق ومصر مثلاً. وذلك لأن تفتيت الملكية كان مقدراً له أن يساعد على شراء الأراضي العربية من قبل المؤسسات الصهيونية. وقد شفعت تلك السياسة بمجموعة من الإجراءات لإجبار الفلاح الفلسطيني على بيع أرضه، سواء أكانت عن طريق زيادة الضرائب وعدم صرف قروض الفلاحين أو عن طريق الإغراء بدفع أثمانٍ عاليةٍ للأرض، إلى جانب الرواتب العالية في سلك التوظيف والشرطة والجيش. لهذا لم تعرف فلسطين الملكية الإقطاعية للأرض كما عرفتها مصر والعراق أو الصين وفيتنام بعد الاحتلال الاستعماري.
يجب ألا يفهم من هذا أنه لم تكن في فلسطين ملكيات كبيرة ومتوسطة، ولكنها تختلف عن الملكية الإقطاعية.
ثانياً: منذ عام 1947، بقيت الملكية الفردية العربية للأرض الفلسطينية، سواء الكبيرة أو المتوسطة أو الصغيرة منها، في حال جمود وتحنط، بمعنى أن تلك الملكية، لم تتحرك منذ اثنين وعشرين عاماً، وظلت على صورتها الأولى. وإذا أضفنا إلى ذلك عشر سنوات أو عشرين سنة أو أكثر حتى يتمّ تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، فسوف يعني هذا أن ملكية الأرض الفلسطينية والعقار سوف تمزق شرّ ممزق، حتى لو طبق عليها قانون الإرث الإسلامي، لأن الجيل الثالث أو الرابع الذي سيرث ملكية أجداده سوف يتقسم الأرض والعقار، بصورة عجيبة يستحيل تطبيقها في أغلب الحالات. ولكي نجعل هذه الحقيقة أكثر وضوحاً نستطيع أن نشبه ما سيحدث للملكية الفردية العربية في فلسطين – بسبب الاحتلال الصهيوني وإجلاء الشعب العربي الفلسطيني من وطنه لمدى ثلاثين أو أربعين عاماً – أقول، نستطيع أن نشبه هذه الحالة للملكية بالحالة التي يؤول إليها الوقف الذري بعد ثلاثة أو أربعة أجيال. والوقف الذري، يتمّ من خلال أن يوقف إنسان ما ملكية داره مثلاً على ورثته وقفاً ذرياً، بمعنى أنه لا يحق لأي وريث من ورثته أو ورثة ورثته أن يبيع تلك الملكية، وإنما لهم فقط أن يفيدوا من ريعها أو استخدامها وتوريثها لذريتهم. الأمر الذي يصل بتلك الملكية بعد جيلين أو ثلاثة إلى أن تصبح ملكية لثلاثين أو أربعين وريثاً.
هذا ما حدث الآن للملكية الفردية العربية في فلسطين، مما سيجعل الدولة الديمقراطية الفلسطينية مضطرة إلى معالجة هذه الحالة الفريدة، إما من خلال إعادة تقسيم الأرض (إصلاح زراعي)، أو تحويل الملكية إلى ملكية للدولة، أو على شكل مزارع جماعية لكي تؤمن تطور العملية الإنتاجية وسيرها.
ثالثاً: ثمة مناطق من الأرض شاسعة، خضعت بسبب اقتصاد الكبوتر والموشاف الصهيونيين، بعد اغتصاب الأرض الفلسطينية، لأسلوب خاص في طريقة الإنتاج والري والزراعة (أرقى أشكال الزراعة الرأسمالية)، وقد ضاعت معالم التقسيمات القديمة لتلك الأراضي. لذلك، لا يمكن إعادة تفتيتها لأن هذا سيؤدي إلى تدهور إنتاجها، وفي بعض الحالات إلى استحالته. ومن هنا، لا مفرّ من أن تدخل تلك الأراضي ملكية القطاع العام أو المزارع التعاونية في الدولة الديمقراطية الفلسطينية بعد مصادرتها من المؤسسات الاحتكارية الصهيونية.
وبهذا، تكون الصورة قد اتضحت أمامنا تماماً بالنسبة إلى المحتوى الذي ستتخذه مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي في فلسطين.
وبعد، فإذا كانت المرحلة التاريخية التي نعيشها الآن هي مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي، فلا بدّ من أن تنبع طبيعة ثورتنا من طبيعة المرحلة بالذات، أي لا بدّ من أن تكون ثورتنا ذات طبيعة ثورة تحرر وطني ديمقراطي، وبالتالي، ستكون استراتيجيتنا السياسية والعسكرية، وتكتيكنا السياسي والعسكري نابعين من طبيعة المرحلة.. وطبيعة الثورة. لذلك لا يكون أي برنامج تتبناه أية منظمة في الساحة الفلسطينية برنامج تحرر وطني ديمقراطي يتضمن العنف الثوري المسلّح طريقاً لتحقيق برنامج، يكون برنامجاً يعبّر إما عن انتهازية يمينية أو “يسارية”. من هنا يظهر بوضوح أن المنظمات التي تطرح في الساحة الفلسطينية برنامج ثورة اشتراكية.. ثورة بروليتارية، إنما تقع في حمى المزايدة “فوق اليسارية” والانتهازية “اليسارية”. وهذا ليس انتقاداً للثورة الاشتراكية.. الثورة البروليتارية، وإنما هو انتقاد لبرنامج لا يتمشى والمرحلة التاريخية التي تمرّ بها الثورة في ظرف محدد، وفترة زمنية محددة.
وهنا، يجدر بنا أن نقف قليلاً لمناقشة مسألة على غاية من الأهمية، وهي مسألة البرنامج الثوري. ما هو البرنامج الثوري؟ وما هو المعيار لثورية هذا البرنامج أو ذاك، ولانتهازية هذا البرنامج أو ذاك؟
الخطأ الفادح الذي يمكن أن يقع فيه المثقفون وهم يناقشون البرنامج إنما هو المناقشة التجريدية، بحيث تؤخذ نصوص برنامج ما، وتقارن ببرنامج “نموذج”!، وهذا ما يفعله، عادة، التروتسكيون. إن مثل هذه الطريقة في مواجهة البرنامج هي منهجية ميتافيزيقية تجريدية، للأسباب التالية:
1 – لا يوجد برنامج سياسي صالح لكل المراحل التاريخية ولكل الظروف؛ لأن البرنامج السياسي الذي استطاع أن يقود ثورة ما إلى نجاحٍ ضمن ظروف محددة وفترة تاريخية محددة، لا يمكن أن يقود ثورة أخرى إلى النجاح في مكان آخر وتحت ظروف أخرى مختلفة محلياً ودولياً ومرحلياً.
2 – لا بدّ من اكتشاف السمات الموضوعية الخاصة لكل بلد ولكل مرحلة تاريخية، وتحديد أنواع التناقضات وطبيعتها، لكي يصبح بالإمكان وضع البرنامج السياسي للثورة.
إن وجود برنامج “نموذج” يصلح لكل الحالات يعني عدم رؤية حركة الواقع وتغيّر الظروف وتنوع الحالات، وهذا هو بعينه المنهج الميتافيزيقي التجريدي في التحليل. ولهذا لا يمكن أن يؤدي، في يوم من الأيام، إلى إحداث تغيير ثوري أو تفجير الثورة. والذين جاؤوا إلى الساحة الفلسطينية ببرنامج اشتراكي (نموذج)، على طريقة التروتسكيين، وبخاصة، إذا كانوا “ماركسيين لينينيين”، وقعوا في التجريد والميتافيزيقية، وابتعدوا عن المنهج الديالكتيكي.
يبقى السؤال: ما هو المنهج الواجب اتباعه في وضع برنامج ثوري، في مرحلة تاريخية محددة، وفي بلاد محددة، وفي ظلّ ظروف محلية ودولية محددة؟ ببساطة، يجب أن ينبع البرنامج من تحليل الواقع الموضوعي، في البلد المحدد وضمن الظروف المحلية والدولية المحددة.. ثم الانتقال إلى تحديد دقيق للتناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية، وكذلك تحديد دقيق لطريقة حلّ كل تناقض رئيسي أو ثانوي. ومن هنا تظهر طبيعة الانحراف الانتهازي “اليساري” في الثورة الفلسطينية عندما تقدم برامج مأخوذة من الكتب، أو لإرضاء بعض العناصر اليسارية الأوروبية، دون أن يجري تحليل عميق وجادّ للظروف الموضوعية العامة والخاصة وللظروف العربية والدولية.
أما السؤال الحاسم حول هذا الموضوع فإنه: ما هو المعيار للحكم على ثورية برنامج ما أو عدم ثوريته؟ وهنا يقع المثقفون في خطأ آخر أيضاً، وهو حكمهم على برنامج ما من خلال قراءتهم لذلك البرنامج، ومدى مطابقته لقناعاتهم الجاهزة أو معتقداتهم ومُثُلهم، هذا أيضاً نهج ميتافيزيقي تجريدي في البحث! أما المعيار العلمي النابع من المنهج الديالكتيكي في البحث، فإنما هو مقارنة البرنامج بتحليل الواقع الموضوعي ورؤية مدى مطابقته لحاجات وإمكانات إحداث التغيير الثوري في ذلك الواقع. وأخيراً فحص النتائج التي أحدثها تطبيق ذلك البرنامج على أرض الواقع. وبكلمات أخرى، فحص مدى ما أحدثه ذلك البرنامج من تغيير ثوري على أرض الواقع، لأن البرنامج الثوري هو الذي يستطيع أن يصنع الثورة، وهو الذي يحدث التغيير الثوري رغم كل تعقيدات الظروف الداخلية والخارجية. ويستطيع أن يحمي الثورة من مؤامرات القوى المضادّة ويخرج بها ظافرة حتى النصر النهائي.
إن الذي أعطى اللينينية قيمتها العلمية في مجال النظرية، إنما هو نجاح برنامج لينين بصنع الثورة، وتأكيد صحة تحليلاته ونظرياته على أرض الممارسة والتطبيق العملي.
كما أن الذي جعل ماوتسي تونغ مطوراً مبدعاً للماركسية اللينينية في مجال النظرية والتطبيق، إنما هو نجاح الثورة الصينية على أرض الواقع، والنتائج المترتبة، واقعياً وعملياً، لبرنامج ماوتسي تونغ السياسي، سواء أكان في مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي أو مرحلة البناء الاشتراكي والثورة الثقافية.
وكذلك بالنسبة إلى هوشي منه، وكيم إيل سونغ، وأنور خوجا.
إن القول الفصل بالنسبة إلى أي برنامج ثوري إنما هو التطبيق العملي، إنما هو النجاح، ثورياً، على أرض الواقع. إننا لا نستطيع أن نمتلك زمام علم الثورة إذا لم نجعل، من التحليل العلمي لكل واقع موضوعي ضمن ظروف محددة ومن ثم نقل نتائجنا إلى التطبيق العملي على أرض الواقع وفحصها هناك، معياراً للحكم على صحة أية نظرية، أو أي برنامج.
ويجدر أن نلفت الانتباه، إلى أن المسألة المطروحة هنا هي البرنامج وليس النظرية. لأن من الضروري عدم الخلط بين النظرية التي هي دليل للعمل ومنهج للتحليل يصلحان لكل الحالات، والبرنامج. وبالمناسبة، إن كل الصراعات السياسية التي وقعت بين الماركسيين قبل لينين، ثم بين الماركسيين اللينينيين بعد ذلك، لم تكن حول النظرية بقوانينها العامة، وإنما حول البرنامج والتطبيق، فالصراع الذي خاضه لينين ضدّ الانحرافين اليميني و“اليساري” في حزب الاشتراكيين الديمقراطيين الروس، إنما كان حول برنامج الثورة.. برنامج العمل. وكذلك الحال بالنسبة إلى الصراعات التي خاضها ماوتسي تونغ طوال مسيرة الحزب الشيوعي الصيني والثورة الصينية ضدّ الانحرافين اليميني و“اليساري”، فقد كانت حول البرنامج، برنامج العمل وليس حول القوانين العامة للمادية الديالكتيكية والمادية التاريخية. طبعاً إن هذا لا يتناقض مع كون تلك الصراعات قد اتخذت بعض الأحيان شكل صراع مبدئي وفلسفي بالإضافة إلى صراعٍ حول البرنامج، وبخاصة، في حالات الارتداد، والتخريب، أو الخيانة. وقبل الانتهاء من هذه النقطة لا بدّ من التوضيح وهو إن كلمة برنامج تشمل التحليل للواقع الموضوعي، في ظروف محددة، وتحديد التناقضات، كما تشمل طريقة حلّ هذه التناقضات أي تشمل الممارسة أيضاً إلى جانب تحديد أهداف وشعارات الثورة.
وإذا عدنا مرة أخرى للانحراف الانتهازي “اليساري” في الساحة الفلسطينية، فنحن لا نراه يتركّز فقط في مجال تحديد المرحلة التاريخية وطبيعة الثورة في هذه المرحلة، وإنما أيضاً، في الموقف من الماركسية اللينينية بالذات، لأن هذه التيارات التي تسمي نفسها ماركسية لينينية تخرق الماركسية اللينينية في قوانينها العامة، مثلاً، في قضية ضرورة تشكيل وبناء حزب الطبقة العاملة؛ فهي – أي تلك التيارات – تملأ العالم بترديد اسم الماركسية اللينينية، ولكنها في الوقت نفسه، لا تبذل أي جهد في القيام بعمل جادّ من أجل تشكيل وبناء حزب الطبقة العاملة، حسب التحديد اللينيني. وهنا يقع أصحاب هذا الاتجاه في الانتهازية اليمينية و“اليسارية” في وقت واحد، لأنه في الوقت الذي يرفعون فيه الشعارات العامة “فوق اليسارية” – (انتهازية يسارية) من خلال إعلانهم بضرورة تحويل الثورة الفلسطينية من ثورة تحرر وطني ديمقراطي إلى ثورة اشتراكية وتفجير الصراعات الطبقية في التناقض الثانوي، قبل أن تنجز مرحلة التحرر الوطني، نراهم يهربون من تشكيل الحزب اللينيني حزب الطبقة العاملة، وهذا انحراف وانتهازية يمينية بالمقياس الماركسي اللينيني نفسه. ومن هنا يمكن أن نستنتج أن عناصر البرجوازية الصغيرة المجتثة من الجذور، في الساحة الفلسطينية، تحاول أن تتسلق على شعارات الطبقة العاملة اعتباطاً، في حين تُبقي كل شيء – وخصوصاً التنظيم والتركيبة التنظيمية والعلاقات التنظيمية – في أحضان طبقتها التي تريد أن تهرب من أرض الواقع، وأحياناً، تريد أن تحرق كل المراحل دفعة واحدة، ضاربة بعرض الحائط بكل الواقع الموضوعي والقوانين العامة للتطور الاجتماعي وللثورة.
ولعل من أبرز السمات الطريفة للبرجوازية الصغيرة أنها دائماً غير راضية عن وضعها الطبقي، فهي إما مقلدة للطبقات الأعلى منها متلبسة لبوسها، وإما متطفلة على شعارات الطبقة العاملة سالبة منها محتواها الثوري، خصوصاً، التنظيم الثوري والعلاقات الثورية داخل التنظيم، لأنها تخشى ذلك كما تخشى الموت. وبهذا تظلّ تتنقل دائماً من الانحراف اليميني إلى الانحراف “اليساري”وبالعكس. ولكن، أبداً، لا يمكن أن تثبت على الخطّ الثوري الصحيح، أو تهتدي إليه، إلا عندما تكون مطرقة الطبقة العاملة قوية. لذلك فهي تارة يائسة من الثورة، ومن إمكانية تفجيرها أو استمرارها وتطورها، ثم فجأة تنتقل للثورة، ولكن لتتوقع منها أن تصنع العجائب والمعجزات دفعة واحدة، وبلحظة خاطفة من الزمان. وهذا يفسر انتقالها الفوري من أقصى اليمين إلى أقصى “اليسار”.. ولن يكون عجيباً أن تعود، بنفس السرعة، إلى أقصى اليمين إذا ما استمرت في مغامراتها حين تصطدم مع أول عقبة حقيقية(1)...؟
ثمة مثال بارز على الانحرافين اليميني و“اليساري” في الساحة الفلسطينية. يتمثل في موضوع استراتيجية الثورة الفلسطينية، وعلاقتها باستراتيجية الثورة العربية. وإذا كنا، فيما سبق، قد قلنا إن اعتبار الثورة العربية بديلاً للثورة الفلسطينية هو انحراف يميني، فإننا نواجه الآن اتجاهاً ذا انحراف “يساري” برز بعد تفجير الثورة الفلسطينية، وانتصار استراتيجيتها السياسية والعسكرية في الساحة الفلسطينية، ليعتبر الثورة الفلسطينية بديلاً للثورة العربية، والجماهير الفلسطينية بديلاً للجماهير العربية. فأخذ يطالب طلائع الثورة الفلسطينية القيام بالثورة العربية، حتى تنظيم الجماهير العربية، وإسقاط الأنظمة العربية، وضرب المصالح الإمبريالية في كل مكان. وامتدّ الأمر لدى البعض في هذا الاتجاه إلى الطلب من الثورة الفلسطينية أن تذهب بالعنف المسلّح إلى كل بقاع العالم، وأخذ ينقل المقاتلين الفلسطينيين بأسلحتهم ليقوموا بعمليات مسلّحة في زيورخ، وروما، ولندن.. إلخ.
فإذا كان من الانحراف الانتهازي اليميني اعتبار الثورة العربية أو الجيوش العربية بديلاً للثورة الفلسطينية والجماهير الفلسطينية فإنه لمن الانحراف الانتهازي “اليساري” اعتبار الثورة الفلسطينية بديلاً للثورة العربية والجماهير العربية، أو جعلها، عملياً، تقوم بالمهمات التي يجب أن تقوم بها الثورة العربية أو الثورة العالمية والجماهير في البلدان الأخرى.
والسؤال الآن هو: من الذي يجب أن يصنع الثورة العربية؟ من الذي يستطيع أن يضرب مصالح الاستعمار في الوطن العربي أو في العالم؟
للإجابة عن هذه الأسئلة لا بدّ من العودة إلى التأكيد على أهمية معرفة طبيعة كل تناقض أو معرفة أسلوب حلّ كل تناقض، وتحديد القوى الضاربة الرئيسية والقوى الحليفة في كل حالة.
بيد أن من الضروري قبل المضي بالتفصيل حول هذه النقطة أن يلفت النظر إلى نوع من التناقضات فريد من نوعه يواجه الثورة الفلسطينية والثورة العربية، وهو وجود تناقض رئيسي عام يشمل كل المنطقة، ويقف على رأس أحد قطبيه الكيان الصهيوني وحليفته الإمبريالية الأميركية، ويقف على رأس القطب الآخر الثورة الفلسطينية وحليفتها الثورة العربية في بقية الأقطار العربية من جهة ثانية. بينما نجد، في الوقت نفسه، أن هنالك تناقضاً رئيسياً خاصاً (بسبب التجزئة) في كل بلد عربي، وهنا يقف على رأس أحد قطبيه عملاء الإمبريالية وحليفتهم الإمبريالية العالمية، بينما يقف على رأس القطب الآخر الثورة العربية في ذلك القطر وحليفتها(1) الثورة العربية في بقية الأقطار الأخرى بما في ذلك الثورة الفلسطينية.
لذلك، لا بدّ من أن تنتج حالة شديدة التعقيد نتيجة وجود هذا الشكل الفريد من أنواع التناقضات في وطن واحد، مما يضع مسألة كيفية مواجهة كل تناقض من هذه التناقضات على غاية الأهمية، بحيث يتحدد بالدقة من هي القوى الضاربة الرئيسة، ومن هي القوى الحليفة في كل حالة. هذا وربما نشأت حالات أشدّ انفراداً فقد يختلط فيها شكلا التناقض ويتداخلان، وبالتالي، تختلط فيها أدوار القوى الضاربة الرئيسية والقوى الحليفة – كحالة الأردن مثلاً.
والآن، لنبدأ بالتناقض الرئيسي الأول، ففي هذا التناقض تلعب الجماهير الفلسطينية والثورة الفلسطينية دور الطليعة.. دور القوة الضاربة الرئيسية، بينما تلعب الثورة العربية والجماهير العربية دور القوى الحليفة أي القوى الاحتياطية، أو على أقل تقدير، في المراحل الأولى من الكفاح المسلّح. فربما تتحول مستقبلاً قوى حليفة إلى قوى طليعية. أما في حالة التناقض الرئيسي الخاص في كل بلد عربي، فإن جماهير ذلك البلد بقيادة طليعتها الثورية هي التي تلعب دور الطليعة.. دور القوى الضاربة الرئيسية بينما تلعب الثورة العربية عامة والثورة الفلسطينية دور الحليف(1).. دور القوى الاحتياطية. وقد يتغيّر هذا الوضع مستقبلاً في حالة نشوء وضع ثوري يتيح تحطيم التجزئة من الخارج مباشرة أيضاً أعني في حالة إمكان زحف أحد الأجزاء أو عدة أجزاء متقدمة لتحرير الأجزاء الأخرى بالقوة المسلّحة، وخصوصاً في حالة الدخول في معركة شاملة مع الإمبريالية والصهيونية.
وفي هذا الخصوص علينا أن نلاحظ ما يلي:
1 – إن تقسيم هذه الأدوار على تلك الصورة، في الوقت الحاضر على الأقل، لا ينبع من اختيار ذاتي، وإنما من الواقع الموضوعي نفسه، أي من واقع أنواع التناقضات ومن واقع التجزئة. والأهم من هذا وذاك من واقع التطور غير المتساوي للثورة العربية بين الأقطار العربية، فمثلاً، إن الثورة الفلسطينية والجماهير الفلسطينية، رغم كونهما جزءاً من الثورة العربية، والجماهير العربية قد تقدما كثيراً عن بقية الأجزاء الأخرى، من الناحية النضالية على الأقل، فهما الآن يمارسان الكفاح المسلّح. إن وجود هذه الهوّة قد خلق وضعاً خاصاً لا بدّ من أخذه كما هو بعيداً عن الرغبات والأماني، وإلا وقعنا بين براثن أحد الانحرافين، وفي تلك الحالة ستتخبط الثورة الفلسطينية والثورة العربية على حدّ سواء.
2 – إن تقسيم هذه الأدوار على تلك الصورة مرهون بالظروف الحالية التي تحكم واقع الثورة الفلسطينية والثورة العربية، ويجب أن تتغيّر الأدوار وتتبدل الصورة مع تغيّر الظروف، وتطور النضال حتى نصل إلى تحقيق الوحدة والالتحام بين كل فصائل الثورة العربية، وكذلك بين كل الجماهير العربية.
وهنا، تبرز قضية محورية أثارت ضجة كبيرة حول علاقة الثورة الفلسطينية بالثورة العربية، أو بتحديد أدقّ، موقف الثورة العربية، بين كل الجماهير العربية.

ولنبدأ من الواقع كما هو!

