المسافة بين أم الفحم شمالي فلسطين والظاهرية جنوبيها قد لا يحتاج قطعها إلى أكثر من 55 دقيقة بالسيارة، لكن رسالة من أسير احتاجت إلى 55 سنة للوصول إلى من بقي من ذويه على قيد الحياة . الرسالة مكتوبة في الثامن من يونيو/حزيران عام ،1958 والأسير محمود البطاط الذي كتبها استشهد في السجن بعد ثلاثة أيام من كتابتها . من الطبيعي، إذاً، أن يشعر شقيق الشهيد بأن وصول الرسالة اليوم كان سبباً لألم عميق، وكان فتح الرسالة بمثابة إعادة فتح جرح التأم منذ خمسة وخمسين عاماً . في آخر كلمات أول أسير شهيد في العهد الصهيوني: “أرسل إليكم التهاني بقرب حلول عيد الأضحى المبارك . . أرجو أن ترسلوا لي بالبريد بنطلوناً وقميصاً مناسباً” .
ناقل الرسالة من أم الفحم لم يستطع حينها إيصالها بسبب صعوبة التنقّل في ذلك الوقت، مع العلم أن التنقل ليس أسهل في هذه الأيام . أبناء حامل الرسالة المتوفى عثروا بالصدفة على الرسالة قبل بضعة أيام، أي نهاية يونيو/حزيران ،2013 فتولى أحدهم إرسال الأمانة الخطية لأصحابها عبر شخص من جنين نقلها إلى ذوي الشهيد في بلدة الظاهرية .
فتح الرسالة يفتح معه أكثر من جرح فلسطيني وقومي . فهي حكاية أسير وشهيد وشعب وأمة . وهي تتجاوز مصير اثنين وسبعين أسيراً كانوا في سجن شطّة حينها، تمرّدوا على السجانين وخاضوا معركة استشهد فيها اثنا عشر منهم . الشهيد صاحب الرسالة، واسمه محمود البطاط، كان بإمكانه الهرب، لكنّه ما لبث أن عاد لإنقاذ زميل له كان العقل المدبر لعملية التمرّد والسيطرة على السجن، وهو ضابط استخبارات مصري اسمه أحمد علي عثمان . وفي تلك المواجهة استشهد محمود الفلسطيني وجرح أحمد المصري وأعيد اعتقاله، لتذكّرنا قصّته بالتلاحم القومي الذي لم يبدأ بحصار جمال عبدالناصر وزملائه في الفالوجة، ولن ينتهي ببيان المثقفين المصريين الذي أعاد البوصلة باتجاه فلسطين، بعدما حاولت ثلة من راكبي موجة الإعلام التحريض على قتل الفلسطينيين، بسبب بضعة أفراد أساؤوا، أو تدخّلوا في الشأن الداخلي المصري .
للمفارقة، تأتي حكاية الرسالة هذه، والفلسطينيون يشيّعون الشهيد أبو السكّر، عميد الأسرى المحررين وأحد رموز الحركة الأسيرة، حيث أمضى من حياته 28 سنة خلف القضبان، لكن إخوة أبو السكّر ورفاقه وأصدقاءه وعارفيه شعروا بألم مزدوج، على رحيله وعلى ضعف المشاركة الشعبية في تشييعه، ربما لتجاهله من أكثر من جهة، بما فيها الإعلام، منذ ما بعد فترة الإفراج عنه قبل عشر سنوات . وإذا كان فتح رسالة محمود البطاط بعد 55 سنة من كتابتها، قد فتح جرحاً قديماً، وإذا كان استشهاد أبو السكّر يلقي الضوء على ملاحم سطّرها أسرى فلسطينيون وعرب في سجون الاحتلال، فإن الجرح الأعمق يبقى متمثّلاً باستمرار آلاف الأسرى خلف القضبان، العشرات منهم يواصلون الإضراب عن الطعام منذ فترات طويلة، وبعضهم في حالة احتضار . صحيح أن رسالة محمود البطاط احتاجت إلى أكثر من نصف قرن لتصل، لكن الصحيح أيضاً أن رسالة الأسرى المحتضرين لم تصل بعد إلى “ربيع العرب” .