الأحد 15 آب (أغسطس) 2021

لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

مهنّد صلاحات
الأحد 15 آب (أغسطس) 2021

تسمية الأشياء بمسمّياتها

عكست الهبّة الفلسطينيّة الأخيرة، الشائع تسميتها بـ «هبّة القدس» (2021)، مستوًى جديدًا ومختلفًا من التضامن العالميّ مع القضيّة الفلسطينيّة؛ فما الّذي تغيّر هذه المرّة؟ وما الّذي أحدث التغيير؟ وكيف يمكن أن نقرأ الخطاب الجديد الشائع لدى المتضامنين العالميّين، وتحديدًا في وصف إسرائيل؟

بدا التضامن العالميّ خلال الأسابيع الأخيرة مع القضيّة الفلسطينيّة أكثر زخمًا وأعلى نبرةً مقارنةً مع سنوات سابقة؛ إذ لم يتوقّف عند حدود الناشطين، وقد تجلّى في تظاهرات ضخمة خرجت بأرقام قياسيّة، وفي ملاعب كرة القدم، ومنصّات التواصل الاجتماعيّ، ولا سيّما لدى العديد من المشاهير والمؤثّرين والفنّانين، وقد خرج كثير منهم عن حيادهم، وهو ما يفضّله بعضهم على دفع ثمن المواقف، أو أولئك المتبنّين لخطاب يبدو «معتدلًا»، من حيث تأكيده على نبذ العنف من كلا «الطرفين»، أيًّا كان المتسبّب فيه.

لقد رأينا خلال الأسابيع الأخيرة خطابًا يتخلّى عن هذا «الاعتدال» المُدّعى ليسمّي الأشياء بمسمّياتها؛ فمَنْ كانوا يشعرون بالخوف أو الخجل من وصف إسرائيل بـ «الاستعمار» أو «الأبارتهايد»، راحوا يفعلون ذلك...

لقد رأينا خلال الأسابيع الأخيرة خطابًا يتخلّى عن هذا «الاعتدال» المُدّعى ليسمّي الأشياء بمسمّياتها؛ فمَنْ كانوا يشعرون بالخوف أو الخجل من وصف إسرائيل بـ «الاستعمار» أو «الأبارتهايد»، راحوا يفعلون ذلك، وخاصّة أصوات في الدول الأكثر انحيازًا لإسرائيل كالولايات المتّحدة الأميركيّة، والدول الأوروبّيّة مثل بريطانيا (النظام المؤسّس لإسرائيل)، وفرنسا، وغيرها. قد يبدو استخدام مصطلح «الأبارتهايد» في الولايات المتّحدة وأوروبّا جديدًا في وصف إسرائيل، الّتي لطالما كانت محصّنة من النقد في الإعلام الغربيّ عمومًا، لما له من دلالات قانونيّة وسياسيّة مرتبطة بمصير نظام «الأبرتهايد» المنهار في جنوب أفريقيا؛ لهذا فإنّ بدء شيوع هذا المصطلح في المجتمعات الغربيّة، يُعَدّ تقدّمًا إيجابيًّا في تصحيح توصيف الواقع الفلسطينيّ غربيًّا.

من المؤثّرين العالميّين الّذين استخدموا هذا المصطلح، الممثّل والمخرج الأميركيّ مارك روفالو، الّذي نشر عريضة إلكترونيّة تطالب بفرض عقوبات على إسرائيل، على غرار العقوبات الّتي فُرِضَت على نظام «الأبارتهايد» في جنوب أفريقيا. جمعت العريضة أكثر من 2.5 مليون توقيع خلال أقلّ من أسبوع.