لقد انفجرت الثورة الفلسطينية تحت ظروف كانت فيها فصائل الثورة العربية الأخرى، في حالة تخبط وانحسار، أي تحت ظروف كانت فيها الاستراتيجية السياسية والتنظيمات الطليعية، على المستوى القطري والعربي، تتآكل من الداخل، وتنتظر ضربة قاسية لتكشف عن كل ما فيها من خلل. بينما ما زالت ثمة مواقع قوية للإمبريالية في الوطن العربي، وخصوصاً، في الكيان الصهيوني الذي كان يزداد قوة يوماً بعد يوم. ولم يكن أمام الثورة الفلسطينية، تحت مثل هذه الظروف، إلا أن تركّز كل جهودها على حلّ التناقض الرئيسي، وإعادة الحياة والشباب للوضع الثوري في المنطقة، من خلال النجاح في إشعال ثورة شعبية مسلّحة ضدّ الكيان الصهيوني وحليفته الإمبريالية الأميركية. ولهذا كان الشعار التكتيكي “عدم التدخل في الدول العربية” شعاراً ضرورياً وإيجابياً للأسباب التالية:
أولاً: إن المهمة الأولى والرئيسية للثورة الفلسطينية هي توجيه سلاحها وكامل نشاطيتها الثورية ضدّ العدو الصهيوني. وهي المهمة التي ستبقى ملازمة للثورة الفلسطينية وللثورة العربية لمدىً طويل من الزمان، حتى الانتهاء من المرحلة التاريخية التي انبثقت فيها الثورة الفلسطينية لتحلّ تناقضها.
ثانياً: ضرورة تجنّب الحصار العام، ومن كل الجهات، ضدّ الثورة الفلسطينية والجماهير الفلسطينية وذلك من أجل حماية الثورة من الاختناق والاقتلاع، ومن أجل تأمين مسيرة الثورة، وبناء القواعد الارتكازية مما يحدث التغيير الثوري على أرض الواقع لا على ورق النداءات والبيانات التي قد تحدد مواقف، ولكنها لا تستطيع أن تدفع بالوضع الثوري الجماهيري خطوة واحدة إلى الأمام في أي بلد عربي.
ثالثاً: إن تجنب سحق الثورة الفلسطينية وتأمين تصعيدها يؤديان إلى خلق مناخ ثوري جديد في كل المنطقة العربية، مما سيمدّ الثورة العربية بأسباب انبعاثها من جديد، ويساعد على إنقاذها من استراتيجيتها وممارستها الخاطئتين.
رابعاً: الفهم الموضوعي لقوانين التغيير الثوري في أرض الواقع، بمعنى أن الثورة الفلسطينية أدركت منذ البداية أن إسقاط هذا النظام أو ذاك، وضرب المصالح الإمبريالية، وخصوصاً الإمبريالية الأميركية في المنطقة لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال تحرك طليعة ثورية كفوءة على رأس الجماهير العريضة في كل بلد عربي، وليس من خلال أعمالٍ فرديةٍ تقوم بها الثورة ضدّ هذا الأنبوب من البترول أو ذاك، أو هذه الشركة الاستعمارية أو تلك.
الذي يصنع التاريخ، ويصنع الثورة، والذي يحدث التغيير الثوري على أرض الواقع، إنما هي الجماهير بطليعة ثورية نابعة من قلبها. ولهذا دور الثورة الفلسطينية في الثورة العربية عامة لا يمكن أن يكون من خلال التوجيهات أو التدخل المغامر، أو وضع نفسها بديلاً لطليعة الجماهير العربية في كل بلد أو وصياً عليها. فإن ذلك، رغم كونه غير عملي من الناحية الواقعية، ولن يكتب له النجاح في التطبيق، مضرّ في مستقبل تطور الحركة الثورية العربية، لأنه قد يخدر الجماهير العربية عن القيام بمسؤوليتها التاريخية، ويلقي بها على مقاعد المتفرجين الذين ينتظرون من الثورة الفلسطينية أن تقوم بالدور الذي يجب أن يقوموا هم به، ولا يمكن أن يقوم به أحد غيرهم. فمثلاً، إذا كان من الضروري في هذه المرحلة نسف السفارة الأميركية في طرابلس، فالذي يجب أن يقوم بهذه المهمة إنما هم الثوريون الليبيون، لا عناصر من الثورة الفلسطينية. وإذا كان من الضروري نسف شركة أميركية أو صهيونية في زيوريخ أو بروكسل، فالذين يجب أن يقوموا بهذه المهمة، إنما هم الثوريون في زيوريخ أو بروكسل، لا عناصر من الثورة الفلسطينية. أما السبب في هذا فيرجع إلى ما يلي:
1 – عندما يمارس العنف المسلّح في بلد ما، يجب أن ينبع من جماهير ذلك البلد، وإلا انعزل عن الجماهير، وتحول إلى عمل مغامر، لأن الفرق بين المغامرين والثوار هو أن المغامرين يمارسون العنف بمعزل عن الجماهير، بينما يمارس الثوار العنف النابع من الإرادة الجماهيرية لممارسته، الذي يجيء معبراً عن التحرك الثوري في البلد الذي ينطلق منه.
2 – لقد حملت الثورة الفلسطينية على عاتقها عبئاً ثقيلاً أكبر كثيراً مما يظن الآخرون. إن تصفية الكيان الصهيوني أي تصفية هذه القلعة الإمبريالية الأميركية مهمة كبيرة تحتاج إلى أن تركّز عليها كل جهود الشعب الفلسطيني، ومن الغباء بعثرة هذه الجهود للانشغال بأعمال عنف في البلدان العربية أو في العالم.
3 – إن بعثرة جهود الثورة الفلسطينية في التدخل المباشر، سواء أكان سياسياً أو عسكرياً في كل الأنظمة العربية، وفي كل بلدان العالم، إلى جانب الطلب منها والتدخل المباشر في الصراعات العالمية داخل الحركات الثورية المعادية للإمبريالية، سوف يعني شيئاً واحداً، وهو فتح عشرات المعارك الجانبية ضدّ الثورة الفلسطينية ومحاصرتها، وبالتالي، ضربها وتصفيتها.
ولن نبالغ إذا قلنا لو أن الثورة الفلسطينية انساقت وراء الشعارات “فوق اليسارية” هذه حول التدخل المباشر في الدول العربية لكانت النتيجة، ببساطة، أن الثورة الفلسطينية قد أصبحت في خبر كان منذ زمن بعيد.
في الواقع إن الضغوط التي تمارس على الثورة الفلسطينية للتدخل المباشر في الدول العربية، وفي كل مكان، تأتي من ثلاثة اتجاهات:
أ – اتجاه الجماعات “فوق اليسارية” في الساحة الفلسطينية والعربية.
ب – اتجاه يرمي إلى إلحاق الثورة الفلسطينية بهذا النظام العربي أو ذاك، ومطالبتها بالتدخل المباشر في الدول العربية الأخرى لحسابه.
ج – من اليمين الرجعي الذي يريد للثورة الفلسطينية أن تهاجم الأنظمة العربية المعادلة للإمبريالية وتهاجم البلدان الاشتراكية، وسائر الاتجاهات التقدمية والثورية.
ولكن السؤال الآن: ما هو دور الثورة الفلسطينية في الثورة العربية؟ وكيف نوفق بين استراتيجية الثورة الفلسطينية باعتبارها جزءاً من الثورة العربية وشعارها التكتيكي في عدم التدخل بالدول العربية؟
في الواقع، إن الثورة الفلسطينية تنهج تكتيكاً ثنائي الجانب في موقفها من قضية التدخل في الدول العربية. ولكي ندرك هذا علينا أن نأخذ مجموعة الحقائق التالية:
أولاً: تعلن الثورة الفلسطينية أنها لا تتدخل في الدول العربية، بمعنى أنها لا تقوم بمهمة التحريض السياسي المباشر بين جماهير الدول العربية ضدّ أنظمتها، أي أنها لا تقوم بالدور الذي يجب أن تقوم به الطلائع الثورية والجماهير في كل بلد عربي.
ثانياً: تعتبر الثورة الفلسطينية الأرض العربية، وخصوصاً تلك التي على خطوط المواجهة مع العدو، قواعد ارتكاز ومنطلقات للثورة. وهذا يعني إدخال السلاح إليها، وبناء القواعد المقاتلة على أراضيها، والالتحام بجماهيرها وطلائعها، في علاقات يومية. وهذا بطبيعة الحال خطوة كبيرة في تحقيق وحدة الثورة العربية، واعتبار الثورة الفلسطينية جزءاً من الثورة العربية، ولكن بطريقة لا يقتنع بها الذين يفهمون التدخل، أو وحدة الثورة العربية، بأنهما مجرد بيان يهاجم النظام، أو مقال يكتب في جريدة.
ثالثاً: تعمل الثورة الفلسطينية على بناء الجبهات المساندة، في داخل البلاد العربية كخطوة أولى في طريق الالتحام المصيري في المعركة، إلى جانب اللجان الشعبية لجمع التبرعات وربط الجماهير العربية، بصورة منتظمة، في الثورة، وهذه خطوة أساسية تؤدي إلى قيام رابطة مصيرية، يجب أن تتطور عرضاً وعمقاً، بين الجماهير العربية والثورة الفلسطينية.
رابعاً: نتيجة للصراع المسلّح الذي تشتبك فيه الثورة الفلسطينية مع العدو الصهيوني والإمبريالي، وتصاعده يومياً، لا بدّ من أن يخلق مناخاً ثورياً في كل البلدان العربية، يؤدي إلى تفجير التناقضات بين الجماهير العربية وكل الأنظمة الموالية للإمبريالية، أو الأنظمة التي لا تريد القتال، أو تتراجع أمام الضغط الإمبريالي الأميركي. هذا كله إلى جانب الدور الإيجابي الذي تلعبه الثورة الفلسطينية في وضع الجماهير العربية، في حالة من التوتر الثوري وفي التصاق دائم بالعمل السياسي، والتفاعل اليومي بالوعي والصراع الثوريين.
خامساً: إن طريق الحرب الشعبية التي تخوضها الثورة الفلسطينية أعطى للجماهير نموذج النضال ضدّ الإمبريالية العالمية.
على أنه من المفيد أن ندرك أن مدى التحام الثورة الفلسطينية ببقية فصائل الثورة العربية مسألة نسبية تتعمق باستمرارٍ مع نمو وتصاعد نشأ فصائل الثورة العربية الأخرى، لأن الالتحام الحقيقي لا يمكن أن يتمّ إلا في خندق واحد وبين ثوار من طراز واحد، وليس بين ثائر يحمل السلاح وآخر يحمل شعارات ثورية بعيداً عن أرض المعركة والممارسة الثورية ومعزولاً عن جماهير بلده، وخصوصاً، إذا كانا أبناء أمة واحدة.
الذين يريدون أن تلتحم الثورة الفلسطينية نظرياً وعملياً مع فصائل الثورة العربية الأخرى، عليهم أن يدفعوا بفصائل الثورة العربية إلى الأمام لتخرج من عزلتها عن الجماهير، ولتصل أعلى مستويات النضال السياسي أي النضال المسلّح الذي وصلته الثورة الفلسطينية.
وهنا، لا بدّ من القول للذين يأتون للثورة الفلسطينية بقائمة من الطلبات، عليهم، أولاً، أن يقوموا بتنظيم أنفسهم، بوضع برنامج صحيح للثورة في أقاليمهم، وبالخروج من العزلة عن الجماهير، والبدء بفرض إرادة التغيير الثوري على الأرض التي يقفون عليها. وعليهم أن يفعلوا ذلك معتمدين على أنفسهم، أولاً وقبل كل شيء فإذا لم يستطيعوا الاعتماد على أنفسهم، وإثبات جدارتهم على أرض الواقع، فلن يجدي معهم كل ما يريدون أن تفعله الثورة الفلسطينية لهم حتى لو أطعمتهم بيدها...
لذلك، يجب أن ندرك، أنه لا ينبغي للثورة الفلسطينية أن تراهن على وجودها في سبيل تطور "حركة لم تزل في أولى مراحل نموها بعد. وذلك لأن لدينا الآن، في الحاضر، ثورة قائمة، وقد قطعت شوطاً في تطورها، ويجب المحافظة عليها، وعدم السماح بتصفيتها. وأن تطور تلك الحركة أو الحركات الجديدة النامية، مرهون، لمدىً طويلٍ من الزمن، ببقاء هذه الثورة وتطورها. لذا، الواجب الآن لهذا كله عدم دفع الثورة إلى مغامرات، وعدم الطلب منها أن تتقدم كثيراً في شعاراتها، خوفاً من اتساع الهوّة بينها وبين تطور الثورة العربية والجماهير العربية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تصفيتها. بل إن الواجب يقضي بالمحافظة على هذه الثورة وحمايتها وضمان بقائها واستمرارها أولاً، ثم التركيز على تطوير الثورة العربية في كل بلد، ودفعها إلى الأمام.
على أن من الممكن ملاحظة اتجاهين خاطئين في هذا المجال برزا في التطبيق العملي:
الأول: اتجاه انتهازي “يساري” كان يطلب من الثورة الفلسطينية أن تتدخل في كل الدول العربية تدخلاً مباشراً مكشوفاً، وطالبها بأن تراهن على وجودها في سبيل اتخاذ موقف شكلي معين. أو حصر علاقاتها وحركتها بين القوى السياسية في بلد معين، في نطاق حركة صغيرة فقط ومحاربة بقية القوى الأخرى.
الثاني: اتجاه انتهازي يميني برز لدى بعض عناصر الثورة الفلسطينية وقد أدار هذا الاتجاه ظهره للفصائل النامية من طلائع الثورة العربية، متخذاً من بعض سلبياتها حجة لعزلها وعدم التعاون معها من أجل حصر تعاونه مع القوى اليمينية فقط.
إن الثورة تعيش في الحاضر، ولكنها تعمل لصنع المستقبل والتطور فيه، لذلك عليها أن تحافظ على وجودها في الحاضر وتؤمن تطورها فيه. ولكن عليها أيضاً أن تلتحم بالقوة النامية التي ستكوِّن المستقبل. كل ذلك يجب أن يتمّ في وقت واحد، وبجمع ديالكتيكي بين هذين النقيضين في وقت واحد. لذا من الخطأ التضحية بالحاضر من أجل المستقبل، لأننا إذا ضحينا بالحاضر سنفقده ونفقد المستقبل. وفي المقابل يجب ألا ننجرف مع الحاضر ونرفض قوى المستقبل، لأننا إذا فعلنا ذلك ذبنا في الحاضر، وفقدنا المستقبل.
هذا ما يجب أن تدركه طلائع الثورة الفلسطينية وطلائع الثورة العربية على حدّ سواء.
لذا، يقع في خطأ مميت:
الذين يريدون عزل الثورة العربية عن الثورة الفلسطينية.
الذين يريدون للثورة الفلسطينية أن تكون بديلاً للثورة العربية.
الذين يريدون للثورة العربية أن تكون بديلاً للثورة الفلسطينية أو يريدون احتواءها.
الذين يريدون من الثورة الفلسطينية أن تضحي بالحاضر من أجل المستقبل.
الذين يريدون من الثورة الفلسطينية أن تضحي بالمستقبل من أجل الحاضر.
تبدو هذه المنطلقات، لأول وهلة، أنها متناقضة وغير منسجمة، ولكن الديالكتيك يعلمنا ألا نكون أحاديي الجانب وأن نتبنّى، في كثير من الحالات، سياسة ثنائية التركيب، ونقودها بفهم عميق لتلك العلاقة الجدلية بين المتناقضات. ولهذا علينا أن نعرف بدقة موقع الثورة الفلسطينية من الثورة العربية، في كل مرحلة تاريخية، وحسب الظروف الموضوعية المعطاة. أي علينا أن نعرف العلاقة الجدلية بين الثورة الفلسطينية والثورة العربية، بمعنى أن نعرفها علاقة مترابطة متحركة متنامية، تتخذ أشكالاً مختلفة في كل مرحلة، حسب درجة تطور كل فصيلة من فصائل الثورة العربية، وحسب الظروف الموضوعية، محلياً وعربياً ودولياً، في كل مرحلة تاريخية. نعم، يجب أن نعرف كل ذلك لئلا نحنّط تلك العلاقة بقالب ثابت ميت. وكذلك لئلا نفرض الشعارات والصيغ النظرية قسراً على الواقع. وبالتالي، لكي نستطيع أن نفهم كل شعار بترابطه العام والخاص بجماع الظروف الموضوعية والذاتية المعطاة في مرحلة تاريخية محددة.
يساعدنا ذلك، مثلاً، على أن نعتبر شعار “عدم التدخل في البلدان العربية” الذي طرحته الثورة الفلسطينية، في ظروف محددة، شعاراً ثورياً، بدليل أنه أعطى الثورة الفلسطينية فرصة الوقوف على الأقدام، وضرب الجذور في أعماق الجماهير الفلسطينية. ولكن هذا لا يعني أنه شعار ثوري بالنسبة إلى فصائل الثورة العربية الأخرى، بل سيتحول، في الحال إلى شعار يميني انتهازي، إذا ما تبنته فصائل الثورة العربية الأخرى. وقد يتحول، في حالات معينة، إلى شعار انتهازي يميني بالنسبة إلى الثورة الفلسطينية أيضاً، إذا ما استمرت على تبنّيه.
هنا، يجب علينا أن نعرف كيف يطبق الديالكتيك على أرض الواقع، بحيث نستطيع أن نتصور شعاراً ما، كيف يمكن أن يكون ثورياً بهذه الحالة، وكيف يمكن أن يكون، هذا الشعار نفسه، رجعياً، أو يمينياً أو انحرافاً “يسارياً” بحالة أخرى. إن المنهج الديالكتيكي وحده هو الذي يحلّ مثل هذه القضايا، على عكس المنهج الميتافيزيقي والمنطق الشكلي الصوري اللذين لا يستطيعان أن يفسرا كيف تكون ألف هي لا ألف في الوقت نفسه.
وأخيراً، يبقى السؤال التالي: لماذا لا تعمل الطليعة الثورية الفلسطينية على خلق الطليعة الثورية العربية؟
في الواقع، إن هذا السؤال خيالي، رغم كل ما يحمله من طموح ثوري، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: مسألة تكوين الطليعة الثورية العربية وبنائها، في كل قطر عربي، هي مسؤولية القوى الثورية العربية، في كل قطر، لأنها أقدر على فهم الظروف الموضوعية الخاصة لقطرها، وبالتالي هي أقدر على تكوين الطليعة الثورية ووضع البرنامج السياسي المناسب.
ثانياً: الطليعة الثورية الفلسطينية ما زالت تعاني نقصاً أساسياً في بناء التنظيم الثوري القائد، وذلك يرجع إلى أسباب موضوعية وذاتية، في آن واحد. لهذا فهي لا تستطيع أن تعطي للآخرين ما تفتقده هي.
ثالثاً: إن بناء التنظيم الثوري القائد في الساحات العربية يجب أن يكون مختلفاً عمقاً وعرضاً عن التنظيم القائد في الساحة الفلسطينية، لأنه لا بدّ من أن يواجه مسألة الثورة الاجتماعية، في الوقت نفسه الذي يواجه فيه قضية التحرر من النفوذ الإمبريالي، والصراع المسلّح ضدّ الكيان الصهيوني. بينما لا تواجه الثورة الفلسطينية قضية الثورة الاجتماعية مباشرة كما هي الحال بالنسبة إلى بقية فصائل الثورة العربية، وإنما ستواجهها بعد مرحلة طويلة من الصراع ضدّ العدو الصهيوني. ولكن السبب الأهم هو أن الإمكانات لبناء تنظيم ثوري طليعي قائد في الأقطار العربية هي أكبر منها بالنسبة إلى الساحة الفلسطينية. وهذا راجع إلى طبيعة تشريد الشعب الفلسطيني، وعيشه الآن ممزقاً بعضه عن بعضه الآخر، وضمن ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة، وأخيراً بسبب عدم وجوده ضمن أرض واحدة وتحت علاقات إنتاجية واحدة، وهذا ما سنتناوله بالتفصيل فيما بعد.

خلاصة

لقد رأينا أهمية تحديد التناقض الرئيسي وطبيعته، وتعيين طرق حله، مضافاً إلى ذلك تقويمه، بالنسبة إلى سائر التناقضات الأخرى في الساحة العربية، مع تحديد دور كل قوة من القوى الضاربة الرئيسية والقوى الحليفة، في كل حالة، وفي كل مرحلة، ورؤية الوحدة والترابط بين الأشياء إلى جانب رؤية التمايز بين الأشياء داخل تلك الوحدة في الوقت نفسه. ومن ثم متابعة الحركة الداخلية، وتطورها داخل تلك الوحدة، مع إعادة تقويمها، في كل مرحلة، وفي كل ظرف جديد. وتطبيق هذا المنهج على أرض الواقع سواء أكان في التحليل، أو التقويم، أو إعادة التقويم. وهذا بدوره يساعدنا على تقويم كل شعار يطرح في هذه المرحلة أو تلك، كما يساعدنا على إيجاد الصيغة المناسبة لتكوين الجبهة الداخلية في الساحة الفلسطينية وفي كل قطر عربي، في كل ظرف وفي كل مرحلة. وكذلك بالنسبة إلى تكوين صيغة الجبهة العربية الشاملة، وصيغة اللقاء والتعاون بين مختلف فصائل الثورة العربية في كل ظرف وكل مرحلة، آخذين بعين الاعتبار الحقائق التالية:
أولاً: ثمة تناقض رئيسي يشمل المنطقة العربية بأسرها، هو التناقض بين الكيان الصهيوني والإمبريالية العالمية من جهة والجماهير الفلسطينية والجماهير العربية من جهة أخرى.
ثانياً: الكيان الصهيوني هو العقدة التي يجب تسليط النار عليها وتصفيتها لحلّ التناقض الرئيسي كله، بينما الجماهير الفلسطينية هي القوة الضاربة الطليعية في تسليط النار على الكيان الصهيوني.
ثالثاً: التناقض الرئيسي لا يمكن أن يحلّ إلا بالكفاح المسلّح، أي بحرب الشعب تخوضها الجماهير الفلسطينية ومعها الجماهير العربية.
رابعاً: ثمة تناقض رئيسي خاص في كل قطر عربي، تمثل الجماهير العربية في كل قطر عربي أحد طرفي ذلك التناقض الخاص.
خامساً: إن طريقة حلّ التناقض الرئيسي الخاص في كل بلد عربي تتوقف على موقف الطرف المقابل لطرف الجماهير العربية في ذلك التناقض من حلّ التناقض الرئيسي العام ضدّ الكيان الصهيوني وحليفته الإمبريالية العالمية، لأن مشاركة أو عدم مشاركة أو مقاومة الطرف المقابل للجماهير العربية في معركة تصفية الكيان الصهيوني هو الذي سيقرّر تحديد ذلك التناقض الرئيسي الخاص كتناقضٍ ثانوي، في مرحلة الصراع المسلّح ضدّ الكيان الصهيوني، في حالة إمكان قيام جبهة متحدة معه في تلك المعركة، أو اعتباره جزءاً من التناقض الرئيسي في حالة تصدّيه لمشاركة الجماهير العربية والفلسطينية في الثورة الفلسطينية في ذلك البلد ومنعها من ممارسة الكفاح المسلّح ضدّ العدو الصهيوني.
سادساً: يتعين على طلائع الثورة الفلسطينية وطلائع الثورة العربية أن تتدارس كل الظروف الموضوعية والذاتية المعطاة، في كل مرحلة تاريخية محددة من أجل تحديد ما يلي:
أ – تحديد التناقضات في كل مرحلة، وتحديد ما بينها من تمايز واختلاف في الأولوية والحدة والعمق من أجل تعيين أي تناقض من تلك التناقضات يجب أن يؤجل حلّه، وأي منها يجب أن يتقدم حلّه.
ب – إيجاد صيغة للتعاون والمشاركة بين مختلف فصائل الثورة العربية، وتطوير تلك الصيغة تدريجاً مع تطور الظروف الموضوعية والذاتية لفصائل الثورة العربية حتى تصل في النهاية إلى صيغة الالتحام الكامل والوحدة قيادة وتنظيماً.
سابعاً: إجراء دراسة مستمرة لحركة التناقضات وتغيّرها، ولتبدل الظروف الموضوعية محلياً وعربياً ودولياً، من أجل إعادة تقويم البرامج السياسية والصيغ التنظيمية والعلاقات بين فصائل الثورة العربية، بحيث نتمكن في كل مرحلة جديدة وظرف جديد من أن نجد البرنامج المناسب والشعارات المناسبة، وأساليب الممارسة المناسبة وصيغة العلاقة المناسبة بين مختلف فصائل الثورة العربية والجماهير العربية.
إن كل ما تقدم يرجى منه إيضاح صورة الأوضاع السائدة الآن، من أجل دفع الثورة الفلسطينية والثورة العربية إلى الأمام، وإيجاد صيغة لبدء الالتحام بين مختلف فصائل الثورة العربية بما فيها الثورة الفلسطينية.

