الأحد 12 أيلول (سبتمبر) 2021

عبداللطيف مهنا.. فلسطين بوصلة لوحاته

الأحد 12 أيلول (سبتمبر) 2021

- وكالة القدس للأنباء

عبد اللطيف مهنا.. كاتب وشاعر وفنان تشكيلي فلسطيني، ولد في خان يونس، بقطاع غزة، العام 1946، قال عنه الفنان الراحل مصطفى الحلاج إنه “يكتب اللوحة، ويرسم القصيدة” وهو فعلًا كذلك، عرف مناضلاً، عايش المنافي، ورافق مسيرة شعبه النضالية المعاصرة، بدايات وساحات، وصعوداً وانكسارات، أوصلته دروب المعاناة ‏الفلسطينية مرتحلاً ما بين العواصم الأوروبية والعربية، لتبقى فلسطين بالنسبة إليه، في جغرافيتها المعهودة منذ فجر التاريخ، هي ‏بوصلته، وسبل مناراته، وتخيره لطرق الهدى والإنارة المعنوية، التي يستنير فيها من أجل متابعة ‏رحلة نضاله من أجل وطنه، الذي لم يكل من ذكره أبداً.

وكالة القدس للأنباء: كيف بدأت مشوارك التشكيلي؟

** هناك شيء من فنان يولد داخل كل طفل، إنه ما يفسر لنا ميله المعروف إلى الرسم، فإن لم يفتقده بعد تجاوزه الحادية أو الثانية عشرة من عمره، فهناك ما قد يشي باحتمال امتلاكه لموهبته، وأظن أن هذا ما كان حالي.. لا أدري، ربما لهذا، أو مقابله، يظل هناك أيضاً طفل في داخل كل فنان، يلازمه ويموت معه! رافقني الرسم طفلاً، ولاحقاً اشتهرت بين زملائي في المدرسة بالمشاكس الذي يرسم كاريكاتورات للمعلمين والزملاء الذين لا يروقونه، أو ذوي القسمات المغرية لراسم الكاريكاتور. كان هذا في بداية المرحلة الثانوية.. وهنا لا أنسى حادثتين، أولاهما: أنه كان عريف الصف جامعاً لصفتين، اللئم والحَوَل، وزاده أننا يومها قد تشاجرنا، الأمر الذي دفعني إبان الفرصة إلى التخلف في الصف ورسم كاريكاتور له بالطباشير على اللوح، حين انتهت الفرصة، وعدنا للصف، بدأ الضحك وانهمرت التعليقات، وتعمَّد العريف عدم مسح اللوح ليحتفظ بدليله حين يشتكيني للمعلم فور قدومه، وهذا ما كان. كان معلم اللغة العربية أستاذاً مصرياً جليلاً، أذكر حتى الآن اسم عائلته وهي الطهطاوي، وكنت من المبرّزين في مادته ومن ثم على علاقة جيدة به. عاقبني بالوقوف إلى جانب اللوح وبدأ الدرس. لم يكن وضعي مريحاً، كنت على مرمى عيون أكثر من أربعين رأساً تحملق في الأستاذ واللوح ومن يقف إلى جانبه، ومن هنا وهناك كان البعض يغافلون الأستاذ ويتهامسون ويتضاحكون وهم يشيرون إلي، في البدء كان الموقف محرجاً، وشيئاً فشيئاً اعتدته، بل وبادلت المبتسمين الابتسامات، وأخيراً تناولت إصبع الطباشير ورسمت بومة إلى جانب كاريكاتور العريف.. انفجر الصف ضاحكاً فالتفت الأستاذ، وبهدوئه الوقور قال بلهجته الصعيدية، ” هوه يابني إحنا مش شايفين وشك غير ترسمو لينا عاللوح.. طيب أقعد أقعد”!
.. والثانية، كان حجاج زميلي وجاري في المقعد الأمامي فتى مزوحاً مغرماً بحوك المقالب وبولدنة حد عدم التورُّع عن احراج أقرب أصدقائه، وكان لنا معلماً، وللعربية ومصريا أيضاً، يؤسفني أنني أذكر الآن فحسب اسمه الأخير وهو الهواري.. سأل جاري سؤالاً فلم يحسن الإجابة فأسكته ساخراً منه،” طيب اتنيل على عينك أعُّد “.. شعر جاري بالمهانة وبدأ يحرضني ويرجوني معاً على أن أرسم له كاريكاتوراً مضحكاً للأستاذ، ساعدته خفتي في ذلك العمر، فرسمت رأس استاذي بجسد كلب يتدلى من رقيته حبل، وتضاحكنا، وانتهى الدرس، وبدأ الصف في الخروج، لكن حجاجاً بدلا من الاتجاه للباب توجه للأستاذ المنهمك في وضع أوراقه في حقيبته الممتلئة عادةً وناوله الرسمة.. أسقط في يدي وأنا أراها والأستاذ يتأملها مديدا، وحين ناداني ليسألني، “إنتا اللي رسمت دي؟”، فأجبته، وقد وجدت نفسي في حالة “أنا الغريق فما خوفي من البلل”، أن نعم.. ولم أصدق نفسي حين رأيته مبتسماً وسمعته يقول:
“حلوة أوي.. دنتا فنان”، وبحث في جيوب حقيبته العديدة مخرجاً صورةً فوتوغرافيةً له وناولني إياها قائلاً: ” خد، والنبي ترسمني بجد”، في حين وجد كاريكاتوره مع حبله طريقه إلى جيب من جيوب حقيبته.. كان، و”بجد”، أول إنسان يشجعني.. كبيراً كان، ومربياً بحق، لا زلت أذكره خجلاً منه وممتناً له، وإلى الآن لم أسامح حجاجاَ.