تحوّلات في الولايات المتّحدة وأوروبّا

في الولايات المتّحدة الّتي يبرز فيها تأثير اللوبي الصهيونيّ بقوّة، شارك العديد من المشاهير، من أمثال الممثّل من أصول أفريقيّة مايكل بي جوردان، بين أكثر من 17 مليون متابع عبر إنستغرام، تصريحًا يحمل مفرداتٍ لم يكن معتادًا استخدامها داخل المجتمع الأميركيّ، ولا سيّما مجتمع «هوليود»، تقول:

“لا يستطيع المرء الدفاع عن المساواة العرقيّة، وحقوق مجتمع الميم، وإدانة الأنظمة الفاسدة والمسيئة وغيرها من أشكال الظلم، ومع ذلك يختار تجاهل الاضطهاد ضدّ الفلسطينيّين. إنّه أمر غير معقول. لا يمكنك انتقاء أيٍّ من حقوق الإنسان الأكثر أهمّيّة.”

يعكس هذا الاقتباس أثر الحملات الاحتجاجيّة والانتفاضات حول العالم، في صناعة الرأي العالميّ المتضامن مع الفلسطينيّين، مثل «Black Live Matter» وحملة «Me Too» النسويّة؛ فقد انعكس وعي هذه التجارب على مواقف العديد من الأميركيّين وآرائهم، وأسهم في جعلهم أكثر اهتمامًا بالقضايا الحقوقيّة العالميّة، وأكثر جرأة على نقاشها علنًا؛ وهو ما ساهم في تأطير القضيّة الفلسطينيّة أخيرًا على أنّها مسألة تحرّر وليست صراعًا بين «طرفين» متكافئين.

مارك روفالو دعا إلى فرض العقوبات على إسرائيل

مضمون عبارة جوردان، ظهر كثيرًا في يافطات المظاهرات الّتي خرجت في عدد من المدن الأميركيّة، بل إنّ ارتفاع نبرة النقد لإسرائيل، بلغ مجتمعات خاصّة، كان مجرّد انتقادها فيها يُعَدّ مثيرًا للقلق والتحدّيات، مثل مجتمع فنّاني «هوليود» الّذي لطالما تسبّب الأمر بالتضييق عليهم، عبر التلويح بتهم مثل دعم الإرهاب ومعاداة الساميّة، بالإضافة إلى ردود فعل شركات الإنتاج السلبيّة تجاههم. مثال ذلك أيضًا في ما نشره الممثّل البريطانيّ الأميركيّ، مايكل ملاركي، في تصريح يؤكّد فيه وقوفه مع المظلومين مهما كلّفه ذلك، وأنّ ما يقع في غزّة “ليس حربًا بين طرفين متكافئين، بل عدوان من جانب يمتلك كلّ القوّة العسكريّة ضدّ شعب أعزل.”

في حين نشر العديد من المشاهير كذلك تساؤلات عن أموال دافعي الضرائب الأميركيّين، الّتي تذهب لدعم جيش مسلّح ضدّ مدنيّين في الشرق الأوسط، والّذي يشبه الحركات الأميركيّة في الستّينات والسبعينات من القرن الماضي، الرافضة للحرب على فيتنام.

أمّا في أوروبّا المصابة بعقدة «الهولوكست» التاريخيّة، فربّما كانت التيّارات الديمقراطيّة اليساريّة أكثر جرأة في نقد سياسات إسرائيل ممّا هو الأمر في الولايات المتّحدة، لكنّ النقد الأوروبيّ لم يَعُد مقتصرًا اليوم على توجّهات أيديولوجيّة وسياسيّة معيّنة، توصف عادةً بـ «اليساريّة»؛ بل تعدّى ذلك إلى أوساط تيّارات مدنيّة حقوقيّة مدافعة عن حقوق المرأة، أو مناهضة للفساد؛ وانضمّ إلى هذا النقد عدد من الفنّانين والمشاهير والمؤثّرين في شبكات التواصل الاجتماعيّ، وأيضًا برلمانيّون وسياسيّون وأكاديميّون لهم مرجعيّات مختلفة؛ الأمر الّذي عزّز لدى التيّارات اليساريّة الأوروبّيّة والعمّاليّة والنقابيّة منها، القدرة على اتّخاذ خطوات أكثر جرأة وفاعليّة في حشد المظاهرات، وتنظيم إضرابات اقتصاديّة، كما فعل عمّال مرفأ ليفورنو في إيطاليا، حين رفضوا تحميل شحنة أسلحة ومتفجّرات كانت ذاهبة إلى أحد الموانئ الإسرائيليّة؛ لرفضهم المشاركة في إيصال الأسلحة إلى نظام عنصريّ، كما جاء في بيان نقابة عمّال المرفأ.