التناقضات الثانوية

إذا كان تحديد التناقض الرئيسي، وتحديد طريقة حله يحوزان على أكبر درجة من الأهمية، فإن تحديد التناقضات الثانوية البارزة وطريقة حلّ كل تناقض منها يحوز على درجة كبيرة من الأهمية أيضاً، لأن ذلك يؤثر تأثيراً مباشراً في مصير حلّ التناقض الرئيسي نفسه.
لا يمكن أن نحدد التناقض الرئيسي، إذا لم نحدد أهم التناقضات الثانوية، ولا يمكن أن يحلّ التناقض الرئيسي، إذا لم نعرف طريقة معالجة التناقضات الثانوية، في أثناء معالجة التناقض الرئيسي. وإن أي خطأ يرتكب في هذا المجال أو ذاك إنما يقود إلى انحراف يميني أو “يساري”. وبالتالي، سيؤثر في مسيرة الثورة تأثيراً بالغاً قد يؤدي إلى فشلها كما قد يشكّل عقبة كبيرة في طريق متابعة الثورة بعد تحقيق أهداف المرحلة الأولى أو الثانية.
إذا كنا نستطيع حصر التناقض الرئيسي بدقة وتحديد، فإن حصر كل التناقضات الثانوية أمر صعب للغاية. والسبب في ذلك أن التناقض هو طبيعة الأشياء، وطبيعة كل جانب من جوانب الحياة الاجتماعية والإنسانية والفكرية، وبالتالي كان حصر كل التناقضات يتطلب حصر مجالات النشاط الإنساني الجماعي والفردي كلها، في مرحلة معينة، وتحت ظروف محددة.
بيد أن ثمة تناقضات ثانوية إلى جانب التناقض الرئيسي بارزة أكثر من غيرها. وهي على درجة من الأهمية مباشرة بالنسبة إلى حلّ التناقض الرئيسي القائم، وفيما بعد ذلك أيضاً. لذلك، سنتناول في هذا الفصل أهم التناقضات الثانوية. ويجب علينا أن ندرك، منذ البداية، أن حلّ التناقضات الثانوية حلاً نهائياً، لا يمكن أن يتمّ إلا في المراحل التي ستتبع إنجاز مرحلة حلّ التناقض الرئيسي. فمثلاً حلّ التناقض بين العمال والرأسمالية الوطنية لا يمكن أن يحلّ حلاً نهائياً إلا بعد إنجاز مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي وليس قبلها أو معها بضربة واحدة. لأنه بعد إنجاز تلك المرحلة يتحول التناقض الثانوي الآن، بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية إلى تناقض رئيسي لا يمكن حلّه إلا بالثورة الاشتراكية.
ولعل أهم التناقضات الثانوية التي تواجهنا في هذه المرحلة هي:
1 – التناقض بين الرأسمالية الوطنية والعمال
لهذا التناقض سماته الخاصة فيما يتعلق بالعمال الفلسطينيين والرأسمالية من الأصل الفلسطيني، وله سمات أكثر خصوصية في الأردن، حيث توجد القاعدة الارتكازية الأساسية للثورة الفلسطينية، أي حيث يوجد جزء كبير من الفلسطينيين الذين طردوا من وطنهم.
إن رسم خريطة طبقية للشعب الفلسطيني عملية صعبة للغاية بسبب تشريد الشعب الفلسطيني وتجزئته، بحيث أصبح رسم هذه الصورة يتطلب رسم عدة خرائط طبقية له لا خريطة واحدة، أي خريطة طبقية لكل جزء من أجزاء الشعب الفلسطيني. لأن كل جزء يعيش تحت علاقات إنتاج وتحت ظروف سياسية واجتماعية وثقافية تختلف بهذا القدر أو ذاك عن تلك التي تعيش تحتها بقية الأجزاء. وهذا يتطلب رسم خريطة طبقية للفلسطينيين الذين عاشوا تحت الاحتلال الصهيوني بعد عام 1948، وأخرى للفلسطينيين في قطاع غزة الذي عزل عزلاً كاملاً عن بقية أجزاء الشعب الفلسطيني، وأخرى للفلسطينيين في الأردن قبل حزيران 1967، وأخرى للفلسطينيين في الضفة الغربية تحت الاحتلال الصهيوني بعد حزيران 1967، وأخرى للفلسطينيين في الضفة الشرقية من الأردن بعد ذلك التاريخ. ثم خريطة أخرى للفلسطينيين في لبنان، وأخرى في سورية، وفي العراق، وفي الخليج العربي، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من العمال في المهجر، وخصوصاً، في ألمانيا الغربية.
إن ضرورة رسم كل تلك اللوحات الطبقية لشعب صغير، تؤكد أننا حيال ظاهرة فريدة من نوعها، تحتاج إلى دقة في معالجتها، وأنها لتحتاج إلى أكثر من ذلك، أي إلى ضرورة رؤيتها كما هي بعيداً عن الصورة الكلاسيكية للطبقات في البلدان المتخلفة.
ويمكن في هذه العجالة إعطاء ملامح عامة قد تصلح أساساً لدراسة علمية تفصيلية في المستقبل القريب. وهنا علينا أن نلاحظ ما يلي:
1 – لقد دمرت الطبقة الثرية الفلسطينية، التي كانت في فلسطين قبل عام 1948 – 1949، سواء منها ملاّك الأراضي الكبار والمتوسطون أو أثرياء المدن من ملاّك العقارات والمتاجر الكبيرة والرأسمالية الوطنية والصغيرة. أما السبب في اندثارها ودمارها فراجع لفقدانها أدوات الإنتاج وعقاراتها حتى أرصدتها في البنوك، نتيجة الاحتلال الاستيطاني الصهيوني لفلسطين وقيام دولة الكيان الصهيوني، وطرد الفلسطينيين من ديارهم دون تمييز بين الطبقات الاجتماعية. وقد تشرد الجميع لا يحملون معهم سوى أرواحهم والثياب التي على أجسادهم، وقد سُلبت ثرواتهم وممتلكاتهم وبيوتهم حتى فراش العمال والفلاحين المسحوقين. وهذا بالطبع، قذف بهذه الفئات من طبقات البرجوازية الوطنية الصغيرة والملاّكين الكبار والمتوسطين والفلاحين الأغنياء والمتوسطين، ليصبحوا لاجئين منتشرين في عدة بلدان عربية، شأنهم شأن العمال والفلاحين الفقراء، غير قادرين على استعادة مواقعهم الاقتصادية في البلدان التي لجأوا إليها. وهكذا أخذ هذا الجيل من أثرياء فلسطين يتلاشى ويغيب عن مسرح الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، إلا، في حالات استثنائية لا تستحق الذكر.
لقد كان الاحتلال الصهيوني يستهدف “تعزيل” فلسطين من كل سكانها العرب بغضّ النظر عن انتساباتهم الطبقية. لقد كان الاحتلال الصهيوني حتى ضدّ مصلحة الكومبرادور وعملاء الإمبريالية من عرب فلسطين. وذلك لأن الاحتلال الصهيوني، لم يكن بحاجة، مثل الاحتلال الإمبريالي، إلى خلق طبقة إقطاعية واحتكارية وكومبرادورية من السكان الأصليين من الأرض الفلسطينية كلها، وقد جلب معه عماله ومزارعيه وكومبرادوره ورأسمالييه وعملاءه.. إلخ.
أما بالنسبة إلى العمال الفلسطينيين، فقد كان شأنهم شأن الفلاحين الفقراء وأصحاب الملكيات الصغيرة، فقد قذفوا إلى معسكرات اللاجئين ليعيشوا في الخيام، بعيدين عن أدوات الإنتاج وفاقدين العلاقات الإنتاجية، وأية حياة اقتصادية، معتمدين، أساساً، في معيشتهم على ما كانت تقدمه لهم وكالة إغاثة اللاجئين الدولية التابعة لهيئة الأمم المتحدة، من إعانات وجرايات. وهكذا انتفى وضعهم السابق كعمال وفلاحين فقراء – بعد انتفاء الأساس الاقتصادي لذلك الوضع – وأصبحوا يشكلون “طبقة” جديدة إذا جاز التعبير، فلا يمكن التحدث عن طبقة خارج القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج. ولهذا، من الخطأ علمياً أن نسميهم طبقة، ومن الأدق أن نقول إنهم أصبحوا يشكلون جماهير الفلاحين المسحوقين الذين لا يملكون شيئاً، ولا يشاركون في عملية الإنتاج. وقد رزحوا في الأقطار التي لجأوا إليها تحت ظروف “الغرباء” وتحت نير الاضطهاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والبوليسي.
ولكن خلال العشرين سنة التي تلت عام 1948 – 1949 طرأت تغييرات كثيرة على أوضاع الفلسطينيين، وعلى الخريطة الطبقية، أو على الأصح الخرائط الطبقية للشعب الفلسطيني.
2 – لقد نشأت فئات جديدة من الرأسمالية الشابة من أصلٍ فلسطينيٍّ، جمعت ثروتها بعد عام 1948، وبشكل خاص، في بلدان النفط. وأخذت تتوزع بثروتها في العديد من البلدان العربية. ولهذه الفئات القسمات التالية:
أ – لا تشكل بأجمعها طبقة رأسمالية فلسطينية بالمعنى العلمي للطبقة، لأنها تفتقر إلى الوحدة، فهي لا تعمل على أرض واحدة، ولا تحت وضع اجتماعي واقتصادي وسياسي واحد، إنها مبعثرة بين عدة بلدان عربية يختلف بعضها عن البعض الآخر في علاقاتها الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية.. إلخ. إن وضعها يشبه وضع بعض الإيطاليين الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة وكندا وأميركا الجنوبية، وأصبحوا رأسماليين في تلك البلدان ولكنهم لا يشكلون طبقة رأسمالية إيطالية فيما بينهم، وليسوا جزءاً من طبقة الرأسمالية الإيطالية في إيطاليا. وإنما هم جزء من الطبقات الرأسمالية في البلد الذي يعملون فيه.
ب – تستغل هذه الفئات الرأسمالية، الفلسطينية الأصل، عمالاً عرباً غير فلسطينيين، وبالتالي، يجعل هذا الوضع شكل التناقضات في الساحة الفلسطينية بين العمال والرأسماليين، ذا سماتٍ خاصة جداً تحتاج إلى دراسة معمقة، ولا يمكن سحب التحليل العلمي الكلاسيكي حول التناقض بين الرأسماليين والطبقة العاملة في بلد ما عليها، لأنها ظاهرة جديدة، فالتناقض بين الرأسماليين والطبقة العاملة الفلسطيني والفلسطينيين ليس من نوع التناقض الذي ينشأ من عملية الاستغلال المباشر الذي يترتب عليه سرقة فائض القيمة.
ج – إن هذه الفئات الرأسمالية مرتبطة بالأنظمة العربية اقتصادياً وسياسياً، ومصالحها تحت رحمة هذه الأنظمة. لذلك تلعب دور العميل لبعض الأنظمة العربية في الساحة الفلسطينية مستغلة جذورها الفلسطينية، وأن تناقضها مع جماهير الشعب الفلسطيني هو بقدر تناقض مصالح جماهير الشعب الفلسطيني مع تلك الأنظمة العربية، وهي لذلك تتدخل في الثورة الفلسطينية لحساب الأنظمة العربية والرأسمالية العربية من أجل تقييد حركة الجماهير الفلسطينية وتطور الثورة الفلسطينية، من الداخل، وكان الشقيري واتجاهه، واحداً من ممثلي هذه الفئات.
من هنا، نلاحظ أن شروط الطبقة لا تتوفر في الشعب الفلسطيني المشرد، ولا يمكن أن نقول إن ثمة طبقة رأسمالية فلسطينية، بالمعنى العلمي لتعريف الطبقة، وإنما نستطيع القول إن فئات رأسمالية من أصل فلسطيني، هي جزء من الطبقة الرأسمالية في كل بلد تعيش فيه. ولا تشكل بمجموعها طبقة واحدة، لأنه لا توجد رابطة وحدة فيما بينها، أي لا يوجد الوطن الواحد أو أدوات الإنتاج الواحدة وعلاقات الإنتاج الواحدة. لأننا لا يمكن أن نتحدث عن طبقة ما بعيداً عن أدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج فوق أرض موحدة. ولهذا، من الخطأ الفادح أن نتحدث عن طبقة رأسمالية فلسطينية، كما لو أننا نتحدث عن طبقة رأسمالية ألمانية أو فرنسية أو مراكشية. إن ملكية وسائل الإنتاج في أي مجتمع هي أساس علاقات الإنتاج التي تقرّر وجود الطبقات أو عدم وجودها، أو تقرّر نوع الطبقات الموجودة وأشكال الاستغلال والصراع الطبقي وأشكال التناقض الطبقي والإيديولوجي.. إلخ.
وإذا مضينا إلى دراسة حالة العمال الفلسطينيين، فسوف نجد أمامنا حالة فريدة أيضاً. فسنرى العمال الفلسطينيين، رغم صغر عددهم بالنسبة إلى مجموع السكان، متفرقين في عدة بلدان، ابتداء من الأردن ومروراً بمختلف دول النفط العربية وانتهاء بعشرة آلاف منهم في ألمانيا الغربية. وهنا علينا أن نلاحظ السمات التالية:
أ – العمال الفلسطينيون لا يعيشون على أرض واحدة، ولا يواجهون طبقة رأسمالية واحدة، وإنما هم متفرقون بين عدة بلدان، وتستغلهم رأسمالية تلك البلدان. وهم بهذا يختلفون عن وضع أية طبقة عاملة في أي بلد من بلدان العالم.
ب - العمال الفلسطينيون لا يمتلكون أبسط الحقوق المدنية، بما في ذلك حقّ الوجود على الأرض التي يعملون فوق ترابها، فهم يعملون بموجب تصاريح عمل مؤقتة، وتستطيع الدولة المضيفة أن تبعدهم عن حدودها بدون إبداء الأسباب، ومن ثم ليهيموا على وجوههم دون أن يجدوا أرضاً لهم الحقّ في الإقامة عليها.
ج – لا يستطيع العمال الفلسطينيون أن يشكلوا نقابات تدافع عن حقوقهم ليناضلوا من خلالها في سبيل مكاسب اقتصادية. وهذا راجع لعدم وجود عمال فلسطينيين يعملون كوحدة قائمة بذاتها، كالعمال في أي بلد من بلدان العالم، وإنما هم جزء متداخل في الطبقة العاملة في البلد المضيف، بحكم موقعهم من أدوات الإنتاج في البلد المضيف الأمر الذي جعلهم جزءاً من القوى المنتجة حيث يعملون. لهذا، إذا كان لهم أن ينشئوا نقابة، مثلاً، فلا بدّ من أن تكون تلك النقابة مشتركة مع العمال في البلد المضيف، أي في أحسن الحالات حين يتاح لهم العمل النقابي – كما في الأردن مثلاً – عليهم أن ينخرطوا في نقابات العمال الأخرى، لأنه من غير المعقول أن يقرّر العمال الفلسطينيون في مصنع ما في لبنان أو الأردن أو الكويت أو ألمانيا الغربية، إعلان الإضراب تحقيقاً لمطالب خاصة بهم، ولا يكون إضراباً شاملاً لكل عمال المصنع.
إن اتحاد عمال فلسطين الذي أسسته الثورة الفلسطينية لا يستطيع أن يناضل اقتصادياً أو نقابياً، فهو، في الواقع، أشبه ما يكون بالتنظيم الجماهيري كاتحاد الشبيبة، مهمته تنظيم العمال الفلسطينيين وتعبئتهم وتوعيتهم وربطهم بالثورة. لهذا أهدافه ونشاطاته ذات طابع سياسي صرف، وليست ذات طابع نقابي أو اقتصادي.
د – أمام العمال الفلسطينيين، في الظروف الراهنة، التي يعيشونها أحد خيارين: إما أن يذوبوا في الطبقة العاملة في كل بلد يوجدون فيه، ويربطوا مصيرهم بمصيرها، وفي هذه الحالة يفقدون صفتهم كعمالٍ فلسطينيين. وإما أن يضعوا نصب أعينهم هدف تحرير وطنهم والعودة إليه، وهنا تكون أهداف الثورة الفلسطينية هي أهدافهم، ومصيرها هو مصيرهم. وهذا الخيار الثاني هو الطريق الوحيد الصحيح أمامهم. إنهم في هذا الميدان يمكن أن ينتظموا جميعاً كقوة موحدة، ويعطوا زخماً جباراً للعمل الثوري ضدّ الصهيونية والإمبريالية العالمية، ولن يكونوا فعالين في أي ميدان آخر بقدر فعاليتهم في هذا المجال. طبعاً، إن هذا لا يعني ألا يشارك العمال الفلسطينيون في النشاط النقابي للطبقة العاملة التي يعملون بين ظهرانيها، ويساهموا معها في صراعها الطبقي، ولكن هذا يجب ألا يحرفهم عن مهمتهم الأساسية، أو يستغرق كل نشاطهم واهتمامهم. لأن المكان الحقيقي الذي يستطيعون أن يسهموا فيه بفعالية أكبر، ويحدثوا فيه تغييراً ثورياً عميقاً إنما هو الساحة الفلسطينية لا غيرها، وهذا راجع إلى أسباب موضوعية وذاتية، لا دخل للرغبات الخاصة فيها.