وكالة القدس للأنباء: لك لونك الخاص الذي تتفرَّد به في تجربتك التشكيلية، والبعض يعتبرها مدرستك، والتي تشبهك وحدك ولا تشبه فيها غيرك، ما السر في ذلك؟

** أظنه كذلك، وهناك أيضاً من يقولون مثله عني شاعراً وناثراً، ولعل السر الذي تسألين عنه لجهة التشكيل بالذات بعضه عائد إلى أن ظروفي لم توفر لبداياتي فرصةً لتلقي أي تعليم أكاديمي في الرسم، كما ولا سمحت انشغالاتي بها فيما بعد، إذ لا كانت مادته تلقى مكانتها المفترضة بين مناهج مدارسنا في تلك الأيام، ولا كانت توجد في غزه إبان عقدي ما بعد النكبة معاهد رسمية أو خاصة له.. كانت ظروف ينشأ الفنان فيها نبتاً برياً.. أذكر أنني وأنا عائد إلى البيت من المدرسة قد عثرت إلى جانب سكة القطار على حجر أبيض ذكرني حينها باللون المعهود لتماثيل الإغريق، وقفت أتأمله، وتساءلت ما إذا كان من الممكن محاولة نحته، لم يكن كبيراً ولم يكن خفيفاً، لكني حملته إلى البيت، حيث لم تتفهم أمي حملي لحجر في يوم قائظ عائداً به معروقاً إليها، قلت لها ما انتويته، فصمتت هازَّةً رأسها، جاهدةً لإخفاء إشفاقها عليَّ من رعونتي. في اليوم الثاني، وكان عطلة، بدأ البحث عن أدوات النحت فوجدت قطعة حديد ثقيلة بعرض كف وطول مسطرة، وسكيناً قديمة عوجاء وصدئةً أكل الزمان عليها وشرب، وبدأت.. تضامنت أمي معي فأحضرت لي كأس شاي ووضعته إلى جانبي، عادت فوجدت كأس الشاي قد برد واكسبه غبار الحجر لوناً مختلفاً، فأبدلته بجديد.. شارفت على الانتهاء، كان تمثالاً نصفياً متوسط الحجم لرجل متوسط العمر محملقاً جهدت لتبيان التجاعيد الخفيفة تحت عينيه.. وتكررت اطلالات أمي التي بدا أنها استبدلت اشفاقها عليَّ ابنها افتخارها به.. آخر إطلالة وجدتني أبادل التمثال ذات حملقته وأنا منهمك في الفروغ من لمساتي الأخيرة لعينيه.. هرعت لوالدي مذعورة، وقد فرغ للتو من صلاته، قائلةً، “ولدك انجن”!