يهود ضدّ إسرائيل

خلال الهبّة الأخيرة، اتّسعت دائرة اليهود الخارجين عن صمتهم إزاء إسرائيل؛ فقد شهد العديد من الفعاليّات الاحتجاجيّة والمظاهرات في الولايات المتّحدة وأوروبّا، يهودًا أبرزوا هويّتهم قصدًا، يرفعون شعارات واضحة، تصف إسرائيل بدولة التمييز العنصريّ، رافضين أن يُشَرْعَن الاضطهاد الاستعماريّ في فلسطين عبر استخدام «الهولوكوست» أو معاداة الساميّة، وكذلك في قمع الأصوات الناقدة لإسرائيل عالميًّا.

مع الخطاب التضامنيّ الّذي تصاعد عالميًّا خلال الأسابيع الأخيرة، تراجع الحديث عن حلول دوليّة مثل «خيار الدولتين» لحلّ الصراع، لتتقدّم على حسابه المطالبات بإنهاء الاستعمار وإنهاء «الأبارتهايد».

ليس التضامن اليهوديّ العالميّ مع الفلسطينيّين جديدًا، ولعلّ أشهر وجوهه المناضلة راشيل كوري الّتي قُتِلَت دهسًا لدى محاولتها التصدّي لجرّافة عسكريّة إسرائيليّة أثناء هدمها مباني سكنيّة في قطاع غزّة، عام 2003، إلّا أنّ ظهور هذه النزعة خلال الهبّة الأخيرة، إن كان في الشوارع أو على منصّات التواصل الاجتماعيّ، يثير الاهتمام، كما فعلت سيّدة أميركيّة يهوديّة، حين نشرت على حسابها على تيك توك، مقطعًا مصوّرًا، انتشر على نحو واسع، تدعو فيه إلى التضامن مع الفلسطينيّين، وتندّد بالاعتداءات الإسرائيليّة، وهي تتحدّث عن جواز سفرها الإسرائيليّة، وعن أنّها عاشت في فلسطين سنوات عديدة في طفولتها، وسمعت هناك رواية واحدة تتلخّص في رغبة الفلسطينيّين في قتل اليهود، ولقد “تبيّنت الحقيقة، ليس فقط الآن، ولكن من متابعتي الفترة الماضية،” كما قالت.

مع الخطاب التضامنيّ الّذي تصاعد عالميًّا خلال الأسابيع الأخيرة، تراجع الحديث عن حلول دوليّة مثل «خيار الدولتين» لحلّ الصراع، لتتقدّم على حسابه المطالبات بإنهاء الاستعمار وإنهاء «الأبارتهايد».

لا شكّ في أنّ هذا التحوّل جاء نتيجة لنضال طويل خاضه فلسطينيّون، وكذلك غير فلسطينيّين من الديمقراطيّين والمناصرين لحقوق الإنسان، وكذلك الحركات المناهضة للعنصريّة والتمييز، والدور الّذي أدّته «حركة مقاطعة إسرائيل» (BDS)، الّتي تنشط منذ سنوات طويلة في عشرات الدول بلغات مختلفة، كما أنّ الخطاب الفلسطينيّ غير الرسميّ تطوّر في مخاطبة العالم، ليبدو أكثر قدرة على التعبير عبر الصورة وبلغاتٍ متعدّدة. هذه كلّها عناصر اجتمعت معًا لتحقّق تغييرًا في النظرة العالميّة تجاه القضيّة الفلسطينيّة، وإيجاد معجم جديد في توصيف إسرائيل نظامًا استعماريًّا، والبدء في خلخلة حواجز الخوف والصمت.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2184563

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع قضايا   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

2184563 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40