وبالمناسبة، علينا أن نلاحظ هنا التناقض الذي يقع فيه أولئك الذين يطالبون بقيادة “الطبقة” العاملة للثورة الفلسطينية بينما يطالبون، في الوقت نفسه، العمال الفلسطينيين أن يذوبوا في نضالات الطبقة العاملة في كل بلد يوجدون فيه. ومن الواضح أننا إذا كنا نريد للعمال الفلسطينيين أن يلعبوا دوراً قائداً في الثورة الفلسطينية، ينبغي لنا التوجه لهم بعدم الذوبان في أي نضال خارج الثورة الفلسطينية. وهذا لا يعني أن على العمال الفلسطينيين المنظمين في صفوف الثورة الفلسطينية، ألا يضعوا كل ثقلهم، في حالات معينة، إلى جانب الحركة الثورية في البلاد التي يوجدون فيها، وخصوصاً، في حالة الانعطافات الثورية الحاسمة.
نستطيع القول، بعد ذلك التحليل لأوضاع العمال الفلسطينيين، أن من الخطأ أن يجري الحديث عن طبقة عاملة فلسطينية بالمعنى الكلاسيكي لأن شروط الطبقة لا تتوفر في العمال الفلسطينيين. إن الذي عندنا هو فئات من العمال المشتتين في عدة بلدان، يعيشون تحت ظروف معيشية مختلفة كلياً، ويواجهون طبقات استغلالية مختلفة، وقوانين عمل وشروط عمل ومستويات أجور مختلفة، ويفتقرون إلى وحدة الطبقة وتماسكها، كما هي حال الطبقة العاملة في كل بلد من بلدان العالم.
إن هذه الحالة جديرة بالتحليل العلمي، ولا يجوز أن تسحب عليها التحليلات العلمية الخاصة بالطبقة العاملة التي تعيش في وطنها، وهي جزء من القوى المنتجة في وطنها.. إلخ. ومن هنا نرى خطأ الذين يتحدثون عن الطبقة العاملة الفلسطينية وسماتها. لأن لدينا حالة مختلفة، وبالتالي، علينا أن ندرسها بكل فرادتها وبهذا نغني النظرية بدلاً من أن نسحب النظرية قسراً على هذا الواقع الشاذ.
إن هذا التحليل ينطبق على البرجوازية الصغيرة الفلسطينية المشتتة أيضاً في بلدان عديدة، بحيث تجري دراسة دقيقة لسمات البرجوازية الصغيرة الفلسطينية، لكي نرى السمات التي تشترك فيها هذه البرجوازية الصغيرة مع السمات العامة للبرجوازية الصغيرة، ونرى السمات الخاصة للبرجوازية الصغيرة الفلسطينية.
أما من ناحية الفلاحين الفلسطينيين، فعلينا أن نلاحظ ما يلي:
أ – نسبة القطاع الفلاحي إلى جماهير الفلسطينيين أقل كثيراً من نسبة القطاع الفلاحي إلى السكان في أي بلد من بلدان آسيا أو الوطن العربي.
ب – القرى التي تبقت بيد الفلسطينيين على أرض فلسطين في الضفة الغربية أو قطاع غزة أو المنطقة المحتلة من فلسطين بعد عام 1948 – 1949 أخذت تخلو من العناصر الشابة بسبب فقر تلك الأراضي وسياسة الاحتلال التجويعية والإرهابية إلى جانب إغراء العمل في دول النفط العربية أو أوروبا.
وكذلك، من الأهمية بمكان إفراد دراسة تفصيلية للسمات الخاصة لجماهير اللاجئين في المخيمات، بحيث تتناول كل النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنفسية والإيديولوجية.. إلخ. وقبل أن ننتقل من هذا العرض السريع المقتضب للفلسطينيين(1). علينا أن نخلص منه إلى النتائج التالية:
أولاً: لا يوجد ثمة شيء اسمه مجتمع فلسطين لافتقاده للأرض الواحدة وأدوات الإنتاج الواحدة والعلاقات الإنتاجية الواحدة أو الدستور الواحد والدولة الواحدة.. إلخ.
ثانياً: إن الشعب الفلسطيني، نتيجة للاحتلال الصهيوني لبلاده فلسطين، وطرده منها، قد تبعثر إلى كتل عديدة، وتحت ظروف مختلفة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وفقد أرضه ووطنه وكيانه وحياته المشتركة.
ثالثاً: يواجه الشعب الفلسطيني خطر التصفية، والإذابة في البلدان التي يعيش فيها، من أجل أن يفقد، نهائياً، وطنه وشخصيته ووجوده كشعب.
على أن من الضروري أمام هذه الحقائق، أن نقرّر هل نعالج مشكلة كل كتلة من كتل الشعب الفلسطيني على حدة، ثم نسحب إحدى تلك التحليلات على كامل المشكلة، كأن نحلل، مثلاً، مجموعة الفلسط虊نيين، تحت الاحتلال الصهيوني بعد عام 1948 – 1949، أو سكان الضفة الغربية الذين تحت الاحتلال الصهيوني الآن أيضاً، أو نحلل فلسطينيي الضفة الشرقية، أو قطاع غزة، أو الفلسطينيين في لبنان، أو سوريا، أو الكويت، أو السعودية، أو ألمانيا الغربية؟
إذا كنا نريد أن نرسم لوحة طبقية للشعب الفلسطيني، فإن علينا ألا نأخذ واحدة من تلك الحالات ونعممها على بقية الحالات، لأن ذلك لن يعطي صورة علمية للواقع كما هو. بل علينا أن نحلل كل حالة على حدة، ثم نجد ما هو مشترك وعام بين هذه الحالات، لكي نتمكن من وضع استراتيجية سياسية تتمكن من صنع الثورة، وتجميع جماهير الفلسطينيين في كل مكان، وتمضي بهم لحل مشكلة التحرير والعودة.
على أن من الضروري أيضاً أن نحلل، بعمق، كل مجموعة فلسطينية، وفي كل بلد، لكي نستطيع تعبئتها وتنظيمها وتسليحها ومعالجة قضاياها المحلية، من أجل أن تسهم في الثورة إسهاماً أكثر فعالية. ولكن من المهم جداً أيضاً ألا نفرق في قضاياها الخاصة المحدودة في كل بلد، وننسى القضية المصرية العامة لكل الفلسطينيين.
رابعاً: عندما نصرّ على دراسة الخريطة الطبقية للشعب الفلسطيني، لا يستهدف ذلك البرهنة على عدم وجود طبقات في الشعب الفلسطيني وعلى أن الشعب الفلسطيني هو شيء واحد كأنه “طبقة” واحدة.. إلخ، بل العكس هو الصحيح.. إننا نستهدف من دراستنا الوصول إلى تحليل موضوعي للشعب الفلسطيني، لتحديد التناقضات التي بين صفوفه، وسمات هذه التناقضات. وبعبارة أبسط، ما هي سمات الرأسماليين الذين من أصل فلسطيني؟.. ما هي سمات العمال؟ ما هي سمات البرجوازية الصغيرة، ما هي سمات جماهير اللاجئين؟ ما هي سمات الطبقات الاجتماعية في الأجزاء التي فيها شعب فلسطيني يعيش فوق أرضه مثل الضفة الغربية وقطاع غزة والمنطقة المحتلة؟
علينا أن نعرف كل تلك السمات من الناحية الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية. ونحدد طبيعة التناقض الذي بينها، وشكل الوحدة الوطنية التي يجب أن تقام، وأصول الصراعات السياسية والتنظيمية في داخل الثورة الفلسطينية. كما علينا أن نعرف كل أنواع الإيديولوجيات في داخل الثورة الفلسطينية وبين الفلسطينيين ونرجع إلى أصولها عند تحليلها ونقدها جنباً إلى جنب مع تحديد أي فئة من فئات الشعب الفلسطيني أكثر ثورية وأكثر استعداداً لقيادة الثورة الفلسطينية تنظيمياً وسياسياً وعسكرياً وإيديولوجياً.. إلخ.
إننا إذ نطبق هذا المنهج الديالكتيكي في التحليل نستطيع أن نحدد التناقض الرئيسي، ومن ثم نحدد مختلف التناقضات الثانوية، في كل حالة، ولأية مجموعة من أبناء فلسطين. وبالتالي، يصبح بمقدورنا تجنب الوقوع في الجمود النظري، أو في التحليل أحادي الجانب، أو التحليل القائم على النقل و“الاستيراد”، أو في الخلط بين الحالة الخاصة والحالة العامة، بين الجزئي والكلي، بين التناقضات الثانوية والتناقض الرئيسي. وبكلمة أخرى، نتجنب الوقوع في أحد الانحرافين أو في كليهما.
هذه ملامح سريعة جاءت مدخلاً لبحث التناقض بين العمال والرأسمالية الوطنية في أثناء اندلاع الثورة الفلسطينية، بوصفه تناقضاً ثانوياً في هذه المرحلة، أي مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي. ولكن هذه القضية تتركّز أساساً بالنسبة إلى هذا التناقض في الأردن، لذا لا بدّ من أن نقف عند الوضع في الأردن وقفة متأنية.
الوضع في الأردن
اندمجت الرأسمالية الفلسطينية خلال العشرين سنة الماضية، بالرأسمالية الأردنية على مختلف المستويات. وكذلك تحركت أجزاء من فئات اللاجئين الفلسطينيين، وخصوصاً من المخيمات، تعمل كعمال في المشاريع الصغيرة القائمة في الأردن. مندمجة بالطبقة العاملة الأردنية. ومع دخول بنادق الثورة الفلسطينية الأردن، وفرض الديمقراطية للشعب على مستويات لم تشهد البلاد لها مثيلاً من قبل، في حين ما زالت الطبقة الحاكمة في الأردن تمثل الكومبرادور والطبقة شبه الإقطاعية المرتبطين بالإمبريالية الأميركية والبريطانية. وكان من نتيجة فرض الإرادة الشعبية، من العمالية في الأردن. ولكن مع نشاط الحركة النقابية في الأردن واشتداد حدة التناقض بين العمال والرأسمالية الوطنية (المتعهدين والمقاولين الوسطاء وأشباههم، وأصحاب المشاريع الاقتصادية المحلية) برزت في أسلوب معالجة هذا التناقض الثانوي ثلاثة اتجاهات بين منظمات الثورة الفلسطينية وهي:
1 – اتجاه انتهازي يميني يوقف كل نشاط نقابي، ويحتجّ على المطالبة برفع أجور العمال وتحسين حياتهم المعيشية، وهذا الاتجاه عبّر عنه من خلال ممثلي أصحاب المصالح في الثورة الوطنية.
2 – اتجاه انتهازي “يساري”، أخذ يحاول الارتفاع بهذا التناقض الثانوي إلى مستوى التناقض الرئيسي. وأخذ يحرض على اللجوء إلى الصدامات المسلّحة لحلّ التناقض بين العمال وأصحاب المصالح (قسم كبير من الرأسمالية الوطنية)، وراح يعمل على تأزيم الوضع بشكل يؤدي إلى تحويل المعركة الرئيسية ضدّ العدو الصهيوني والإمبريالي إلى معركة بين العمال والمتعهدين أو المقاولين أو أصحاب المطاعم مثلاً، كما حدث في مشروع الدلتا وغيره، وقد صنفت إحدى المنظمات في أحد بياناتها حول حوادث إضراب عمال الدلتا أصحاب ذلك المشروع (المتعهدين) جزءاً من التناقض الرئيسي ووضعتهم في المستوى نفسه مع الإمبريالية والرجعية والصهيونية.
3 – اتجاه ثوري صحيح يعتبر أن التناقض بين العمال والرأسمالية الوطنية تناقض ثانوي، في هذه المرحلة. ويجب ألا يتحول إلى جزءٍ من التناقض الرئيسي، وخصوصاً، إن بالإمكان كسب فئات من تلك الطبقة إلى جانب الثورة أو تحييد بعضها. كما يعتبر أن تلبية مطالب العمال المعقولة والمشروعة، في هذه المرحلة، مسألة هامة من أجل تطوير المعركة ضدّ العدو الصهيوني والإمبريالي. وهذا الاتجاه يستهدف معالجة هذا التناقض الثانوي، في هذه المرحلة، بأساليب الضغط السياسي (استخدام الثورة لنفوذها السياسي والأدبي) والإضراب النقابي، ولكن دون استفزاز، ودون تأزيم الوضع بشكل يغير من مواقع التناقضات بصورة اعتباطية، للحيلولة دون إلقاء فئات واسعة من البرجوازية الوطنية والصغيرة إلى أحضان القوى المضادّة وأحضان العدو الرئيسي.
ومن هنا، يكون موضوع تحديد موقع التناقض الثانوي من التناقض الرئيسي، وطريقة معالجة التناقض الثانوي في مرحلة حلّ التناقض الرئيسي، وطريقة معالجة التناقض الثانوي في مرحلة حلّ التناقض الرئيسي موضوعاً هاماً جداً بالنسبة إلى تطور الثورة.
يمكن وضع المسألة على الصورة التالية:
أولاً: التناقض بين العمال والرأسمالية الوطنية، في هذه المرحلة، تناقض ثانوي، ولا يجوز دفعه ليصبح تناقضاً رئيسياً.
ثانياً: من الخطأ خنق هذا التناقض أو تجاهله كلياً، بحيث يترك جشع الرأسماليين والملاّك بلا ضابط، وبهذا يرتكب انحراف انتهازي يميني يؤدي إلى حرمان الثورة من الدور الذي يجب أن تلعبه الطبقة العاملة الفلسطينية والأردنية ضدّ العدو الرئيسي، والقوى المضادّة في الأردن.
ثالثاً: إن حلّ هذا التناقض عن طريق العنف المسلّح أو الاستفزاز والإرهاب يعني ارتكاب انحراف انتهازي “يساري” يؤدي إلى تدمير الاقتصاد الوطني وإغلاق المشاريع، وهروب رؤوس الأموال، وإلقاء أوساط من حلفاء الثورة إلى أحضان العدو وهذا لا يعود بالخير لا على العمال ولا على الثورة.
يقول ماوتسي تونغ:
“يجب تحسين حالة العمال المعيشية إذا كنا نريد استثارة حماستهم بصورة كاملة في القتال ضدّ اليابان. لكنه يجب أن نحتاط بكل حزم ضدّ الانسياق مع”فوق اليسارية“. فلا يجوز أن نعمد إلى الزيادات المفرطة في الأجور، أو إلى تقصير يوم العمل بصورة مبالغ فيها. فليس في الإمكان في الظروف السائدة، في الوقت الحاضر، جعل يوم العمل من ثماني ساعات بصورة عمومية في الصين، بل لا بدّ من السماح بيوم العمل من عشر ساعات، في بعض فروع الإنتاج. أما فروع الإنتاج الأخرى، فيجب تحديد يوم العمل فيها وفقاً للظروف. وإذا ما تمّ الاتفاق بين العمال ورأس المال، فمن واجب العمال التقيد بانضباط العمل، كما ينبغي السماح للرأسماليين تحصيل بعض الأرباح. وإلا أغلقت المعامل أبوابها، الأمر الذي لن ينفع الحرب، كما لن يعود على العمال بأية فائدة”(1).
ويقول ماوتسي تونغ أيضاً:
“ومن جهة ثانية يجب أن تنص سياستنا على ضرورة دفع الفلاحين للريع والفائدة، وضرورة احتفاظ الملاكين العقاريين بملكيتهم للأرض وغيرها من الأملاك”(2).
وهذا يعني ضرورة انتهاج سياسة صحيحة في معالجة هذا التناقض الثانوي بشكل يؤدي إلى تحسين أحوال العمال وزيادة أجورهم، بصورة معقولة، دون أن يؤدي إلى إغلاق المشاريع وإلقاء فئات من الرأسمالية الوطنية إلى أحضان العدو.
رابعاً: ضرورة تنظيم العمال في الثورة وتسليحهم، وتحويلهم إلى كوادر قائدة، من أجل خلق التنظيم الطليعي الحديدي القادر على خوض حرب الشعب حتى النصر.