وكالة القدس للأنباء: توقف البعض أمام تعدديتك الإبداعية، فبالإضافة لكونك فنانا تشكيلياً، أنت شاعر وروائي وكاتب سياسي، زد عليه مناضلاً عرف المعتقلات وعايش المنافي، ورافق مسيرة شعبه النضالية المعاصرة، بدايات وساحات، وصعوداً وانكسارات، وإبانها عرفت مناضلاً وقيادياً، ومعارضاً ومتمرداً، كيف وفقت بين كل ذلك؟!

** ليس من تخوم تفصل بين صنوف الإبداع، وهل تعدم عين الرائي سماع وشوشات الشعر تهامس عينيه في لوحة، أو يعدم المتلقي تَبدّي اللوحة، أو اللوحات، توشَّي سطور قصيده؟! ناهيك عن الرواية التي يتسع صدرها لكافة الصنوف. اللوحة لا تقطع طريقا على القصيدة، وإنما قد تؤجل الواحدة الأخرى، وإجمالاً تتكامل معها ولا تنوب عنها. المشكلة هي في التوفيق بين السياسي والإعلامي، حتى لو كانا شخصاً واحداً، أو منسجمان فهماً ورؤيا ومواقفا، السياسي بطبعه يميل لاستخدام الإعلامي ولا يرى ما خلا خدمة أهدافه، والإعلامي لا تفارقه هواجس ومستوجبات ما تعنيه المهنة، جربت هذا رئيساً للتحرير، ومفوضاَ للإعلام، أما كصحافي، فهنا أنت تمارس استنزافا تطوعياً وباختيارك، أدمنته، ويأتي على حسابك شاعراً وتشكيلياً وروائياٍ.. كان الشعر والتشكيل بالنسبة لي استراحة محارب.

وكالة القدس للأنباء: هل أنت نادم؟

لا، وألف لا، بيد أنني لا أزعم أنني كنت مصيباً.. لا تنسي، نحن جيل ما بعد النكبة، نشأ أغلبه في خيام توزعتها المنافي المتباعدة، لكنما عذابات شتاتها حافظت عليها حاضنةً عنيدة لحلمنا الواحد، حلم العودة. لذا، ما الذي يعنيه المبدع، أو المثقف منا، إن لم يكن حاملاً لهموم ناسه، أو كما يوصف، عضوياً ومشتبكاَ، بمعنى أنه أوقف حياته بما امتلكته، أوعنته، بين يدي ذلك الحلم؟ هكذا فهمنا المسيرة، وعليه، كان همنا، والعثرات تتوالد من حولنا عثرات، الحفاظ على ثوابتنا الوطنية والقومية ونقائنا الشخصي، وأن تسلم الراية لنسلمها لمن هو أهل لالتقافها. لكن، وكأي مسيرة نضالية ولأي شعب كان، قلة يحملونها فتطحنهم، وكثرة تتسلقها فتحملهم، وعزاؤنا هو في أن أجيالنا اللاحقة تأتي الأصلب والأوعى والأشد بأساً من سابقاتها.

وكالة القدس للأنباء: في معارضك ومجموعاتك التشكيلية ظل الفدائي ذو الكوفية أيقونة متصدرة أبداً، حتى في زمن لم يعد ذاك الذي عايشته في خنادق ما يدعونه في هذه الأيام بذاك الزمن الجميل؟!

** وسيظل أيقون نضال شعبنا ويعني لنا ولأمتنا إما فلسطين أو فلسطين، وإلا ما معنى كل ما قلته في إجابتي السابقة؟!

أجرت الحوار ملاك الأموي



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2184563

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع قضايا   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

2184563 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40