السبت 17 كانون الأول (ديسمبر) 2022

بطرس المعرّي: تحيّة لمدن الشرق الحزين

السبت 17 كانون الأول (ديسمبر) 2022

- ريما النخل

«سمٌّ في الهواء» عنوان رواية الراحل جبّور الدويهي، تبنّاه الفنان السوري المقيم في برلين بطرس المعرّي (1968) كتحيّة للروائي اللبناني في معرضه المقام حالياً في غاليري «كاف للفن المعاصر» (مقابل كنيسة مار نقولا ــ الأشرفية). من خلال الدويهي، يوجّه المعرّي تحية لبيروت أيضاً «المدينة التي آست كغيرها من المدن في هذا الشرق الحزين» على حدّ تعبيره، موضحاً أنّ «العنوان يحمل معنيَين: أوّلهما سياسيّ ماثل في الرواية، وثانيهما متعلّق بالوباء الذي انتشر وحبسنا جميعاً». يشتمل المعرض على «ثلاثيّات» تيماتيّة، واحدة عن العنف في مجتمعنا اللبناني، وثانية بعنوان «المعمعة» أو «الثلاثية السورية» عن بلده، وثالثة عن «العشاء السرّي» للمسيح وتلامذته من بين أربعين عملاً فنياً في مواضيع مختلفة أُنجزت على قماش وعلى ورق.

‏شخوص لوحات المعرّي تخفي أسراراً وحكايات هي من وحي ذكرياته في بلده، والأسلوب متأرجح بين التجريد والرسم الغرافيكي بالأبيض والأسود، والمنحى تبسيطيّ في متناول عين المتلقّي، سواء كان نخبويّاً أو عاديّاً، والنص الروائيّ والشعري دوماً مصدر إلهام له، مُغْنياً لوحته بالخطوط والزخارف والنصوص، قريباً من أجواء البيئة الشامية، وبعيداً عن التعقيد. أضف إلى ذلك نبرة السخرية المريرة والأشكال البسيطة والمتمثّلة في مراكب ورقية بيضاء هشّة يكثر حضورها في الأعمال المعلّقة على الجدران أو المرسومة مباشرةً عليها.

‏الكلمة واللوحة في عناق لدى المعرّي، وهو شديد التأثر بأعمال الفنانين الشعبيين وأساليبهم، بخاصة التشكيلي السوري برهان الدين كركوتلي (1932 ــ 2003). لكنّ المعرّي يعمّق الأبعاد والرموز والمعاني بحيث لا تقتصر أعماله على مفردات البيئة الشامية (كالطربوش والمقهى)، فتتبدّى لنا شخوصه فاقدةً الاتجاه والبوصلة، يتملّكها شعور بالغربة. بذلك لا تبقى لوحته مجرّد تجسيد للحنين والكليشيهات بقدر ما تتحوّل إلى فضاء للتعبير ومتنفّس من أحوال الضيق والغربة والضياع.

‏في هذا المعرض أيضاً أعمال مشغولة بسرعة تدور حول أفكار بسيطة، وهي منجزة بأسلوب الكولاج. تحضر كذلك المواضيع الدينيّة، سواء في اللوحات المسيحية أو الإسلامية، فالدين جزء أساسيّ من ثقافة المجتمع الشامي. والمعرّي متأثّر طبيعيّاً بفن الأيقونة، لذا يضع هالة فوق الشخوص المحبوبة بالنسبة إليه، تمييزاً لا تقديساً، كاشفاً أنّه يميل إلى «تقديس» بعض المهمّشين. أمّا في موضوع الحرب، فلا يخفي تأثّره بتحفة بيكاسو «غيرنيكا»، فالمأساة الإنسانية لا تُختصر ببلد أو بشعب بل بالإنسانيّة جمعاء. لذا كانت «الثلاثية السورية» وثلاثية «العشاء السري» حيث امرأة مستلقية وخلفها مراكب ورقية صغيرة ترمز إلى مراكب الهرب في البحر والموت. المرأة هي رمز البلاد (الوطن)، تخسر أبناءها الذين يهاجرون.

الأسلوب متأرجح بين التجريد والرسم الغرافيكي بالأبيض والأسود

‏بيد أنّ خللاً تيماتيّاً يعتري معرض المعرّي الذي كان ينبغي أن يكون مقتصراً على مأساة الوطن والبشر، فلا يتعدّاها ـــ لضرورة «وحدة الموضوع» ــ إلى لوحات ذات مواضيع متفرّقة، بعضها تراثيّ شعبيّ (كالمقهى والحكواتي) إذ تراودنا فكرة: ما علاقة هذا بذاك في تجوالنا بين أعماله مشتّتة المواضيع ضمن معرض واحد يفترض أن يكون «تيماتيّاً». حتى إنّ المستوى التشكيليّ متفاوت بين مجموعة وأخرى. لم تغادر دمشق ذاكرة الفنان (خرّيج كلية الفنون عام 1991)، من المقهى وطاولاته إلى الطربوش والحكايات الشعبية وسيرة عنترة بن شدّاد وجَلبة الأسواق الشعبيّة ودوار رقصة الدراويش الصوفيّة... ففي المعرض شيء من كل شيء، والمأساويّ مختلط بالفرح، والقاتم بالمبهج.
اللافت في مسيرة المعرّي الأكاديميّة أنها مليئة بالرحيل والعودة فالرحيل مجدّداً. عقب تخرّجه في كلّية الفنون في دمشق، غادر إلى فرنسا لمتابعة دراسته الفنية، ثم عاد إلى سوريا عام 2008 بعد نيله الدكتوراه للتدريس في الكلية التي درس فيها، ثم هاجر مجدّداً إلى برلين، فبرلين ليستقرّ هناك. ذهاب وإياب يعكسان أزمة تململ وعدم استقرار يظهران في مواضيع أعماله حيرةً وضياعاً.

* «سُمٌّ في الهواء» لبطرس المعرّي: حتى 18 كانون الثاني (يناير) ـــ غاليري «كاف للفن المعاصر» (مقابل كنيسة مار نقولا ــ الأشرفية/ بيروت) ـ للاستعلام: 01/334984

- الاخبار



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2183553

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع إصدارات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2183553 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40