2 – التناقض في داخل صفوف الثورة (بين مختلف المنظمات)
قلنا في مدخل هذه الدراسة: إن تحديد التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية، يساعدنا على أن نعرف ممن تتشكل جبهتنا وممن تتشكل جبهة العدو. وعندما حددنا أننا نواجه مرحلة تحرر وطني، نتيجة تحليلنا لطبيعة التناقضات في بلادنا، فكان من الطبيعي أننا حددنا ضمناً ممن تتشكل جبهتنا أي من كل القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية (الطبقات أو الفئات الاجتماعية) التي لها مصلحة في حلّ التناقض الرئيسي. وبكلمات أكثر تبسيطاً، كل القوى التي لها مصلحة في إزالة الكيان الصهيوني وحليفته الإمبريالية العالمية من أرضنا.
ومن هنا، نشأت حاجة ملحّة إلى تشكيل جبهة وطنية أو وحدة وطنية في الساحة الفلسطينية من أجل تحقيق ما يلي:
1 – تجميع كل قوى الشعب وتنظيمها وتعبئتها وتسليحها تحت قيادة الثورة الفلسطينية، من أجل القضاء على العدو الصهيوني وحماية الثورة من مؤامرات القوى المضادّة للثورة وهجماتها.
2 – لا يمكن إزالة الهوّة بين التفوق المادي والتكنيكي والعددي للعدو علينا إلا بتعبئة كل قوى الشعب حتى الحدّ الأقصى وتوحيدها وإطلاق كل طاقاتها ومبادراتها وفعالياتها.
3 – ضرب كل محاولات العدو الصهيوني والإمبريالي لتفسيخ صفوف الجماهير والقوى الثورية.
نستطيع القول: إن تحقيق الوحدة الوطنية الشاملة بين كل طبقات وفئات الشعب المعادية للاحتلال الإمبريالي الأجنبي، هو قانون عام بالنسبة إلى كل الثورات التي واجهت تناقضاً رئيسياً شبيهاً بالتناقض الرئيسي الذي نواجهه في الساحة الفلسطينية والعربية..
ولكن من الواضح أن توحيد كل تلك الفئات المتناقضة اقتصادياً واجتماعياً والمتناقضة إيديولوجياً، في جبهة واحدة، لا يلغي تلك التناقضات التي بينها، وإنما يحملها إلى داخل الجبهة الموحّدة. ولكن تلك التناقضات داخل الجبهة الموحّدة تصنف تناقضاتٍ ثانوية في مرحلة الصراع من أجل التناقض الرئيسي. وبالتالي لا بدّ من أن توجد صيغة أو صيغ لمعالجة تلك التناقضات الثانوية في أثناء حلّ التناقض الرئيسي.
وإذا جئنا إلى الساحة الفلسطينية فسنجد مجموعة من التناقضات قد نشأت بين مختلف منظمات الثورة الفلسطينية، وهي تعكس الحالة الفريدة لوضع الفلسطينيين بعد عام 1948 – 1949، وبعد عام 1967. ويمكن أن نلخّص أصول تلك التناقضات فيما يلي:
أ – يرجع بعضها إلى وضع مختلف فئات الشعب الفلسطيني، من لاجئين مسحوقين، وبرجوازية صغيرة متفرقة على عدّة بلدان عربية وكذلك الرأسماليين من الأصل الفلسطيني.. إن هذا الوضع خلق انتماءات طبقية أو انتماءات لأنظمة عربية.. إلخ.
ب – يرجع بعضها إلى أسباب إيديولوجية نشأت كردِّ فعلٍ لهزيمة حزيران 1967، وأعلنت إفلاس مجموعة من الأفكار والاستراتيجيات والصيغ التنظيمية في الوطن العربي.
ج – يرجع بعضها إلى انعكاس للتناقضات في الوطن العربي نفسه.
ومع وجود كل هذه التناقضات كان لا بدّ من تشكيل الوحدة الوطنية، وإيجاد صيغ للوحدة والعلاقات والممارسة بين هذه المنظمات، ولقد نشأت ثلاثة خطوط رئيسية في الثورة الفلسطينية لمعالجة هذه المسألة وهي:
1 – خطّ يساوي بين جميع هذه المنظمات، ويعتبرها كلها على درجة واحدة من حيث الأهمية، ومن حيث الدور الذي تلعبه في الثورة الفلسطينية، ويدعو إلى تشكيل جبهة وطنية بين هذه المنظمات على أساس التساوي والتكافؤ، وهذا الاتجاه يمثّل الانحراف اليميني الانتهازي والسبب في ذلك يرجع إلى:
أ – أكثر المنظمات مرتبط بهذا النظام أو ذاك من الأنظمة العربية، فالتكافؤ والمساواة، إذن، يعنيان وضع الثورة الفلسطينية تحت رحمة الأنظمة، وتحت رحمة أخذ القرارات الثورية على أسس ليبرالية في التصويت.
ب – أثبتت تجارب الجبهات الوطنية في الثورات جميعاً، أن من المحال قيادة على رسم الخطين السياسي والعسكري الصحيحين، وأضخمها قاعدة شعبية، وكوادر الثورة حتى النصر، من خلال وحدة وطنية شاملة، إلا إذا كانت هنالك قوة قائدة للجبهة الوطنية، على أن تمثل تلك القوة أكثر المنظمات ثوريّةً وتضحيةً، وأقدرها على رسم الخطين السياسي والعسكري الصحيحين، وأضخمها قاعدةً شعبيةً وكوادر قائدةً مقاتلةً، وأطولها تجربةً في العمل المسلّح، ولديها إمكانات المحافظة على مسيرة الثورة، وضبط القوى الصغيرة ضمن خطّ ثوري واحد بحيث تؤخذ القرارات الثوريّة على أساس تحليل موضوعي وليس على أساس تصويت أو اتفاق ليبرالي. وهذا يعني أن الاتجاه الرامي إلى المساواة بين جميع المنظمات يؤدي إلى تمييع الثورة وفقدانها لبوصلتها واتجاهها.
2 – خطّ انتهازي “يساري” يحوّل التناقضات الثانوية بين المنظمات الفدائية إلى تناقضٍ رئيسيٍّ، ويعتبر أن تنظيمه هو التنظيم الثوري الوحيد وينهج سياسة انعزالية متقوقعاً على نفسه. وهذا الخطّ يلتقي مع خطٍّ يميني آخر يقاوم الجبهة الوطنية أو الوحدة الوطنية ويضع سائر المنظمات الأخرى ما عدا تنظيمه في مصافِّ التناقض الرئيسي ويطالب بتصفيتها. إن الانتهازية في هذين الخطين اليميني و“اليساري” تتركّز أساساً (من الناحية النظرية على الأقل) في عدم رؤيتهما طبيعة مرحلة التحرر الوطني وحاجاتها إلى وحدةٍ وطنيةٍ شاملةٍ تضم كل القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية المعادية للصهيونية والإمبريالية.. وهما بهذا يدفعان التناقضات الثانوية إلى مرتبة التناقض الرئيسي. مما يؤدي، موضوعياً، إلى إضعاف جبهتنا وتقوية جبهة القوى المضادّة والعدو الصهيوني.
3 – الاتجاه الثوري الصحيح، في معالجة هذه القضية ويمكن تلخيصه بالنقاط التالية:
أ – اعتبار التناقضات بين المنظمات الفدائية تناقضات ثانوية يجب ألا ترتقي مطلقاً إلى مستوى التناقض الرئيسي.
ب – معالجة هذه التناقضات الثانوية يجب أن تتمّ داخل الوحدة الوطنية لا خارجها.
ج – يجب أن تقوم الوحدة الوطنية الشاملة على أساس وجود قاعدة قائدة، أي تنظيم قائد تلتفّ حوله سائر المنظمات الأخرى.
د – يجب أن تكون الثورة الفلسطينية ووحدتها الوطنية تمتلك استقلالية عن الأنظمة العربية أو المؤثرات الدولية، بصورة تضمن للثورة عدم الوقوع تحت الوصاية أو الاحتواء الخارجيين. وتضمن للثورة، في الوقت نفسه، حرية التحرك لإقامة أحسن العلاقات العربية والدولية لمصلحة الثورة.
بيد أن تحديد التناقض بين المنظمات تناقضاً ثانوياً لا يكفي من الناحية التطبيقية العملية، وإنما يجب أيضاً بحث صيغة أو صيغ معالجة هذا التناقض الثانوي من داخل الوحدة الوطنية. كما أن التطبيق العملي يفرض بحث التناقض بين القوانين العامة والقوانين الخاصة بالنسبة إلى حرب الشعب، وعلى التحديد بالنسبة إلى الوحدة الوطنية في قيادة حرب الشعب. وهكذا لا بدّ من مناقشة قضيتين في هذا الصدد مناقشة نظرية وتطبيقية وهما:
أ – كيف تحلّ التناقضات داخل الوحدة الوطنية
ب – الوحدة الوطنية في حرب الشعب بين القوانين العامة والقوانين الخاصة
سيظلّ موضوع الوحدة الوطنية موضوعاً متجدداً أبداً، عندما تكون عندنا وحدة وطنية فعلاً، أو عندما لا تكون قد وجدت بعد، فعندما لا تكون عندنا وحدة وطنية يصبح من الضروري شنّ نظام حازم على مختلف المستويات الفكرية والسياسية والجماهيرية من أجل تحقيقها بوصفها قانوناً عاماً لكل ثورة تحرر وطني. وعندما تتكون عندنا الوحدة الوطنية – بغضّ النظر عن مستوى تطورها – يصبح من الضروري شنّ نضال حازم على مختلف الجبهات من أجل الحفاظ عليها وتطويرها وتعميقها وتوسيع قاعدتها الشعبية، بالإضافة إلى ضرورة ردع كل محاولة انقسامية، سواء أجاءت من الانتهازية “اليسارية” أو من اليمين المتآمر.
إن الحديث عن الوحدة الوطنية وتناقضاتها يصبح أكثر تحديداً بعد تشكيل تلك الوحدة، لأنه سينتقل رأساً من التركيز على أهمية تشكيل وحدة وطنية، إلى التركيز على حلّ المسائل الجديدة التي يطرحها تأليف تلك الوحدة الوطنية. وذلك للأسباب التالية:
أولاً: تنتقل كل منظمة إلى وضع جديد، أي تنتقل من حالة العمل ضمن التشتت إلى حالة العمل ضمن الوحدة، وهذا يطرح عليها مجموعة من القضايا من بينها ضرورة أقلمة جماع نشاطها وسياستها لينسجما مع الوضع الجديد.
ثانياً: يغدو من الضروري إيجاد صيغة للعمل الموحد بين المنظمات، عند اتخاذ القرارات، أو عند تطبيقها والالتزام بها.
ثالثاً: تدخل التناقضات بين المنظمات والطبقات والفئات، في مرحلة جديدة، ذات طابع يختلف حدّة وتوتراً إلى هذا الحدّ أو ذاك عن طابعها قبل تشكيل الوحدة، وبالتالي يصبح من الضروري فهم كيفية معالجة التناقضات بين المنظمات ضمن وجود الوحدة ومن خلالها، وهنا علينا أن نكرر الملاحظة بأن دخول المنظمات في وحدة وطنية لا يلغي التناقضات التي بينها، ولا يجمّدها بالمعنى الحرفي للكلمة، بل تبقى متحركة ومتغيّرة، وكل ما هنالك أننا نبدأ بمواجهتها، بطريقة تختلف بهذا القدر أو ذاك عن الكيفية التي كانت متبعة قبل الوحدة.
إذاً، إن تشكيل الوحدة الوطنية يطرح عدداً من القضايا، منها ما هو متعلق بكل منظمة، أي بجماع نشاطها الداخلي والخارجي، ومنها ما يتعلق بالمنظمات بعضها بالبعض الآخر، ومنها ما هو متعلق بكيفية قيادة الوحدة الوطنية وتنفيذ قراراتها.
وهنا، لا بدّ لكل منظمة من إعادة ترتيب تنظيمها وتقاليدها في العمل، بحيث تتأقلم مع العمل الموحد لكل المنظمات، ولعل دخولها ميدان الوحدة الوطنية سيطرح قضية مدى التزام قاعدة كل منظمة وكوادرها بقيادتها التي تمثلها في قيادة الوحدة الوطنية؛ فإذا كانت هنالك روح انفلاتية أو فوضوية، مثلاً، في داخل هذه المنظمة أو تلك، فلا يجوز أن تستمر بعد تكوين الوحدة الوطنية، لأن حدوث تلك الظاهرة قبل تكوين الوحدة الوطنية يكون شأناً خاصاً من شؤون كل منظمة. أما بعد تشكيل الوحدة الوطنية، فيصبح إلى حدّ بعيد شأناً عاماً من شؤون الوحدة الوطنية؛ فلا يقبل أن تشذ قواعد تنظيم ما أو كوادره، أو حتى لجنة واحدة من ذلك التنظيم عن قرار قيادة الوحدة الوطنية، ويروح يتصرف بطريقة فوضوية غير ملتزمٍ بقرارات القيادة المركزية للوحدة الوطنية، وغير محترمٍ لقيادتها نفسها التي وافقت مع القيادة المركزية على قرار ما.
في مثل تلك الحالات، يتوجب شنّ النضال الحازم ضدّ مثل هذه المحاولات الانفلاتية، ووضع حدّ لها بكل السبل. ولا يبرر الانقسام والصراع الحادّ إلا في حالة التراجع عن الاستراتيجية أو ارتكاب أخطاء مصيرية مبدئية.
إن ظهور مثل تلك المحاولات، في أثناء وجود وحدة وطنية، وقيادة مركزية، وخط سياسي صحيح، لا يعتبر تناقضاً ثانوياً إلا في مراحله الأولى. أما إذا أصرّ عليه وأصبح منهجاً انقسامياً في العمل، فيتحول إلى تناقضٍ عدائيٍّ داخل صفوف الوحدة الوطنية، ويعتبر تخريباً من الداخل. وهنا يجب أخذه بالشدة والعنف إذا اقتضى الأمر، ولكن مع توضيحه سياسياً للجماهير وكوادر الثورة.
وكما قلنا، إن توحيد المنظمات لا يعني انتفاء التناقض فيما بينها، كما لا يعني وقف الصراع؛ لأن مجرد القبول بصيغة للوحدة الوطنية والعمل المشترك لا يغير من حقيقة أية منظمة وواقعها شيئاً، بل تبقى هي هي بمنطلقاتها وتنظيمها وإيديولوجيتها، وكذلك لا يعني الدخول في الوحدة الوطنية أن تحلّ أية منظمة نفسها.
إن تشكيل الوحدة الوطنية لا يبقي التناقضات بين المنظمات فحسب، وإنما أيضاً، يخلق بدوره تناقضات جديدة، هي إفراز الشكل الجديد من العمل الموحد؛ فتبرز مسائل كيفية حلّ التناقضات بين المنظمات داخل العمل الموحد، كما تبرز مسائل كيفية أخذ القرارات، وكيفية الالتزام بالقرارات وتطبيقها، وإلى أي حدّ تستطيع كل منظمة أن تتصرف بعيداً عن المجموع، وإلى أي حدّ يمكن لكل منظمة أن تتصارع مع المنظمات الأخرى.
قبل أن ندخل في الحديث عن حلّ التناقضات داخل صفوف الوحدة الوطنية، علينا أن نتذكر الحقائق التالية:
أولاً: الوحدة الوطنية شعار استراتيجي للثورة في مرحلة التحرر الوطني، ومرتبط ارتباطاً عضوياً بجماع النضال الثوري في سبيل تحقيق الهدف الاستراتيجي للثورة. وبكلمة أخرى، إن تشكيل الوحدة الوطنية ليس شعاراً عابراً، وتكتيكاً مؤقتاً لمرحلة ما من مراحل العمل المسلّح. وإنما هو شعار دائم للثورة المسلّحة طوال حرب التحرير الشعبية حتى تحقيق الانتصار.
ثانياً: كلما تطورت الثورة خطوة إلى الأمام أصبحت الوحدة الوطنية أكثر إلحاحاً، لأن الوصول إلى مرحلة التحرير – الحرب المتحركة – بداية مرحلة التحرير، يعني ضرورة حشد كل طاقات الشعب إلى أقصى حدّ، وهذا لا يكون إلا بوحدة وطنية شاملة فعّالة ومؤثرة إلى الحدّ الأقصى.
ثالثاً: هنالك علاقة ترابط وتبادل تأثير بين تطور العمل المسلّح وتطور الوحدة الوطنية، وتتخذ هذه العلاقة بينهما الشكل التالي: يؤدي تطور العمل المسلّح إلى تكوين الوحدة الوطنية، وبعد تكوين الوحدة الوطنية تعود فتدفع العمل المسلّح إلى الأمام، ثم يعود المستوى الجديد الذي وصله الكفاح المسلّح ليؤثر من جديد في الوحدة الوطنية، فيطوّرها ويوسّعها ويعمّقها لتعود هي بدورها، مرة أخرى، لتدفع العمل المسلّح إلى الأمام، وهكذا دواليك بحركة لولبية متصاعدة.
رابعاً: معيار جدّية أية منظمة أو أي فرد في موقفه من الثورة يتحدد من جدية موقفها، أو موقفه، من الوحدة الوطنية.
هذه الحقائق عامة حول الوحدة الوطنية تجعلنا نقول: إن من غير الممكن لنا خوض حرب الشعب طويلة الأمد والانتصار على القوى المضادّة بدون وحدة وطنية شاملة مؤثرة فعّالة.
لا شكّ في أن الثورة الفلسطينية قد خطت عدة خطوات هامة في طريق تحقيق الوحدة الوطنية كان آخرها تكوين اللجنة المركزية، ومن ثم أمانة سرّ اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية. ولكن مع بدء العمل على مستوى أمانة سرّ اللجنة المركزية نشأت عدة قضايا هامة وتناقضات لا بدّ من معالجتها.
لقد تطورت الثورة الفلسطينية، وخصوصاً، بعد أحداث الأردن في حزيران 1970، إلى حدٍّ أصبح من الضروري معه الارتفاع بالوحدة الوطنية إلى مستوى اتخاذ القرارات الموحدة، والالتزام بها من القمة حتى القاعدة. ولكن، في أثناء اتخاذ القرارات سرعان ما غدا من الضروري إيجاد الصيغة – على مستوى القيادة – من أجل البتّ في القضايا الهامة، واتخاذ القرارات، والتقرير بالإجماع. وتمكّنت القيادة من اتخاذ بعض القرارات بالإجماع، غير أن الأمر لم يكن على هذه الصورة عند التنفيذ فقد برزت عدة تجاوزات – كانت نتيجة للتناقضات بين المنظمات – وكان أخطرها الخروج علناً على القرار الإجماعي، والقيام بنشاطٍ سياسيٍّ مضادٍّ للخطِّ الموحد، ومتعارض مع الوحدة الوطنية. مما طرح من جديد السؤال كيف يجب أن تواجه الاختلافات بوجهات النظر ضمن الوحدة الوطنية سواء أتزعمت طرح الخلاف منظمة أسرها، أو لجنة من لجان كوادرها؟ هل يجب أن يتخذ شكل حملات سياسية وطعن مباشر بقرارات الوحدة الوطنية؟ هل يجب أن ننزل إلى الشارع؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فماذا يتبقى من الوحدة الوطنية، وخصوصاً، إذا ما استجاب الجميع إلى النزول إلى الشارع وقبول التحدي؟ ببساطة، إن هذا يعني الارتفاع بالتناقضات الثانوية إلى درجة الصراع العدائي، وسيؤدي إلى تفسيخ صفوف الثوار، ونسف الوحدة الوطنية.
إن مواجهة الخطّ السياسي الصحيح الذي يجب رسمه لمسيرة الثورة، في كل مرحلة، لا يجوز أن يتقرّر بأسلوب الارتفاع بالتناقضات الثانوية إلى مستوى التناقض العدائي.
إن الوحدة الوطنية لا يمكن أن تقوم إلا على أساس برنامج حدٍّ أدنى وشعارات الحدّ الأدنى، إلى جانب انتهاج خطٍّ سياسيٍّ وعسكري صحيح ينطلق من الواقع الموضوعي، ومعرفة درجة توازن القوى في كل مرحلة، على أن يلتزم الجميع بقرارات قيادة الوحدة الوطنية، وعلى أن توجد الصيغة المناسبة التي تحلّ بها التناقضات الداخلية في الثورة.
إن تعميق المركزية الديمقراطية داخل الوحدة الوطنية يعطي لكل منظمة وللكوادر الفرصة الكاملة لإبداء الرأي والاعتراض والحوار، والمشاركة في اتخاذ القرارات، وإعادة التقويم والمحاسبة. ويعطي، في الوقت نفسه، للوحدة الوطنية قوة تماسك ومقدرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها، ويحصنها من الاتجاهات الانقسامية، والانفلاتية، والمتراجعة.
يجب إغلاق باب المنافسة بين المنظمات من خلال التباري في تصعيد الشعارات، والمجادلات السياسية والنظرية، وينبغي أن تلتزم كل المنظمات ببرنامجٍ للوحدة الوطنية يمثل الحدّ الأدنى، كما تلتزم بشعارات تكتيكية واحدة. ويفتح باب المنافسة فيما بينها في مجالات تقديم القدوة الأفضل من خلال بذل التضحيات الأكبر، وتصعيد العمل المسلّح ضدّ العدو الصهيوني وفي التصدي لمؤامرات القوى المضادّة. وهذا يلبي حاجة كل منظمة أو لجنة إلى إثبات جدارتها، ويتيح لها الفرصة لكي تنمو وتتطور وتتقدم إلى قيادة الجماهير، إن كانت أهلاً لذلك فعلاً، وليس من خلال ادعائها عن نفسها. إن هذه المنافسة تخدم كل منظمة وتفسح لها مجال النمو، أو التضاؤل، بطريقة عادلة حقة.
إن هذه المنافسة الشريفة تتيح للجماهير أن تحكم بموجب الوقائع، لا بموجب البيانات والادعاءات، على كل تنظيم، وعلى كل قيادة وكل فرد في الثورة.
إن معالجة التناقض بين المنظمات وفي داخل الثورة على هذا الأساس يحقق هدفين:
أولاً: قيام وحدة وطنية متماسكة فعّالة، لا تمزقها الصراعات الداخلية الضيقة.
ثانياً: إعطاء فرصة عادلة لكل تنظيم وكل قيادة وكادر ليتبارى مع الآخرين، وإثبات جدارته على أرض الواقع.
إن القبول بهذا الأسلوب لحلّ التناقضات بين المنظمات داخل الوحدة الوطنية، لا يجعل موضوع من يقود الوحدة الوطنية، ومن يقود الجماهير، ومن هو الكادر القيادي في الثورة، موضوعاً مطروحاً للنقاش وتقديم الحجج والنظريات، ولا يتحول إلى وقفٍ على بعض القوى. وإنما تكون القيادة الفعلية للتنظيم الطليعي الذي يقدم تضحيات أكبر، وسياسة أصح، والتصاقاً أشدّ بالجماهير، وتصميماً أكبر على مواصلة الثورة واجتياز كل العقبات(1).
ب - الوحدة الوطنية في حرب الشعب بين القوانين العامة والقوانين الخاصة
من القوانين العامة لحرب الشعب في البلدان المتخلفة، كبلدان آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، القانون الذي يحتّم تشكيل وحدة وطنية شاملة، من أجل شنّ كفاح مسلّح ناجح ضدّ عدو إمبريالي متفوق في التكنيك والسلاح وقد أكد هذا القانون تجارب الصين وفيتنام وكوريا وألبانيا، إلى جانب تجارب المقاومة المسلّحة للشعب الأوروبية ضدّ الاحتلال النازي. أما الأسباب التي تفرض تشكيل هذه الوحدة الوطنية الشاملة فترجع إلى ما يلي:
أولاً: في الحروب التحررية التي تخوضها الشعوب ضدّ عدو أجنبي محتل متفوق بالتكنيك والسلاح، لا تستطيع تلك الشعوب أن تخوض حرب تحرير ناجحة إلا إذا جمعت كل قواها وطاقاتها وأنظمتها وأحسنت استخدامها من أجل إزالة الهوّة بين ضعفها وتفوق العدو.
ثانياً: تتشكّل الوحدة الوطنية من كل القوى السياسية والاجتماعية ذات المصلحة في التحرر والقضاء على الاحتلال؛ لذلك تأخذ الوحدة الوطنية شكل تحالف بين كل طبقات الأمة التي لها مصلحة في القضاء على الاحتلال الأجنبي.
ثالثاً: لا بدّ من وجود قوة قائدة لهذه الوحدة الوطنية، تكون بمثابة العمود الفقري للجبهة، وتلعب دور الطليعة التي تتجمع حولها كل القوى الوطنية الأخرى، وتسير تحت قيادتها المباشرة الفعّالة. ولا بدّ من أن تتوفر في هذه القوة القائدة عدة شروط أهمها:
