الترحيب الذي صدر عن “إسرائيل” بشأن تنازل العرب الجديد المتمثّل بتعديل مبادرتهم للتسوية، نظر إليها من زاوية التطبيع، وأنها باتت قابلة للنقاش فحسب، أي أن هذه التعديلات تتيح إقامة علاقات بين “إسرائيل” وكل العرب، أما مقابل ماذا هذا التطبيع الجماعي، فهذا ما لم يتطرّق إليه أي مسؤول “إسرائيلي” . هذا يؤكد منهجاً ونوايا قائمة منذ بدايات عملية التسوية، إذ إن “إسرائيل” لا تنظر سوى إلى ما تريده ولا شأن لها بمطالب الفلسطينيين والعرب، إن بقي لهم مطالب .
تسيبي ليفني ذات الخلفية الموسادية والعائدة للحكومة “الإسرائيلية” من بوابة ملف المفاوضات والقضاء، الأوضح اعترافاً بمغامراتها المغطاة بفتاوى الحاخامات لمصلحة “إسرائيل”، التقت وزير الخارجية الأمريكي جون كيري لبحث التنازل العربي المقبل، وهي أدرجت المبادرة العربية ضمن موضوعات التفاوض وليس قبولها كما هي حتى بعد التفاوض . وعلى الأرجح أن هذا الموقف جاء بالتوافق مع واشنطن، لا سيما أنه صدر بعد لقاء الوزيرة مع “كيري” القابل للدهن في الوجبات السريعة .
بنيامين نتنياهو كان الأكثر وضوحاً في موقفه من التقهقر العربي، فهو لا يرى أن الصراع يدور حول الأرض، بل حول الاعتراف المطلوب ب “إسرائيل” ك “دولة للشعب اليهودي” . وبما أن فلسطين لا تتسع لليهود البالغ عددهم العشرين مليوناً في العالم، فإن “السلام الحقيقي” سيتطلب تعديلاً في العقل العربي لتوسيع حدود “دولة الشعب اليهودي” . لهذا السبب، لم تضع “إسرائيل” حدوداً لها حتى الآن . بعض المسؤولين الفلسطينيين تحدّث عما هو أوسع من التطبيع العربي الجماعي، وقدموا ل “إسرائيل” وعوداً بعلاقات مع سبع وخمسين دولة إسلامية، إن هي قبلت بالمبادرة العربية، وهذا قبل التعديل، ولا نعرف أن هذا “الأُفر” ما زال قائماً بعد التعديل، أم أنه خضع لتعديل آخر يقول لها اقبلي بالتعديلات وخذي مع كل اعترافين عربي وإسلامي اعترافاً ثالثاً مجاناً، والإعلان مستمر حتى نفاد المخزون من الثوابت الفلسطينية والعربية والإسلامية .
هذه معطيات الحقل، أما حسابات البيدر فهي شيء مختلف . التاريخ ليس حقائق فحسب، بل مسارات حصرية باتجاه حتميات تصوغها الشعوب وليست الحكومات التي لا تستشير شعوباً حول مصيرها، ثم تتحدّث كالببغاء عن الديمقراطية والحرية . التاريخ لا يعترف بالضعفاء والمتنازلين، وإن منحهم بعضاً من تعرّجات مساره، وهو يعدّل هذا المسار بأقوى مما يعدّل المتسوّلون مستوى رفع أيديهم المفتوحة ودرجة انحناء الرؤوس .
ما تبقى من المعارضة الفلسطينية انتقد التعديلات على المبادرة التي سبق له أن رفضها حين صدورها . فهل يعني رفض التعديلات قبولاً بالمعارضة الأصلية؟ . إذا كان الأمر كذلك، نكون في السياق المعتاد ذاته القائم على رفض كل تنازل جديد والتمسك بالوضع الذي كان قبله، وهو وضع كان تنازلاً بالنسبة لما هو قبل الذي قبله . المثقفون العرب المخروقون يعزفون على هذه النغمة، فهم يجلدون فكرة “الرفض” دائماً، ولا تكف أسطوانتهم عن الدوران: كان على العرب قبول قرار التقسيم، وعندما كرّست “إسرائيل” احتلال فلسطين وأرضاً عربية أخرى، كان على العرب الاعتراف بقرار ،242 وبعد جنون الاستيطان، كان على العرب قبول “كامب ديفيد”، وفي النهاية قد يجدون أنفسهم أمام “السلام” على قاعدة اعتراف العرب جميعاً ب”إسرائيل” التوراتية مقابل اعترافها بأنهم كائنات حية من حقها أن تتنفّس .