أ – أن تكون هذه القوة القائدة الطليعية، التي هي العمود الفقري للوحدة الوطنية، تمثل أكثر طبقات المجتمع ثورية وحسماً في الكفاح ضدّ العدو الإمبريالي المحتل.
ب – أن تمتلك التنظيم الطليعي الذي يتميز بالصلابة الحديدية، والتصميم بلا هوادة، وبالمقدرة على تنظيم كل قوى الشعب وتعبئتها حوله، ويكون بؤرة تجمع أفضل عناصر الشعب وأكثرها إخلاصاً ووعياً وصلابة وشجاعة.
ج – أن يكون بمقدور قيادة هذا التنظيم رسم الاستراتيجية والتكتيك السياسيين والعسكريين لحرب الشعب من خلال المعرفة العلمية للظروف الموضوعية والخاصة لكل بلد، إلى جانب الحزم في تطبيق الخطين السياسي والعسكري الصحيحين في كل مرحلة، وفي كل لحظة، من مراحل ولحظات حرب الشعب.
د – أن تمتلك أكبر قاعدة تأييد جماهيرية، بحيث تكون الجماهير قد التفت حولها واقتنعت بأنها أكثر القوى الثورية في الجبهة قدرة على قيادة الثورة إلى النجاح، وأكثرها تعبيراً عن آمال الجماهير ومصالحها الحقيقية.
هـ - يجب على تنظيم الطليعة أن يكون وحدة لا تقبل الانقسامات والتجنحات ويمتلك الإرادة الواحدة، ويطبق المركزية الديمقراطية، ويكون جزءاً من الجماهير، ويضمّ بين صفوفه خيرة عناصر الشعب.. إلخ.
هذه كلها بعض القوانين العامة في حرب الشعب، التي تناولت موضوع الوحدة الوطنية، والتنظيم الطليعي القائد.
ولكن ترجمة هذه القوانين العامة في التطبيق العملي، وفي مجال النظرية في كل بلد لا يمكن أن تكون نفسها في كل الحالات، وخصوصاً من ناحية الشكل، لأن لكل بلد ظروفه الموضوعية الخاصة، كما أن الوضع الدولي يختلف كلياً من سنة إلى أخرى. كما أن طبيعة العدو الإمبريالي تختلف تبعاً لنوع المرحلة التي وصلتها الإمبريالية في تطورها، إلى جانب نوع الجيش الإمبريالي، وما توصل إليه من تقدم تكنيكي ومادي، الأمر الذي يترك بصماته على حرب الشعب وتنظيماتها وأطرها في هذا البلد أو ذاك وفي هذه الفترة التاريخية أو تلك، في هذه الظروف العالمية أو تلك.
على أن تحديد الظروف الموضوعية الخاصة في كل بلد، رغم تأثرها المباشر بالظروف الدولية المحيطة مباشرة بها، وفي الظروف العالمية، في كل فترة تاريخية معينة، يظلّ القضية المركزية المحورية الأولى التي تقرّر صحة استراتيجية الثورة وتكتيكها، وكذلك تنظيماتها وأطرها في ذلك البلد.
إن تحديد الظروف الموضوعية الخاصة، في كل بلد، يؤدي إلى اكتشاف القوانين الخاصة لحرب الشعب في ذلك البلد، واكتشاف هذه القوانين الخاصة هو الذي يحدد الشكل والمحتوى اللذين تعبر القوانين العامة – من خلالهما – عن نفسها في مجالي النظرية والتطبيق في ذلك البلد.
وهنا لا بدّ من أن ينشأ تناقض في داخل الثورة حول القوانين العامة والقوانين الخاصة (لذلك البلد)، يتخذ شكل صراعٍ إيديولوجيٍّ يتزعم أحد طرفيه فريق يريد تطبيق القوانين العامة بحرفيتها على الثورة، ويرفض كل صيغة نظرية وتطبيقية جديدة تعبر عن القوانين الخاصة في ثورة ذلك البلد، بينما يتزعم الطرف الآخر فريق يتجاهل القوانين العامة، ويحصر نفسه في محاولة استنتاج القوانين الخاصة لثورة ذلك البلد.
عندما ينشأ تناقض على هذا الشكل يصعب حله بترجيح أحد النقيضين، لأن كلا الاتجاهين يعبر عن حقيقة صحيحة بالنسبة إلى الثورة، وهي ضرورة الاستنارة بالقوانين العامة وضرورة اكتشاف القوانين الخاصة، ولكن كلا الطرفين يعبّر عن خطأ وانحراف حين يهمل أحد جانبي تلك القوانين؛ لأنه بالقدر الذي يجب أن نصرّ فيه على ضرورة اكتشاف القوانين الخاصة لحربنا الشعبية، بنفس هذا القدر يجب أن نواظب على دراسة تجارب الحروب الشعبية التحررية للشعوب الأخرى، أي معرفة القوانين العامة.
إن معرفة القوانين العامة لحرب الشعب، بما فيها القوانين العامة لبناء الوحدة الوطنية في حرب الشعب، لا تؤدي وحدها إلى تحقيق النجاح في قيادة حرب الشعب في بلادنا، وهذا ينطبق أيضاً على كل شعب، لأن القوانين العامة وحدها ليست هي الشيء الحاسم في قيادة حرب الشعب قيادة صحيحة من ناحية الاستراتيجية والتكتيك العسكريين. بل إن اكتشاف الظروف الخاصة، في كل بلد، ولكل حرب شعب (القوانين الخاصة) هي الشيء الحاسم الذي يقرّر منذ أول المطاف حتى نهاية نجاح أو فشل تجربة حرب الشعب في هذا البلد أو ذاك. ولكن هذه القوانين الخاصة لن تؤدي ذلك الدور إلا إذا كانت تعبيراً خلاقاً عن القوانين العامة وليس إلغاء أو تجاهلاً لها؛ لأن معرفة القوانين العامة المستنبطة من تجارب عدة شعوب ذات دور حاسم لتجنيب أي حرب شعب، في أي بلد، الوقوع في أخطاء أولية، كما تجنب الثورة المسلّحة إهمال قضايا هامة ذات أثر حاسم في نجاح حرب الشعب، ويمكنها أن تكون دليلاً للعمل، وضوءاً يكشف ظلمات الطريق.
وهنا علينا أن نلاحظ ما يلي:
أولاً: إن تطبيق القوانين العامة للثورة في بلد ما، بمعزل عن اكتشاف القوانين الخاصة، في ذلك البلد، يؤدي إلى فشل الثورة، لأن هذا يعني أن الواقع الموضوعي في ذلك البلد سيكون في وادٍ، بينما تكون الثورة في وادٍ آخر. الأمر الذي يحكم على الثورة بالعزلة عن الجماهير والواقع، والتخبط في رسم الخطين السياسي والعسكري المناسبين لكل مرحلة من مراحل حرب الشعب.
ثانياً: إن عدم استيعاب القوانين العامة وفهمها، والتقوقع في حدود محاولة اكتشاف القوانين الخاصة في بلد ما، يؤدي أيضاً إلى فشل الثورة، لأن هذا يعني أن الثورة فقدت الرؤية الواضحة لحركة المجتمع والتاريخ، وأصبحت عرضة للوقوع بأخطاءٍ فادحةٍ بسبب جعلها للقوانين العامة. فضلاً عن أن من الصعب اكتشاف القوانين الخاصة اكتشافاً معمقاً وكاملاً، إذا لم تكن القوانين العامة حاضرة في التحليل والاستنتاج لتلعب دور الدليل للعمل رغم أن ثمة في المقابل كثيراً من الذين استمسكوا بالقوانين العامة تحولوا إلى دوغمائيين وانعزلوا عن الواقع الحي، بدلاً من أن يساعدهم ذلك على أن ينفذوا إلى أعماق الواقع ببصيرة ثاقبة خلاقة كما فعل لينين وماوتسي تونغ وهوشي منه وكيم إيل سونغ مثلاً.
ثالثاً: لا يوجد هنالك، في الواقع، أي تناقض بين القوانين العامة والقوانين الخاصة لحرب الشعب، لأن القانون العام، موضوعياً، متضمن في القانون الخاص. كما أن القانون الخاص، موضوعياً، متضمن في القانون العام، فإذا ما تبيّن أن هنالك تناقضاً جوهرياً بين فرضية القانون الخاص والقانون العام، فهو أحد أمرين: إما أن تكون فرضية القانون الخاص خاطئة، أي ليست قانوناً، وإما أن يكون القانون العام ليس عاماً، فيكفي أن تثبت في التطبيق، صحة فرضية قانون خاص شذّ عن القانون العام حتى يصبح من الضروري إعادة النظر في القانون العام، لإعادة صياغته بشكل يستطيع أن يحتوي فرضية القانون الخاص التي أصبحت قانوناً علمياً بعد أن ثبتت صحتها في التطبيق.
لذلك، يجب أن تعطى الأولية هنا للقانون الخاص. فحين نصادف، حالة معينة، أكثر فردية من الحالات التي استنبط منها القانون العام، علينا أن نخضع القانون العام للحالة الخاصة، لا أن نخضع الحالة الخاصة للقانون العام. وعلى كل حال يبقى القول الفصل، في حالة نشوء تناقض بين القانون العام والقانون الخاص، للتطبيق العملي، وليس للمناقشات النظرية ولا للجدل المنطقي أو القناعات الذاتية؛ لأن نجاح فرضية قانون خاص في التطبيق، وافتراقها عن القانون العام الذي هو حصيلة تجارب خاصة عديدة أو قوانين خاصة عديدة، ووصولها إلى نفس النجاح، ونفس النتائج التي وصلت إليها التجارب الخاصة الأخرى، يقتضي إعادة النظر في القانون العام. أما في حالة فشل تجربة فرضية القانون الخاص التي افترقت عن القانون العام، فهذا يقتضي إعادة تقويم التجربة الخاصة من جديد، والعودة إلى الاهتداء، أكثر، بالقانون العام، دون أن يقلل، ولو للحظة واحدة، من شأن إعادة اكتشاف القانون الخاص من جديد، لتلك الحالة بوصفه للقضية المحورية الأولى التي لا غنى عنها لنجاح الثورة.
والآن، إذا عدنا إلى القانون العام المتعلق بضرورة تشكيل وحدة وطنية شاملة نجده ساري المفعول في حروب الشعب الناجحة التي خاضتها الصين والفيتنام وألبانيا وكوريا وكوبا وسائر الشعوب الأخرى، وكذلك بالنسبة إلى ثورة الجزائر وثورتنا الفلسطينية. ولكن إذ نلاحظ أن تشكيل وحدة وطنية شاملة كان قانوناً عاماً لكل هذه الثورات، علينا أن نلاحظ، في الوقت نفسه، الشكل والمحتوى اللذين اتخذتهما الوحدة الوطنية في كل ثورة من هذه الثورات. وهنا نجد القوانين الخاصة في كل بلد، تلك القوانين التي حكمت تركيبة الوحدة الوطنية من الداخل بما في ذلك قوتها القائدة الطليعية. إن الشيء العام المشترك هو أن كل بلد من هذه البلدان دخلت، في أثناء حربها التحررية، ضمن حتمية القانون العام القاضي بتشكيل وحدة وطنية شاملة من أجل شنّ الكفاح المسلّح لتحرير أوطانها من عدو إمبريالي محتل. بيد أنها اختلفت إلى هذا الحدّ أو ذاك من ناحية الطبقات التي شاركت في حرب التحرير، ومدى مشاركة وفعالية كل طبقة، ونوعية وشكل ودور الممثل السياسي لكل طبقة في تلك الحروب الشعبية، إلى جانب الاختلاف في شكل العلاقة التنظيمية التي قامت بين مختلف القوى السياسية ضمن الوحدة الوطنية.
ويمكن أن نستنتج بهذا الخصوص ما يلي:
أ – كل تلك التجارب شنّت حربها التحررية ضمن إطار وحدة وطنية شاملة.
ب – كانت للوحدة الوطنية في كل تلك التجارب قوة طليعية لعبت دور القائد والطليعة والعمود الفقري.
ج – لم يكن شكل ومحتوى القوى القائدة الطليعية في تلك الوحدات الوطنية واحداً، لأننا نرى تلك القوة القائدة الطليعية هي ذاتها في تجارب الصين وفيتنام وكوريا وألبانيا، بينما نرى شكل ومحتوى القوة القائدة مختلفاً عنها في تجارب الجزائر وكوبا وبعض الدول الإفريقية، وفلسطين. على أننا نستطيع تفسير هذه الظاهرة بوضع القانون العام فيما يتعلق بهذه النقطة كما يلي:
1 – يمكن أن تتعدد أشكال ومحتويات القوة القائدة الطليعية في حروب التحرير الوطنية، إذا كانت موجهة ضدّ الاستعمار القديم أو الرجعية الداخلية.
2 – إذا كان المثال الفيتنامي والصيني والكوري والألباني يستطيع أن يلعب دور القوة القائدة الطليعية في حروب التحرير الوطنية ضدّ الاستعمار القديم أو الرجعية الداخلية، إلا أنه أثبت جدارته أيضاً ضدّ الإمبريالية الجديدة، وعلى التحديد الإمبريالية الأميركية، في حين لم يثبت أي مثال آخر جدارته في تحقيق التحرر ضدّ الإمبريالية الأميركية بالذات. وهنالك أمثلة عديدة لتنظيماتٍ قائدةٍ استطاعت مصارعة الاستعمار القديم، ولكنها انهارت أمام التحدي الإمبريالي الأميركي، فيما بعد، كما حدث في غانا (نيكروما) وأندونيسيا (سوكارنو) وغيرهما. بينما رأينا في مثال كوبا أن التنظيم القائد المختلف عن المثال الفيتنامي والصيني قد نجح في الصراع ضدّ الدكتاتورية الداخلية. ولكنه تحوّل إلى المثال الفيتنامي عند مواجهة التحدي الإمبريالي الأميركي، وقد أثبت هذا التحول جدارته في الانتصار على ذلك التحدي.
إن كل هذا يقودنا إلى استنتاج أن النجاح في الصراع ضدّ الإمبريالية الأميركية يتطلب تنظيماً قائداً طليعياً شبيهاً بالمثال الصيني والفيتنامي والكوري والألباني، ولنقل إن كل التجارب تشير إلى صحة هذا القانون حتى الآن على الأقل.
ولعل مثال تشيكوسلوفاكيا وبعض دول أوروبا الشرقية الأخرى قد أثبت أنه حتى مثال الحزب الشيوعي في عهد التحدي الإمبريالي لا يستطيع الانتصار وحماية النظام الاشتراكي والمحافظة على استقلاله، إذا ما تراخت فيه ثوريته، وصلابته، والتصاقه بالجماهير، وقضيته الثورية، أي إذا ابتعد عن المثال الفيتنامي والصيني والكوري والألباني، أي المثال البلشفي اللينيني المطور بالتجربة الصينية.
د – إن قانوناً عاماً آخر حكم كل تجارب ثورات التحرر، ضدّ الاستعمار القديم أو الإمبريالية الأميركية، هو أن القوات المسلّحة كانت دائماً، تحت قيادة عسكرية وسياسية واحدة، ولم تكن تحت قيادة متحدة فوقياً، أي بمعنى لم يكن كل تنظيم سياسي وعسكري داخل الوحدة الوطنية يحتفظ بقواته المسلّحة المستقلة واستراتيجيته وتكتيكه السياسي المستقل كما هو حادث عندنا، في الثورة الفلسطينية.
وهنا علينا أن نلاحظ ما يلي:
1 – إن ظاهرة تعدد قيادات القوات المسلّحة في الثورة الفلسطينية وعدم وحدة القوات المسلّحة من القمة إلى القاعدة، ظاهرة تناقض القانون العام لكل حروب الشعب. ولهذا، كان لا بدّ لنا من مراقبتها بدقة أكبر، لأن إمكان نجاحها في التجربة، سيعني إعادة النظر في صياغة القانون العام، ولكن تجربتنا سواء أكانت في مجال العمل العسكري ضدّ العدو الصهيوني، أو في مواجهة مؤامرات القوى المضادّة، وخصوصاً، تجربة حزيران في الأردن أثبتت أن القانون العام هو الصحيح، وعلينا إعادة النظر في هذه الظاهرة بأسرع ما يمكن، لئلا تقودنا إلى كارثة حقيقية. وهذا يتطلب تحقيقاً فورياً لوحدة القوات المسلّحة تحت قيادة واحدة.
2 – إن القانون العام الذي حكم مختلف تجارب حروب الشعب، هو أن الوحدة الوطنية كانت تنهج، في تلك التجارب، خطّاً سياسياً وعسكرياً واحداً، وليس عدة خطوط سياسية وعسكرية متنافرة متناقضة، استراتيجياً وتكتيكياً، رغم أن القوى السياسية التي انخرطت في الجبهات الوطنية في تلك التجارب كانت ذات انتماءات سياسية متباينة، ومنتمية لمختلف الطبقات الاجتماعية المتناقضة، ومع ذلك، لم يكن من المسموح به مطلقاً أن يكون للجبهة الوطنية، أو الوحدة الوطنية أكثر من خطٍّ سياسيٍّ وعسكري واحد. فقد كان على كل القوى المنتمية إلى الوحدة الوطنية أن ترفع شعارات سياسية واحدة وتتبنّى برنامج الحدّ الأدنى، وتطبق خطّاً سياسياً وعسكرياً واحداً على المستويين الاستراتيجي والتكتيكي.
وهنا أيضاً نجد أن تجربتنا في الثورة الفلسطينية تتناقض مع القانون العام في هذه النقطة أيضاً، فلا تتقيد المنظمات الفدائية عندنا بخط سياسي وعسكري واحد، وإنما لكل منظمة شعاراتها السياسية وخطّها السياسي والعسكري المستقل الخاص بها. ليس هذا فحسب وإنما أيضاً، تنزل به إلى التطبيق العملي وبنادقها بأيديها. وهذا بدوره أدّى إلى مخاطر عدة، وربما أدى مستقبلاً إلى كوارث حقيقية. وقد أكدت صحة هذا الاستنتاج تجارب المؤامرات في الأردن، وخصوصاً، تجربتنا 20 – 2 و9 – 8 عام 1970.
إن إحدى الضمانات الرئيسية التي ستلعب دوراً حاسماً في تطوير الثورة وحمايتها ومن ثم انتصارها، هي وجود خطّ سياسي وعسكري صحيح، استراتيجياً وتكتيكياً، تتبناه الوحدة الوطنية، وتطبقه وتلتزم به كل منظمات الثورة الفلسطينية في القمة إلى القاعدة. أما وجود عدة خطوط سياسية وعسكرية وعدة شعارات سياسية، في لحظة واحدة، وتحت ظروف واحدة، وموضوع واحد، وفي الوقت نفسه، فهذا يعني وجود أكثر من خطٍّ خاطىءٍ. فمن غير الممكن أن يكون ثمة أكثر من خطٍّ واحدٍ صحيحٍ في معالجة مسألة في ظرف معين، وفترة زمنية معينة، ووقت واحد. إن وجود الخطوط السياسية والعسكرية الخاطئة، وتضارب الشعارات، يعرض الثورة حتماً إلى أخطار فادحة، أو على الأصح قد يعرضها لكارثة أو كوارث حقيقية، إذا لم يجرِ تلافي تلك الأخطاء بأسرع ما يمكن.
لو أخذنا تجربتي الصين وفيتنام نجد أن الوحدة الوطنية تشكلت تحت قيادة سياسية وعسكرية واحدة. وكانت القوات المسلّحة تأتمر بأوامر هيئة أركان واحدة، وهي هيئة أركان جيش الشعب الواحد أو نواة جيش الشعب الواحد. وكذلك سنجد أن الوحدة الوطنية في هاتين التجربتين كانت تتبنّى خطّاً سياسياً واحداً، ولم يسمح مطلقاً بتعدد الخطوط السياسية والعسكرية، لا استراتيجياً ولا تكتيكياً، في أثناء حرب التحرير. أما كون الجبهات الوطنية في هاتين التجربتين قد ضمّت عدة طبقات اجتماعية، وكذلك عدة أحزاب وهيئات وتنظيمات واتحادات ونقابات وشخصيات، ممثلة لتلك الطبقات، فإنه لم يكن يعني السماح بتعدد الشعارات، والخطوط السياسية والعسكرية. وكان الحزب القائد يصرّ على إقامة الوحدة الوطنية العريضة، وحصر مجال المنافسة والتباري بين كل تلك القوى في تطبيق الخطّ السياسي والعسكري الواحد للجبهة المتحدة.. أي فيمن يقدم تضحيات أكبر، ويكون أكثر إخلاصاً ووعياً، وأعمق تجربة، وأشدّ التصاقاً بالجماهير في تطبيق ذلك الخطّ السياسي والعسكري الواحد استراتيجياً وتكتيكياً. وقد شنّت نضالات حازمة ضدّ أي خطّ خارج على الخطّ الثوري الصحيح، وخصوصاً، الهجوم على الخطّ الاستسلامي والمتراجع أو الخطّ المغامر.
إن الحالة في الساحة الفلسطينية هي أقرب إلى الحالة التي تحكم البلدان الرأسمالية الأوروبية التي تتصارع فيها الأحزاب على مقاعد البرلمان، فتقوم الائتلافات فيما بينها، بينما تظلّ كل قوة سياسية في حالةٍ استقلاليةٍ كاملةٍ، سواء أكانت في خطّها السياسي أو في نشاطها العملي. أما تطبيق هذه الحالة على حرب شعب مسلّح، لبلد متخلف، فسوف يؤدي، بلا جدال، إلى أخطاء مميتة، وعواقب وخيمة على مصير الثورة والجماهير والقوى الوطنية والثورية ذاتها.
وهكذا نجد، هنا أيضاً، أن التجربة الخاصة للوحدة الوطنية في الثورة الفلسطينية، في هذا المجال، متناقضة مع القانون العام، ولكن دون أن تثبت صحتها(1)، بل على العكس ذرت قرون فشلها بوضوح، بينما بقي القانون العام في هذا المجال، صحيحاً. ولهذا أصبح من الضروري الآن، إعادة النظر فوراً، في هذا الوضع أيضاً، بحيث تحدد الوحدة الوطنية الفلسطينية، استراتيجياً وتكتيكاً واحداً، عسكرياً وسياسياً تطبقهما وتلتزم بهما كل منظمات الثورة الفلسطينية، قاعدة وكوادر وقيادات.
هـ - وكذلك يمكن أن نجد تناقضاً بين القانون العام والقانون الخاص للثورة الفلسطينية فيما يتعلق بتركيبة القوة القائدة الطليعية للوحدة الوطنية في ثورتنا، بحيث نرى ثمة نقاطاً في هذه القوة القائدة تندرج تحت القانون العام فيما يتعلق بالشروط الواجب توفرها في القوة القائدة الطليعية، بينما نجد نقاطاً أخرى تناقض القانون العام في هذا المجال.
لقد ثبت من تجربتنا أن القوة القائدة في الوحدة الوطنية عندنا تنسجم مع القانون العام فيما يلي:
أولاً: تحديدها الصحيح للتناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية، وإدراكها لطبيعة التناقض الرئيسي وطريقة حله.
ثانياً: طرح الشعارات السياسية المناسبة للظروف الموضوعية الخاصة في بلادنا.
ثالثاً: امتلاكها أكبر قاعدة جماهيرية، والتفاف الجماهير حولها، بقوة.
رابعاً: وجود عدد كبير من خيرة عناصر الشعب الفلسطيني، وخصوصاً، جماهير اللاجئين المسحوقين بين صفوفها.
خامساً: امتلاكها أوسع تجربة في مجال الكفاح المسلّح من بين منظمات الثورة الفلسطينية.
أما النقاط التي تتناقض فيها القوة القائدة عندنا مع القانون العام، فهي:
أولاً: فيما يتعلق بالتنظيم وحديديته ووحدته ومقدرته على استيعاب كل قوى الشعب وتعبئتها وتنظيمها، وعدم إرساء تقاليد في العمل التنظيمي الثوري، وطريقة اختيار الكوادر ومحاسبتها في المجالين السياسي والعسكري.
ثانياً: التسيّب في تطبيق المركزية الديمقراطية وعدم التشدد في تحقيق الإرادة الواحدة في التفكير والعمل وعدم الحزم في مقاومة التجنحات والتكتلات.. إلخ.
ثالثاً: عدم الحزم في تطبيق الخطين السياسي والعسكري الصحيحين، في كل مرحلة، وفي كل لحظة من مراحل ولحظات حرب الشعب، والتساهل مع الخطوط السياسية والعسكرية الخاطئة، سواء أكان بالنسبة إلى الوحدة الوطنية أو في داخل تنظيم الطليعة نفسه.
رابعاً: عدم تطبيق القواعد العشر في التنظيم(1) تطبيقاً حازماً، وخصوصاً مبدأ النقد والنقد الذاتي، ومبدأ تشريب التنظيم بروح المهاجمة والمبادرة وسرعة الحركة والتعبير عن مصالح الجماهير المسحوقة.. إلخ.
وهنا أيضاً، نجد أن تجربة حرب الشعب في بلادنا، أخذت تؤكد ضرورة إعادة النظر في النقاط المتناقضة مع القانون العام في مجال التنظيم القائد الطليعي. على الرغم من أن مثل هذه النقاط قد تناقضت مع القانون العام في تجربة الجزائر وتجارب بعض الدول الأفريقية، إلا أن علينا أن نلاحظ، ونحن ندرس تلك التجارب أنها تجارب كفاح مسلّح شنّ ضدّ الاستعمار القديم المتهاوي، وليس ضدّ الإمبريالية الأميركية؛ لأن الضغط الذي تضعه الإمبريالية الأميركية لكبت حركات التحرير الوطنية ضغط مرتفع جداً لا يمكن أن يقاس معه الصراع ضدّ الاستعمار القديم الفرنسي أو البرتغالي أو الهولندي والبريطاني. وهو لذلك بحاجة إلى مستوىً عالٍ جداً من التنظيم الثوري والتعبئة الثورية ليصبح في مستوى مواجهة هذا القدر العالي من الضغط المعادي. ولنتذكر هنا أن ثورتنا الفلسطينية تواجه العدو الصهيوني الذي يحمل كل سمات الإمبريالية الأميركية، في هذا المجال، فضلاً عن تحالفه العضوي مع الإمبريالية الأميركية التي ستدخل المعركة مباشرة إلى جانبه ضدّنا، إن عاجلاً أو آجلاً.
وقبل الانتهاء من موضوع حلّ التناقض بين القانون العام والخاص في الوحدة الوطنية لا بدّ من لفت النظر إلى أن الحديث عن إعادة النظر بفرضيات القوانين الخاصة لتجربتنا في بعض مجالاتها، لا يعني أن ننسخ القوانين العامة نسخاً شكلياً ونجعل منها قلباً جامداً نصبّ تجربتنا فيه، بل على العكس يجب أن نؤكد ضرورة اكتشاف القوانين الخاصة بتجربتنا؛ لأن هذا يعني التطبيق الخلاق للقوانين العامة على تجربة ذات فردية خاصة، بحيث نغني تجربتنا بتلك القوانين، ونغني تلك القوانين بتجربتنا الخاصة.
3 – التناقض بين الثورة الفلسطينية والأنظمة العربية الرجعية المتحالفة مع الإمبريالية
ثمة تناقض بين الكيان الصهيوني بما يحمله من أطماع توسعية في الوطن العربي، والأنظمة العربية الرجعية المتحالفة مع الإمبريالية العالمية. ولكن هذا التناقض ليس عدائياً رغم أن الكيان الصهيوني أساساً، يشكل تناقضاً عدائياً ضدّ الأمة العربية بمختلف طبقاتها الاجتماعية وأقطارها. والسبب في اختزال طبيعته العدوانية بالنسبة إلى الرجعية العربية راجع لارتباط تلك الرجعية بالإمبريالية العالمية وإذعانها لها من جهة، ولأن حلّ ذلك التناقض مع الكيان الصهيوني يتضمن إطلاق حركة الجماهير الثورية العربية الأمر الذي يخيف الرجعية العربية ويجعلها تؤثر تحويل تناقضها مع العدو الصهيوني إلى تناقضٍ ثانويٍّ، وخصوصاً لتفوق الكيان الصهيوني عليها بالتكنيك والقوة العسكرية، من جهة ثانية. أما من جهة ثالثة فلأن النضال المسلّح ضدّ الكيان الصهيوني يتضمن الدخول في معركة مع الإمبريالية العالمية، وهذا يتناقض مع تحالف الرجعية العربية مع الإمبريالية العالمية. ولهذا تؤثر الرجعية العربية أن تلعب دور القوى المضادّة للثورة وترى تناقضها مع الثورة الفلسطينية أحدّ وأعمق من تناقضها مع العدو الصهيوني.
على أن من الضروري ملاحظة ما يلي:
أولاً: التفريق بين تناقض الثورة الفلسطينية مع الرجعية العربية المتاخمة لخطوط المواجهة مع العدو، وتناقض الثورة الفلسطينية مع الرجعية العربية في أطراف الوطن العربي. وذلك للأسباب التالية:
أ – الأنظمة الرجعية البعيدة عن خطّ النار تؤثر ألا تدخل في صراع مكشوف مع الثورة الفلسطينية، بل تحاول تملقها وتقديم بعض التسهيلات الشكلية لها من أجل كسب الرأي العام في بلادها، الذي يعطف بقوة على الثورة الفلسطينية والقضية الفلسطينية، وخصوصاً لأن الثورة الفلسطينية لا تشكل خطراً مباشراً على وجودها الآتي.
ب – ولكن تلك الأنظمة الرجعية تدرك مصلحتها، وتدرك أن تطور الحركة الثورية الجماهيرية – حرب الشعب – ستؤثر في وجودها وبقائها في المدى البعيد، فضلاً عن الضغط الإمبريالي عليها. لذلك فهي تشنّ حملات تضييق “مستوردة” وفي الخفاء على حركة الثورية الفلسطينية في بلادها، كما تدخل مع الرجعية العربية على خطّ النار بتحالفٍ غير معلنٍ في التآمر على الثورة الفلسطينية. كما حدث في كل المؤامرات التي وقعت ضدّ الثورة الفلسطينية في لبنان والأردن.
لذلك، نستطيع القول: إن تلك الرجعية تنهج سياسة ثنائية التركيب تجاه الثورة الفلسطينية، فمن ناحية تحاول تملقها والتظاهر بتأييدها. ومن ناحية تقاومها داخلياً، وتشترك في المؤامرات ضدّها عربياً ولكن بالسرّ قدر الإمكان. أما من ناحية الثورة الفلسطينية فعليها أيضاً أن تدرك طبيعة هذا التناقض مع تلك الأنظمة وتعمل على معالجته كما يلي:
أ – تحاول الإفادة من ضعف تلك الرجعية، أمام الرأي العام في بلادها، وتفيد من ذلك قدر المستطاع، وخصوصاً، في ظروف معينة، وعلى التحديد في المراحل الأولى من تطور الثورة، وعندما تكون الثورة العربية في تلك البلدان في أطوار النمو الأولى. على ألا يؤدي هذا إلى وضع الحَب في طاحونة تلك الرجعية ضدّ مصلحة الحركة الثورية في بلادها.
ب – يجب أن تحذر من تآمر تلك الأنظمة، وتدرك طبيعتها المعادية للثورة، وتضعها إلى جانب القوى المضادّة للثورة في حسابها للحظات الصراع الفاصلة.
ج – الحذر من تسللها إلى داخل صفوف الثورة – عبر عملائها في الساحة الفلسطينية، ورفض محاولاتها لتقسيم صفوف الثورة، وضغوطها لوقف تطور الثورة وإرجاعها إلى الخلف.
د – على الثورة الفلسطينية أن تتجنب انتهاج سياسة استفزازية ضدّها ولكن، في الوقت نفسه، عليها أن تحزم في وجه أي محاولة تآمر أو ضغط على الثورة الفلسطينية، من قبل تلك الأنظمة الرجعية. كما على الثورة الفلسطينية ألا تخشى الضغط المالي الذي يمكن أن تمارسه ضدّها، مدركة أن تلك الرجعية تخاف أيضاً من استعداء الثورة الفلسطينية. وبكلمة، إن التناقض بين الثورة الفلسطينية والرجعية العربية، بعيداً عن خطّ النار، هو من طراز التناقض الثانوي، السريع التغيّر والتحرك لأن له طبيعة الانتقال إلى طرف التناقض الرئيسي، والتحول إلى تناقضٍ عدائيٍّ في أية لحظة.
أما التناقض بين الثورة الفلسطينية والأنظمة الرجعية العربية المواجهة لخطّ النار مع العدو الصهيوني، فله طبيعة أخرى تختلف كمياً عن طبيعة ذلك التناقض مع الأنظمة الرجعية بعيداً عن خطّ النار وهنا علينا ملاحظة ما يلي:
أولاً: التناقض بين الرجعية العربية على خطّ النار (الأردن، لبنان) والكيان الصهيوني، أساساً، تناقض عدائي، أكثر منه في حالة الرجعية العربية البعيدة عن خطّ النار؛ وذلك لأن الخطر الصهيوني يتهدد وجود الرجعية العربية في هذه المناطق، بصورة مباشرة، وله أطماع في احتلال أراضيها، كما فعل في حزيران 1967 حين احتل نصف “المملكة الأردنية الهاشمية”، وما زال يخطط لاحتلال النصف الآخر فضلاً عن الجزء الجنوبي من لبنان، ولكن هذه الرجعية تحاول مهادنة العدو الصهيوني المتفوق عليها في التكنيك والقوات المسلّحة، وتحويل تناقضها معه إلى تناقضٍ ثانويٍّ للأسباب التالية:
أ – نظراً للصراع المسلّح الحادّ على خطوط المواجهة، ونظراً لقوة الحركة الثورية الجماهيرية، وتعاظم هذه القوة مع تصاعد الكفاح المسلّح ضدّ العدو الصهيوني، فإن هذه الرجعية تحاول تجميد تناقضها مع العدو الصهيوني، وتعمد إلى اعتبار تناقضها مع الجماهير والثورة التحررية هو التناقض الرئيسي بالنسبة إليها، وهو يشكل خطراً على حكمها ونهبها الاقتصادي للبلاد.
ب – يمارس العدو الصهيوني ضغوطاً متعددة الأشكال ضدّ هذه الرجعية، مستهدفاً استعداءها على الحركة الثورية والجماهير، وإرهابها حتى لمجرد عدم أخذها موقفاً عدائياً مكشوفاً ضدّ الثورة.
ج – تعتبر الإمبريالية العالمية أن هذه الرجعية هي مخلبها الضارب ضدّ الثورة الفلسطينية؛ لذلك تمارس الإمبريالية، وخصوصاً، الأميركية والبريطانية ضغوطاً قوية من أجل تخفيف تناقض هذه الرجعية مع الكيان الصهيوني، ومن أجل دفعها للاصطدام المسلّح ضدّ الثورة والجماهير.
إن الرجعية العربية المتخاذلة أمام العدو الصهيوني على خطّ المواجهة، تجد مصالحها بين السندان والمطرقة، أي أطماع العدو الصهيوني من جانب، وتطور الحركة الثورية ونهوض الجماهير من الجانب الآخر؛ لذلك فهي تجنح إلى تجميد تناقضها مع العدو الصهيوني وتسعير تناقضها مع الثورة والجماهير.
ومن هنا، التناقض بين الثورة الفلسطينية والرجعية العربية التي على خطوط النار، ذو طبيعة عدائية أساساً، ولكن يمكن أن يتحول إلى تناقضٍ ثانويٍّ، وفي ظروف معينة، كما حدث بعد حرب حزيران 1967، غير أنه سرعان ما يعود لطبيعته العدائية الأصيلة، كما كان قبل حزيران 1967، وكما تكشف مثلاً في مؤامرات شباط، وحزيران 1967 في الأردن(1).
على أن من الضروري معالجة هذا التناقض بصورة متحركة متغيّرة، وليس بصورة جامدة دوغمائية، بحيث يستفاد منه عندما يكون بالإمكان تحويله إلى تناقض ثانوي، تحت ظروفٍ معينةٍ، كما حدث بعد حرب حزيران 1967، وبحيث يقمع بالقوة المسلّحة في حالة تحوله إلى طرف التناقض الرئيسي العدائي. إلا أن من الضروري معالجة هذا التناقض مع الرجعية العربية على خطوط المواجهة بأسلوب ديناميكي متحرك، مناسب لظروف كل رجعية في كل بلد، وللمرحلة التي يمرّ فيها التناقض. ولتناسب ظروف الحركة الوطنية والثورة والجماهيرية في كل بلدٍ، مستخدمين الحكمة الثورية والحزم الثوري في آن واحد.
4 – التناقض بين الثورة الفلسطينية والأنظمة العربية المعادية للإمبريالية
ثمة مجموعة من التناقضات بين الثورة الفلسطينية، وهذا النظام أو ذاك من الأنظمة المعادية للإمبريالية. وهذا يرجع إلى الأسباب التالية:
أولاً: التجزئة في الوطن العربي، هذه التجزئة التي جعلت الحركة الوطنية والثورية في هذا البلد أو ذاك، تعيش تجارب مختلفة، وتنشأ في ظروف مختلفة بهذا القدر أو ذاك. وهذا بدوره حرم الحركة الوطنية والحركة الثورية من أن تنشأ نشأة واحدة، وتناضل على أرض موحدة، وفي أطرٍ تنظيميةٍ واحدةٍ. ليس هذا فحسب، وإنما ولّد فيما بينها أيضاً تناقضاتٍ تتراوح شدّة وحدّة من بلد لآخر.
ثانياً: تأثرت الحركة الوطنية والثورية بالوضع الطبقي في أقاليمها، ونقلت تناقضات الطبقات البرجوازية الوطنية والصغيرة في الأقطار العربية إلى علاقاتها فيما بينها في كثير من الأحيان.
ثالثاً: إن وجود التناقضات فيما بين الأنظمة العربية المعادية للإمبريالية وامتدادها، في بعض الأحيان، ووجود التناقضات بينها وبين الرجعية العربية، جعل كل واحدة منها تحاول وضع الثورة الفلسطينية إلى جانبها لتشاركها في صراعاتها مع الأنظمة الأخرى العربية المعادية للإمبريالية، أو الأنظمة الرجعية. وهذا بدوره نمّى اتجاهاً لاحتواء الثورة الفلسطينية ومحاولة ربطها بأحد الأنظمة العربية.
رابعاً: ثمة بعض الأنظمة العربية المعادية للإمبريالية التي قد وضعت نفسها في تناقضٍ مع الثورة الفلسطينية، فيما يتعلق بالموقف من حلّ 22 نوفمبر 1967 ومشروع روجرز.
خامساً: ثمة بعض الأنظمة العربية المعادية للإمبريالية، تشعر بأن الثورة الفلسطينية تشكل منافساً خطراً على زعامتها محلياً وعربياً.
طبعاً ثمة أسباب أخرى، وقد جئنا بهذه الأسباب على سبيل المثال لا الحصر.
إن هذا النوع من التناقضات بين الثورة الفلسطينية وهذا النظام أو ذاك من الأنظمة العربية المعادية للإمبريالية هو تناقض ثانوي، أساساً، لأن الصراع ضدّ العدو الصهيوني والإمبريالية في طرف التناقض الرئيسي، يقتضي تشكيل جبهة عربية وتحالف عربي شامل يضمّ كل القوى المعادية للإمبريالية والكيان الصهيوني، بما في ذلك، الأنظمة العربية المتحررة، والثورة الفلسطينية وسائر فصائل الثورة العربية في كل الأقطار العربية، ولهذا على الثورة الفلسطينية أن تعالج هذا التناقض الثانوي كما يلي:
أ – أن تصرّ الثورة الفلسطينية على رفض التدخل المباشر في شؤونها من قبل أي نظام من الأنظمة العربية التي قد تحاول التدخل أو فرض الوصاية، وذلك بالإصرار على استقلاليتها ورفض الاحتواء مهما كلف الثمن، وذلك من أجل ضمان مسيرة الثورة، وتأمين حرية الحركة لها في طول البلاد العربية وعرضها، لأن ارتباطها بهذا النظام أو ذاك سيؤدي إلى محاصرتها من قبل باقي الأنظمة، وإلى ربط مصير الثورة بمصير نظام معين.
ب – حلّ الخلافات عن طريق الحوار والمناقشة والنقد البنّاء، ولكن دون اتخاذ إجراءات عدائية ودفع الأمور إلى صدامٍ حادٍّ.
ج – إقامة أحسن العلاقات بين الثورة الفلسطينية والأنظمة المعادية للإمبريالية، على أساس لقاء الأنداد، ولقاء الأحرار بالأحرار، لا على أساس التبعية والاحتواء، وهذا ينطبق على علاقة الأنظمة العربية المتحررة فيما بينها؛ لأنه سيجنب كثيراً من المشاكل والتعقيدات، ويسهم في تمهيد الأرض لتشكيل جبهة عربية عريضة ضدّ الإمبريالية والكيان الصهيوني، ومن ثم توحيد الفصائل الطليعية للثورة العربية.
ولكن تبقى العقدة الخطرة في هذه التناقضات، سواء أكانت بالنسبة إلى الثورة الفلسطينية أو بالنسبة إلى مصير تشكيل الجبهة العربية العريضة ضدّ الإمبريالية والكيان الصهيوني، هي الموقف من مشروع روجرز وقرار 22 نوفمبر لعام 1967 التصفويين؛ لأن الموقف من هذه الحلول قد يؤدي، في حالة تطوره، إلى تحول ذلك التناقض الثانوي إلى تناقضٍ عدائيٍّ فيما بين القوى المعادية للإمبريالية نفسها في داخل الوطن العربي، وكذلك فيما بين الموافقين على تلك المشاريع والثورة الفلسطينية. وهذا ما يجب أن تبذل أقصى الجهود في سبيل الحيلولة دون حدوثه، من خلال النضال الحازم ضدّ مشروع روجرز والحلّ السياسي (قرار مجلس الأمن الرقم 242) 22 نوفمبر لعام 1967. أي من خلال إسقاط تلك المشاريع، والحلول الاستسلامية. إن وحدة الثورة العربية، ووحدة القوى المعادية للإمبريالية في الوطن العربي، لا يمكن أن تحقق إلا تحت راية الكفاح المسلّح ضدّ الإمبريالية العالمية والكيان الصهيوني.
يجب أن يشنّ نضال حازم من جانب كل الأطراف لإبقاء هذه التناقضات في مستوى التناقض الثانوي، والحيلولة دون تحولها إلى تناقض عدائي متطاحن. وهذا يتطلب حكمة ثورية وحزماً ثورياً من أجل معالجته بالأسلوب المناسب الصحيح.
5 – التناقضات بين صفوف الجماهير
ثمة تناقضات بين الجماهير غير التناقضات الطبقية، ناتجة عن: 1 – واقع التجزئة في الوطن العربي، 2 – وواقع تشرّد الشعب الفلسطيني بين عدة أقطار عربية، لمدى عشرين عاماً، 3 – وواقع السيطرة الإمبريالية، المباشرة أو غير المباشرة، لمدى عشرات السنين، 4 – وواقع الصراعات الطبقية داخل المجتمع، وخصوصاً من قبل العملاء والرجعية، 5 – التخلف السياسي والاجتماعي والاقتصادي قد ساعد على إيجاد تربة صالحة لنمو مثل هذه التناقضات.
لقد نتج عن كل ذلك مجموعة من التناقضات فيما بين الجماهير نفسها شملت حتى الطبقات الكادحة التي لا مصلحة لها في وجود مثل تلك التناقضات؛ فقد اتخذ بعض تلك التناقضات طابعاً إقليمياً كأن تقول هذا سوري وذاك عراقي، وهذا فلسطيني وذاك أردني.. إلخ، واتخذ بعضها طابعاً طائفياً، واتخذ بعضها الآخر طابعاً قومياً كأن تقول هذا عربي وذاك كردي، وذاك سوداني جنوبي وهذا بربري، واتخذ بعضها طابعاً سياسياً كأن تقول هذا جندي وذاك فدائي (في الأردن مثلاً).. إلخ.
إن كل هذه التناقضات هي نتاج الأسباب التي ذكرناها أعلاه، ويعود الفضل الأول الآن، في هذه المرحلة من تاريخ جماهيرنا، في إذكائها وتسعيرها إلى القوى الرجعية والاحتكارية والإمبريالية العالمية والصهيونية، وهي من أشدّ نقاط الضعف في جبهتنا لأنها سلاح خطر بيد القوى المضادّة تستغله لضرب الجماهير صاحبة القضية المصيرية الواحدة بالأخرى. ومن خلال هذا السلاح تحاول القوى المضادّة للثورة تحويل الصراع المستهدف حلّ التناقض الرئيسي إلى صراعٍ داخليٍّ وحرب أهلية فيما بين الجماهير الواحدة التي ترتبط مصلحتها الحقيقية في النضال من أجل حلّ التناقض الرئيسي لمصلحة الجماهير في الأقطار العربية.
إن القوى المضادّة للثورة في الأردن، الآن، تفعل المستحيل لشقّ الساحة الأردنية بين أردنيين وفلسطينيين، وإشعال نيران حرب أهلية، وهذا يعطينا الدليل على خطورة هذه التناقضات التي ضربت جذوراً عميقة في بعض الأحيان.
يبدو للوهلة الأولى أن حلّ هذه التناقضات مسألة سهلة. ويتوهم البعض، بكل سطحية، أنه يكفي شنّ نضال سياسي ضدّها لإذابتها. ولكن دلت التجربة، في الواقع، أن إذابة هذه التناقضات ليست بمثل تلك البساطة، وإن معالجتها تحتاج إلى قدرٍ كبيرٍ من الحكمة الثورية والمرونة الثورية، سواء أكانت في مجال العمل السياسي، وطريقة طرح الشعارات. ومخاطبة الجماهير، أو في مجال الممارسة العملية من جانب القوى الثورية، وخصوصاً الثورة الفلسطينية.
إن هذه القضية تحتاج إلى دراسةٍ علميةٍ معمقةٍ من قبل القوى الثورية في كل بلد عربي، ومن قبل الثورة الفلسطينية، لإيجاد الأسلوب الصحيح الذي تعالج فيه هذه التناقضات الثانوية التي هي، في بعض الأحيان، سريعة الاشتعال لتتحول إلى تناقضٍ عدائيٍّ حادٍّ؛ فمن الضروري انتهاج سياسة ثورية مرنة حكيمة لكسب أكثر فئات الجماهير تخلفاً سياسياً وانتزاعها من براثن الإقليمية أو العنصرية، وهذا يتطلب ما يلي:
أ – تجنّب إطلاق الشعارات الاستفزازية.
ب – تجنّب الممارسة الاستفزازية في معاملة الجماهير، ومراقبة المسلكية لدى كل عناصر الثورة، ومحاربة التيارات اليمينية والطفولية “اليسارية” لأنها تساعد على إذكاء تلك التناقضات عن طريق مباشر أو غير مباشر.
ج – إيجاد أساليب مبتكرة في النضال السياسي بين الجماهير المتخلفة سياسياً (أي الواقعة تحت تأثير القوى المضادّة إقليمياً أو طائفياً أو عنصرياً) من أجل كسبها إلى جانب الثورة، أي كسبها إلى جانب مصلحتها الحقيقية.
إن حلّ مثل هذه التناقضات الثانوية لا يتمّ بأسلوب العنف المسلّح من جانب القوى الثورية، وإنما من خلال قطع الطريق على كل محاولات القوى المضادّة الرامية إلى تسعيرها وإذكائها، والعمل على كسب أوسع الجماهير إلى صفوف الثورة وتوعيتها سياسياً وإشراكها في الدفاع عملياً عن قضيتها المقدسة: قضية تحرير فلسطين.
إن أسلوب معالجة هذه التناقضات الثانوية، في صفوف الجماهير، أمر على غاية كبرى من الأهمية من أجل المحافظة على الثورة وضمان انتصارها. إنه لا يكفي أن نعرف هذه التناقضات، أو نحدد موقفاً مبدئياً منها، بل الأهم أن نعرف كيف نعالجها، وننجح في إذابتها ونفيها. وهنا تأتي المسلكية، والخطّ السياسي الصحيح، والشعارات المناسبة الصحيحة، والعلاقات الودية والمرنة، لتلعب دوراً حاسماً في طريقة معالجة هذه التناقضات. فمثلاً لو كان حملي للسلاح ولبس بزّة الفدائي “يستفز” بعض الأوساط من الناس العاديين في بيروت أو عمان، فيجب علي أن أتجنب لبس البزّة الفدائية وحمل السلاح في بيروت أو عمان، حتى ولو لم يكن معهم حقّ في أن يستفزوا من بزّتي الفدائية ومن حملي السلاح. إذا كنت أريد حقاً أن أكسب الجماهير كل الجماهير، وأتخطى التناقضات الثانوية التي بين الجماهير.
كان ماوتسي تونغ يأمر الجيش الأحمر أن يخلع “بساطيره” عندما كان يمرّ من قلب بعض القرى، فيجعله يدخلها عاري الأقدام، لئلا يؤذي مشاعر الفلاحين ويخيفهم، ويذكرهم بجنود شان كاي تشيك.
إن هذا الدرس يجب أن نتأمله جيداً.

تناقضات من طراز آخر

ثمة أنواع من التناقض، في الحياة الاجتماعية، وحياة الأفراد والحركات والتنظيمات والأحزاب – بمختلف نشاطاتهم الفكرية والاجتماعية والسياسية.. إلخ، تتطلب أن يقام فيها تعايش بين النقيضين، في وقتٍ واحدٍ، ولمدىً طويلٍ من الزمان. على أن هذا التعايش يجب أن يأخذ شكل توازن ديالكتيكي فيما بين النقيضين وعندما نقول توازن ديالكتيكي لا نعني التوازن المتساوي أو المتكافئ بين الطرفين، ولا نعني توازناً ثابتاً حسب نسب محددة لا تتغيّر. وإنما نعني ضرورة إقامة توازن (تعايش) في وقتٍ واحدٍ بين النقيضين، على أن تكون طرق ذلك التعايش أو نسب التوازن متغيّرة متفاعلة، مع تغيّر الظروف المحيطة، والحالات التي يقام فيها ذلك التوازن بين نقيضين.
إن هذه الموضوعة لم يسبق أن نظّرت في موضوعات سمة التناقض في الديالكتيك. ولم تفرد لها دراسة خاصة وتضبط بقوانين محددة، رغم أنها طبقت في الممارسة الناجحة للقادة الثوريين، بصورة دائمة. كما أن كثيراً من الأفراد أو الجماعات طبقوها ويطبقونها بنجاح دون وعي نظري لها. وكل ما كتب حولها كان يدور حول كيفية معالجة ظاهرة جزئية محددة من خلال الجمع بين نقيضين في وقت واحد وإقامة التعايش والتوازن الديالكتيكي فيما بينهما، ولكنها لم تحظَ بتنظير علمي شامل، يضمها كقانون يضاف لقوانين سمة التناقض في الديالكتيك.
ويمكن ملاحظة هذه الفرضية من إيراد الأمثلة التالية:
1 – الحركة الثورية تتبنّى في تنظيمها تطبيق مبدأ المركزية الديمقراطية، فالمركزية والديمقراطية مسألتان مترابطتان، بيد أن في قلب كل منهما بذور تناقض مع الأخرى، فإذا كانت الديمقراطية تعطي لكل عضو في الحركة حقّ إبداء آرائه، ومناقشة القرارات، والمشاركة في اتخاذ القرارات، وانتخاب المراتب التنظيمية الأعلى ومحاسبتها، فإن المركزية تعني وحدة التنظيم ودفع الحركة بكل أفرادها، بلا استثناء، إلى العمل بعقلٍ واحدٍ، والالتزام بموقفٍ واحدٍ، أي تفرض خضوع الأقلية لقرار الأكثرية. وإذا كانت الديمقراطية تمنح اللجان الدنيا في التنظيم الثوري حقّ إبداء الآراء والاعتراض، والانتخاب ونقد اللجان الأعلى.. إلخ، فإن المركزية تفرض خضوع المنظمات الأدنى إلى المنظمات الأعلى في التنظيم الثوري.
على الرغم من وجود هذا التناقض بين المركزية والديمقراطية إلا أن من الانحراف والخطأ التضحية بإحداهما في سبيل الأخرى أو التحيز لإحداهما ضدّ الأخرى؛ لأنه إذا وجدت الديمقراطية في الحركة الثورية بدون المركزية تكرست الليبرالية وفقدت الحركة وحدتها الفكرية والتنظيمية وشلّت إرادتها الواحدة في التطبيق والممارسة، وإذا وجدت المركزية دون الديمقراطية تكرست البيروقراطية والاستبدادية والفردية، وتحول التنظيم الثوري إلى تنظيم أشبه بتنظيم عصابة اللصوص. وتحول كل عضوٍ إلى سنٍّ في دولاب.
لذا لا بدّ من الجمع بين هذين النقيضين، في وقت واحد، وبصورة حية ديناميكية خلاقة، وإقامة التوازن الديالكتيكي بينهما بصورة تناسب الظروف المحيطة وتطور التنظيم الثوري. فمثلاً في حالة وجود إرهاب شديد ضدّ التنظيم الثوري الذي يعمل بسرية كاملة (تحت الأرض) تكون نسبة المركزية إلى الديمقراطية في تطبيق الديمقراطية المركزية أكبر في ذلك التوازن مما تكون عليه تلك النسبة في حالة التنظيم الثوري الذي يعمل علنياً أو يكون قد وصل إلى الحكم.
إن أهمية إدراك هذه الفرضية تكمن في أنها تسلح الحركة الثورية بدليل للتطبيق العملي. ولعل السبب في أكثر المشاكل التي نشأت في التنظيمات الثورية كانت نتيجة للخطأ في إقامة التوازن الديالكتيكي الصحيح بين الديمقراطية والمركزية بما يناسب الظروف الموضوعية والظروف الذاتية للحركة الثورية، في كل مرحلة. مثال (أخطاء ستالين، وانحراف خطّ خروتشوف التنظيمي السائد حتى الآن في الاتحاد السوفياتي وبعض دول أوروبا الشرقية).
2 – يمكن أن نجري هذا التحليل السابق نفسه على مبدأ المبادرة في الحركة الثورية وتناقضها مع مبدأ الانضباط الثوري، حيث يجب أن يقام توازن ديالكتيكي في الجمع بين المبادرة (إطلاق مبادرات أعضاء الحركة ولجانها) وانضباط أعضاء الحركة ولجانها بخطّ الحركة وقراراتها.
3 – كذلك بالنسبة إلى الجمع بين العمل السرّي، والعمل العلني بالنسبة إلى كل حركة ثورية، حيث يجب أن يقام توازن ديالكتيكي في الجمع بين هذين النقيضين في وقت واحد، بما يناسب ظروف العمل الثوري.
طبعاً يمكن إيراد عشرات الأمثلة على هذه الفرضية العلمية فيما يتعلق بالجمع الديالكتيكي بين القوانين العامة والقوانين الخاصة، والنقد والنقد الذاتي (بين البناء والهدم)، وبين الاقتصاد بالنفقات والاستهلاك.. إلخ.
كما يمكن تطبيقها على الحياة العادية للأفراد، مثلاً تربية الطفل (الجمع الديالكتيكي بين الحنان والشدّة)، وعلى العلاقات الإنسانية الفردية – الصداقة (بين العطاء والأخذ).
ليس هذا هو مجال التوسع في هذه الفرضية لعلمية وإنما مررنا بها بسرعة، لكي ننبه إلى ما يلي:
أ – ثمة تناقضات تتطلب وقوفنا إلى جانب أحد النقيضين ضدّ الآخر، كحالة التناقض بين العمال والرأسمالية حين يجب تحديد موقف إلى جانب أحد هذين النقيضين لحلّهما، أو كحالة التناقض بين الشعوب المضطهدة والإمبريالية، حين يجب تحديد موقف إلى جانب أحد النقيضين في الصراع لحلّهما.
ب – ثمة تناقضات غير التي أعلاه (البند أ) لا تتطلب وقوفنا إلى جانب أحد النقيضين ضدّ الآخر لحلّ التناقض، وإنما تتطلب الجمع بين النقيضين بإقامة تعايش وتوازن ديالكتيكي فيما بينهما، في وقتٍ واحدٍ، وبمناسبة مع الظروف المعطاة في كل مرحلة وفي كل حالة. مثل التناقض بين الديمقراطية والمركزية في تطبيق مبدأ المركزية الديمقراطية، والتناقض بين العمل السرّي والعمل العلني.. إلخ.
ج – إن أنواع التناقض الذي من طراز التناقض الوارد أعلاه (البند ب) هي كثيرة جداً تكاد لا تحصى وتكمن أهميتها القصوى في التطبيق العملي اليومي في حياة الأفراد أو التنظيم الثوري أو الدول الثورية.. إلخ. فيترتب على الخطأ في تطبيقها (طريقة الجمع بين النقيضين وإقامة التوازن فيما بينهما، أو أخذ موقف وحيد الجانب من أحد النقيضين)، نقول قد يترتب على الخطأ في تطبيقها مجموعة من الانحرافات والسلبيات التي قد تلحق أضراراً فادحة بالنسبة إلى الأفراد أو التنظيمات أو على جماع العمل الثوري كله؛ فمن الضروري جداً، لتحقيق النجاح في التطبيق، أن نعرف، بدقة، كيف نطبق الجمع بين النقيضين، وكيفية إقامة التوازن الديالكتيكي فيما بينهما بما يناسب الظروف المعطاة في كل مرحلة.
د – المشكلة في تطبيق هذه الفرضية تكمن في ثلاثة نقاط:
1 – أخذ موقف وحيد الجانب من أحدهما وإهمال النقيض الآخر كلياً أو مقاومته.
2 – الخطأ في تقدير نسبة إقامة التوازن والجمع بين هذين النقيضين.
3 – تغيّر الظروف المعطاة ما يتطلب إعادة تقدير نسبة التوازن بين كل نقيض من هذين النقيضين منفردين ومجتمعين في آن، بينما لا يتنبه المرء إلى ذلك التغيّر ويبقى توازن المرحلة السابقة كما هو، فيؤدي إلى انحرافٍ وفشل، على الرغم من نجاحه في الظروف السابقة – المرحلة السابقة -.
إن استيعاب هذه الفرضية العلمية يساعد على التطبيق الناجح لكثير من المسائل الثورية، والمبادئ الثورية، في العمل السياسي أو التنظيمي أو العسكري. كما يساعدنا على فهم القضايا التالية:
أولاً: الجمع بين العمل المستقل الذاتي للتنظيم الثوري وعمله الجماعي مع التنظيمات الأخرى في أثناء تنفيذ خطّ الوحدة الوطنية.
ثمة تناقض بين كل تنظيم والتنظيمات الأخرى، فكل تنظيم يحاول أن ينمو ويتطور وينتزع القيادة، أو يحافظ عليها، ويعمقها. وهذا يضعه في تناقض مع التنظيمات الأخرى التي تسعى كل واحدة منها إلى نفس ما يسعى إليه. ولكن التنظيمات كلها، في الوقت نفسه، تجد أن من المحتوم عليها، في معركة التحرر الوطني، أن تعقد تحالفاً فيما بينها ضدّ العدو الرئيسي، بحيث تضمها جبهة واحدة، ذات خطّ سياسي وعسكري واحد. وهنا يصبح الجمع بين هذين النقيضين أمراً لا مفرّ منه، بحيث يحافظ التنظيم الثوري الطليعي، وكذلك التنظيمات الأخرى، على نموه الذاتي واتساع قاعدته، وزيادة قناعة الجماهير بقيادته لها، بحيث يحافظ أيضاً على علاقات أخوية ودية مع التنظيمات الأخرى ما دام قد انخرط معها في وحدة وطنية، وعليه أن يعمل ضمن المجموع لإنجاح جماع العمل الثوري ضدّ العدو الرئيسي.
فإذا انتهج خطّاً ذاتياً ضيقاً، وتجاهل أو أهمل العمل الجماعي مع المنظمات الأخرى في الوحدة الوطنية، أي انتصر لأحد طرفي ذلك التناقض واستعدى الطرف الآخر أو تجاهله، فهذا يعني الوقوع في الانعزالية، وتدمير نفسه وتدمير الثورة.
وإذا انتهج خطّ الوحدة الوطنية، وتجاهل أو أهمل بناءه الداخلي ونموه وتطوره، فهذا يعني أنه وقع بالانحراف اليميني الذي يعرّض الثورة للخطر نتيجة حرمانها من الدور القيادي للتنظيم القائد.
إن حلّ هذا التناقض يكون من خلال الجمع الخلاق بين هذين النقيضين، في وقت واحد، وإقامة التوازن الديالكتيكي بينهما بما يناسب الظروف المعطاة في كل مرحلة من مراحل تطور العمل الثوري.
ثانياً: الجميع بين المبدأ والمناورة.
عندما تنطلق الثورة تنطلق من أجل تحقيق الأهداف، أي أهداف الشعب أو الطبقة في مرحلة تاريخية محددة. لهذا، في كل ثورة، وفي كل مرحلة، هدف محوري يكون القضية المبدئية التي لا يمكن المساس بها، أو التخلي عنها تحت كل الظروف ومهما تكن الصعوبات والمخاطر.
ولكن كل ثورة وهي تتحرك من أجل تحقيق الهدف المبدئي لا بدّ لها من أن ترفع الكثير من الشعارات التكتيكية وتتخذ الكثير من المواقف التكتيكية، أي تقوم بمناورات عديدة في سبيل الانتقال خطوة فخطوة لتحقيق الهدف المبدئي.
ومن سمات التكتيك في العمل السياسي أو في الثورة أنه كثير التعرجات، وسريع التغيّر تبعاً لتغيّر الظروف الآنية، وهو بحاجة إلى أن يكون مرناً إلى أقصى الحدود، وكثيراً ما تجد الثورة نفسها مضطرة إلى مناورة الجزئية، ولكن يجب أن يكون واضحاً منذ البداية أن التكتيك هو لخدمة الهدف المبدئي.
إذن أمامنا قضيتان، قضية المبدأ وقضية المناورة التكتيكية.
فإذا ركّزنا على المبدأ ورفضنا المناورات التكتيكية، فهذا يقود إلى الجمود والدوغمائية، والقضاء على الثورة.
وإذا ركّزنا على المناورة التكتيكية ونسينا المبدأ، فهذه تؤدي إلى الانتهازية السياسية، وضياع الثورة.
إن حلّ هذا التناقض يكون من خلال الجمع الخلاّق بين المبدأ والمناورة التكتيكية، وإقامة التوازن الديالكتيكي بينهما.
لهذا، يكون الثوريون الحقيقيون أكثر الناس مرونة في التكتيك، وأشدّهم تمسكاً بالمبدأ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقودوا ثورة دون مناوراتٍ تكتيكيةٍ بارعةٍ. كما لا يسمحون، في الوقت نفسه، أن يساوموا في المبدأ أو يدوسوا عليه تحت شعار المرونة أو التكتيك أو المرحلية.
ثالثاً: ثمة مجموعة من القضايا الهامة بالنسبة إلى نجاح العمل الثوري، تجب معالجتها على الطريقة نفسها المبينة أعلاه، أي من خلال الجمع الخلاّق بين نقيضين وإقامة توازن ديالكتيكي بينهما يناسب الظروف المعطاة في كل مرحلة وفي كل حالة.
من هذه القضايا:
أ – الجمع الديالكتيكي بين المرونة والحزم في بناء الوحدة الوطنية من قبل التنظيم الثوري الطليعي.
المرونة في التعامل مع التنظيمات الأخرى وإفساح مجال العمل لها وإطلاق مبادراتها، والحزم ضدّ كل محاولات التخريب والشرذمة والخروج عن الخطّ الثوري للوحدة الوطنية.
ب – الجمع الديالكتيكي بين الهجوم والدفاع في العمل العسكري بحيث يتضمن الدفاع عمليات هجومية، وتتضمن العمليات الهجومية عمليات دفاعية، وخصوصاً في حرب الجبال والمدن.
ج – الجمع الديالكتيكي بين الشجاعة والتحليل الموضوعي لأن الشجاعة دون التحليل الموضوعي والعلم السياسي والعسكري تقود إلى التهور والمغامرة، ولأن التحليل الموضوعي والعلم السياسي والعسكري دون شجاعةٍ ولا إقدام، يقود إلى الهزيمة.
د – الجمع الديالكتيكي بين الثقة والتفاؤل وإدراك صعوبات المعركة وتعقدها؛ لأن وجود الثقة والتفاؤل بانتصار الثورة، دون إدراكٍ موضوعي لصعوبات المعركة وتعقدها واحتمالات الانتكاسات والتراجعات، يقود إلى خيبة الأمل واليأس في حالة الانتكاسة، أو تعقد التقدم إلى الأمام نتيجة لخداع النفس والجماهير. وكذلك إدراك صعوبات المعركة وتعقدها، وقوة العدو، دون ثقةٍ راسخةٍ وتفاؤل أكيد بالنصر، يقود إلى الهزيمة.
هـ - الجمع الديالكتيكي بين مُثُل الثائر وسلبيات الواقع الموضوعي، إن وجود المُثُل العليا لدى الثائر هي التي تضفي عليه الصفة الثورية لأنها تدفعه إلى تغيير نفسه وتغيير العالم. ولكن وجودها دون إدراكٍ حقيقيٍّ لسلبيات الواقع، أي وجود الانحرافات على اختلافها في داخل الثورة، يقود إلى اليأس من الآخرين، وعدم القدرة على التأقلم في العمل الثوري، وبالتالي إلى التراجع والانهيار. وكذلك إن إدراك سلبيات الواقع الموضوعي والتأقلم مع الانحرافات على اختلافها دون وجود مُثُل لدى الثائر ونضال في سبيلها، يعني الانحراف، وفقدان صفة الثورية، وبالتالي إلحاق الهزيمة بالثورة.
و – الجمع الديالكتيكي بين سياسة عدم التدخل في الدول العربية والمشاركة في الثورة العربية. وهذه القضية لا بدّ من معالجتها عن طريق إقامة التوازن الديالكتيكي بين هذين النقيضين من قبل الثورة الفلسطينية لفترة طويلة من الزمن؛ لأن تبنّي سياسة عدم التدخل في الدول العربية من قبل الثورة الفلسطينية دون المشاركة في الثورة العربية، أي التدخل، يؤدي إلى اجتراء بعض الدول العربية على تحدّيها والتضييق عليها والتآمر ضدّها، وعزلها عن الثورة العربية. كما أن مشاركتها في الثورة العربية دون تبنّي سياسة عدم تدخل في الدول العربية، في ظروف معينة يؤدي إلى محاصرتها والقضاء عليها.
ز – الجمع الديالكتيكي بين الصدق الثوري والدهاء الثوري. إن توفر صفة الصدق الثوري لدى الثورة دون الدهاء والمكر في مواجهة مؤامرات الأعداء والنضال ضدّهم، يقود إلى الغباء وكشف خطط الثورة للعدو وبالتالي إلى الانكشاف أمامه ليوجه الضربة القاتلة للثورة. وكذلك، توفر الدهاء والمكر في الصراع ضدّ العدو دون أن تتوفر صفة الصدق الثوري، يقود إلى تضليل الجماهير وبلبلتها ويحوّل الثورة إلى عصابة تآمر، وبالتالي يفقدها ثوريتها ويؤدي إلى هزيمتها.
ح – الجمع الديالكتيكي بين الثقة بالآخرين واليقظة الثورية.
إن المناضل الثوري لا يستطيع العمل في الثورة ومع الآخرين إذا لم يثق بزملائه في الثورة، ولكن وجود تلك الثقة دون اليقظة من تسلل الأعداء والمخربين والجواسيس أو من حدوث الانحراف والتراجع يقود إلى العمى والعمل على أرض مزروعة بالألغام والوقوع لقمة سائغة بين فكّيّ العدو. وكذلك في المقابل أن اليقظة تتطلب الحذر الشديد من تسلل الأعداء، والشكّ، ولكن وجود اليقظة (الشكّ والمراقبة والانتباه) دون وجود ثقة بالآخرين من إخواننا أو رفاقنا في الثورة، يقود إلى توقف العمل الثوري وتحوله إلى جحيم، وتشكّك في كل شيء مما يؤدي إلى فشل الثورة. ومن هنا، كان لا بدّ من الجمع الديالكتيكي الخلاّق بين الثقة واليقظة.
* * *
وأخيراً من القضايا اللافتة للنظر بالنسبة إلى الثورات الناجحة في عصر الإمبريالية، وعلى التحديد، الثورات التي استطاعت أن تحقق الثورة السياسية (التحرير)، والثورة الاجتماعية (الاشتراكية)، هنالك ثلاثة شروط عامة كانت قد توفرت فيها:
أولاً: وجود التنظيم الطليعي الثوري المتطرف.
ثانياً: تبنّي برنامج حدّ أدنى معتدل مع شعارات معتدلة إلى أقصى حدّ، شعارات تلبي حاجات عاجلة وملحّة لأوسع الجماهير مع ممارسة مرونة سياسية فائقة في توحيد أوسع الجماهير والقوى السياسية في جبهة عريضة.
ثالثاً: تهيئة الجماهير وتنظيمها ودفعها إلى تحقيق برنامج الحدّ الأدنى والشعارات المعتدلة من خلال النضال العنيف والثورة المسلّحة.
وفي مقابل ذلك يمكن مراجعة التجارب الفاشلة لكثير من التنظيمات السياسية، التي كانت تفتقر إلى هذه الشروط مجتمعة أو إلى أحدها.
مثال: استطاع لينين أن يعبئ جماهير الشعب الروسي للقيام بالثورة وإسقاط القيصرية ومن ثم حكومة كرنسكي تحت شعار السلم، والخبز، والأرض. ولا أحد يجادل في أن هذه الشعارات معتدلة إلى أقصى حدود الاعتدال.
واستطاع ماوتسي تونغ أن يقود الثورة بنجاح تحت شعار تحرير الوطن من الغزو الإمبريالي والإصلاح الزراعي أو تحت شعارات تحقيق الديمقراطية الجديدة. وكذلك الحال بالنسبة إلى هوشي منه، وكيم إيل سونغ وأنور خوجا. بل إن ماوتسي تونغ وهوشي منه قد سحبا شعار الإصلاح الزراعي في مرحلة طويلة من مراحل الثورة، وتبنّيا برنامجاً في منتهى الاعتدال.
وإذا راجعنا برنامج جبهة التحرير الفيتنامية (جنوبي فيتنام) فسنجد برنامجاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في منتهى الاعتدال أيضاً إن لم نقل إنه أكثر اعتدالاً من أي برنامج سياسي لأية ثورة أخرى.
واستطاع كاسترو أن يقود الثورة تحت شعار إسقاط الدكتاتورية (إسقاط باتيستا).
وكذلك الحال بالنسبة إلى كيم إيل سونغ وأنور خوجا.
على أن الشعار المعتدل ليس كافياً لأن يصنع ثورة، فمن الضروري أن يحمل هذا الشعار تنظيم طليعي متطرّف في أهدافه البعيدة، وجذري في حلوله للمشكلة الاجتماعية. وهذا ما توفر في تلك التجارب، لأن الشعار المعتدل مع تنظيمٍ معتدلٍ يعني انتهاء الثورة عند حدود الشعارات المعتدلة، أي يعني الانتهازية اليمينية والارتماء بأحضان الطبقة البرجوازية، كما حدث بالنسبة إلى أحزاب الأممية الثانية، في أوروبا، التي رفعت شعارات معتدلة ولكنها هي نفسها كانت معتدلة أيضاً. بل ربما كانت شعاراتها أكثر “تطرفاً” من شعارات جبهة التحرير الفيتنامية الجنوبية، إذا أخذنا الشعارات من الناحية التجريدية.
وهنا، نواجه قضيتين متناقضتين هما التنظيم الثوري المتطرف والشعارات المعتدلة (أو برنامج الحدّ الأدنى المعتدل)، وهذا التناقض يحلّ من خلال الجمع الخلاّق بين هذين النقيضين، وإقامة التوازن الديالكتيكي بينهما.
أما من الناحية الأخرى، فإذا فحصنا الحالات التي وجد فيها التنظيم المتطرف والشعارات المتطرفة، فسوف نجد أن تلك الحالات باءت بالفشل، وكتب على تلك التنظيمات والشعارات بالعزلة الكاملة، كما حدث لتجربة الحركات التروتسكية، ولبعض الأحزاب الشيوعية (وأحياناً لأكثر الأحزاب الشيوعية في مرحلة الطفولة “اليسارية”).
إن ضرورة الشعار المعتدل تستهدف حشد أوسع الجماهير وتشكيل أعرض جبهة شعبية من أجل الانتصار في الثورة.
ولكن من ناحية ثالثة إن الشعار المعتدل الذي حشد الجماهير وعبأها سيؤدي إلى وجود جماهير معتدلة غير ثورية إذا لم تصحبه نضالات عنيفة ومسلّحة من أجل تثوير الجماهير وخلق الجماهير الأكثر ثورية، كما حدث بالنسبة إلى حركة التحرير الوطني الهندية التي قادها غاندي؛ فقد استطاعت شعاراته المعتدلة أن تحشد أوسع الجماهير وراءها ولكنها لجمت الجماهير من ممارسة العنف الثوري لتحقيق شعاراتها المعتدلة، فنتج عن ذلك وجود الجماهير غير الثورية. وبالتالي لم يكن بالإمكان إحداث الثورة الاجتماعية. وهذا ينطبق أيضاً على التنظيم الثوري إذا لجم الجماهير من ممارسة العنف المسلّح ولم يقدها باتجاهه.
وهنا أيضاً نواجه تناقضاً آخر، وهو طرح الشعارات المعتدلة على الجماهير، وانتهاج سبيل العنف الثوري لتحقيق تلك الشعارات. وهذا التناقض أيضاً يجب أن يحلّ من خلال الجمع الخلاّق بين هذين النقيضين، وإقامة التوازن الديالكتيكي بينهما بصورة تناسب دائماً الظروف المعطاة وتطورها، في كل مرحلة، وفي كل حالة.
ومن هنا نجد أن أهمية وجود التنظيم الطليعي الثوري المتطرف ضرورة لقيادة الجماهير إلى العنف المسلّح الثوري لتحقيق الشعارات المعتدلة، ومن ثم ضمانة استمرار الثورة الاجتماعية وتحقيقها. إن التنظيم المفتقر للثورية والتطرف لا يستطيع أن يقود الجماهير في طريق العنف المسلّح حتى النصر، وخصوصاً في عصر الإمبريالية الأميركية.
ومن هنا أيضاً نجد أهمية الشعار المعتدل من أجل الحيلولة دون عزلة الطليعة عن الجماهير، أي من أجل حشد الجماهير العريضة لصنع الثورة.
وكذلك نجد أهمية تحقيق الأهداف المعتدلة بالأساليب العنيفة والمسلّحة من أجل الحيلولة دون تمييع ثورية الجماهير بالاعتدال، ومن أجل خلق جماهير ثورية تصنع الثورة بيديها وهذا بدوره يعمّق وعيها وتجربتها وثقتها بنفسها.. إلخ.
إن الجمع بين هذه الشروط الثلاثة في الثورة ضرورة أساسية كما يبدو. ولكن لا بدّ من أن نلاحظ أن هذا الجمع يجب أن يكون خلاّقاً جديداً بالنسبة إلى كل ثورة، ويطبق بصورة مبدعة بحيث تتفاعل الأجزاء الثلاثة فيما بينها تفاعلاً ديالكتيكياً حياً ديناميكياً. مع الانتباه إلى ضرورة الجمع الديالكتيكي الخلاّق في داخل تلك الشروط الثلاثة، فيما يتعلق بالجمع بين التنظيم الثوري الطليعي (المتطرف) والشعارات المعتدلة للثورة، وكذلك فيما يتعلق بالجمع بين حمل الجماهير للشعارات المعتدلة وممارسة العنف الثوري في تحقيقها.
مراجع
-  ماوتسي تونغ، في التناقض والنشاط العملي.
-  بوليتزر، المبادئ الأساسية للفلسفة.
-  لينين، الدفاتر الفلسفية.
-  ستالين، المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية.
-  دافيد جست، المادية الديالكتيكية.
-  ماوتسي تونغ، الديمقراطية الجديدة.
-  هوشي منه، حرب التحرير الفيتنامية (المختارات).
-  فونغوين جياب، حرب الشعب – جيش الشعب.
-  محمد شيخو، حول حرب التحرير الوطني وبناء الجيش الوطني في ألبانيا.
-  كيم إيل سونغ، الوضع الراهن ومهمات حزبنا.
-  ستالين، أسس اللينينية (الاستراتيجية والتكتيك، الحزب، في النظرية والتطبيق).
-  ناجي علوش، المقاومة العربية في فلسطين (1917 – 1948) قسم (الخلفية الاقتصادية).
-  ناجي علوش، الثورة والجماهير.
-  أرشيف حركة التحرير الوطني (فتح) (ملف وثائق المنظمات الفدائية)، الإعلام المركزي - عمان.
-  إحصاءات وكالة الغوث عن عدد اللاجئين الفلسطينيين وتوزيعهم.


titre documents joints

حول التناقض والممارسة في الثورة الفلسطينية-منير شفيق

23 آب (أغسطس) 2013
info document : PDF
12.4 ميغابايت

حول التناقض والممارسة في الثورة الفلسطينية-منير شفيق



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 1155 / 2182713

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع إصدارات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2182713 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40