السبت 24 تموز (يوليو) 2021

من كاتم الصوت، إلى الاغتيال بالصوت لاحمد ابو سليم

السبت 24 تموز (يوليو) 2021

الإسكات

طويل هو تاريخ كاتم الصوت، يمتدّ من بدايات القرن العشرين، ويمرّ بآلاف الجثث الّتي قُيِّدَت جريمة اغتيالها ضدّ مجهول؛ لأنّ الاغتيال بكاتم الصوت وظيفة عملاء المخابرات المحترفين، والعصابات، والقتلة المأجورين؛ من أجل تصفية أشخاص غير مرغوب فيهم، وإسكات أصواتهم إلى الأبد؛ إذ يُمْسي هؤلاء في لحظة ما خطرًا يتهدّد مصالح جهة بعينها، قاتلة، ويصبح من الواجب إسكاتهم في عمليّة صامتة لا تشير إلى أحد، ولا يُتَّهَم فيها أحد بعينه.

لكنّ كاتم الصوت، على الأغلب، يكون الخيار الأخير لدى أصحاب الشأن؛ فالفكرة في حدّ ذاتها، تعني في ما تعني، التستّر خلف هذا الكاتم كي لا تشير إلى الجهة القاتلة أصابع الاتّهام، ومع ذلك، ثمّة أحيانًا محطّات تسبق كاتم الصوت، كمحاولة كتم صوت الضحيّة، وتهديدها بطرق شتّى، والاعتداء عليها إن توجّب الأمر ذلك، إن لم تكن شخصيّة عامّة، مميّزة، ومحميّة من الاعتداء والتهديد.

سيبدو الأمر أنّ عدوّ النظام الجديد، هو ذلك الشخص الّذي يرفض اقتناء الهواتف الذكيّة، والانصياع لحمّى التكنولوجيا؛ فهو إنسان خارج عن الإجماع، وبالتالي خارج دائرة السيطرة، وبالتالي فهو خارج دائرة الوجود المعاصر كلّيًّا...

لا شكّ في أنّ عمليّة الاغتيال بكاتم الصوت عمليّة معقّدة، ومضنية، ولها حسابات طويلة، وتحتاج إلى خبرات استثنائيّة؛ لأنّ الهدف منها، كما ذُكِرَ أعلاه، إنجاز العمل دون ترك أيّ آثار تدلّ على الفاعل؛ لذا، ومع انقلاب هذا العالم على نفسه، وتطوّر الأدوات، أصبح من الأسهل اللجوء إلى وسائل تكنولوجيّة أكثر تطوّرًا في عمليّات الاغتيال، مادّيّة كانت أو معنويّة؛ فأصبحنا نرى، على الصعيد المادّيّ، الاغتيال بالصاروخ الموجّه، أو التفجير الذكيّ، أو اللجوء إلى موادّ كيميائيّة معقّدة، غير مكتشفة بعد، أو البيولوجيّ، من خلال فيروسات أو جراثيم أُحْدِثَتْ لها طفرات مخبريّة، أو محاولة الاستغناء عن كلّ ذلك بالاغتيال المعنويّ، من خلال مقايضة الضحيّة بين شرائها بالمال، وإذعانها، أو سكوتها، أو في المقابل فَضْحِها من خلال مستمسكات مادّيّة تتكفّل بحرقها معنويًّا، وإذلالها إن اِسْتُخْدِمَتْ ضدّها، وهذا الأسلوب تلجأ إليه جهات كثيرة في العالم، لكنّه أصبح أكثر تطوّرًا مع الانتشار الواسع للتكنولوجيا، بعد أن أصبحت الأخيرة جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا اليوميّة لا غنى لا للفرد ولا للمجتمع عنها، وأصبحت الجهة الّتي توجّه الرأي العامّ ضمن عمليّات معقّدة لكنّها مدروسة بعناية ودقّة.

هكذا أُسْكِت الكثيرون وَاشْتُروا، وذلك ما يُفَسِّر انقلاب البعض على قناعاتهم، وأنفسهم، دون القدرة على تقديم أيّ تفسير مقنع لهذا الانقلاب.

السيطرة بـ «الميديا»

لقد تغيّر العالم كثيرًا خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة، فظهرت القنوات الفضائيّة الّتي جعلت زمام الأمور تفلت من قبضة سيطرة الدولة على الخبر، ثمّ تصاعد الأمر أكثر مع انتشار الهواتف الخلويّة، والكمبيوترات، ثمّ الشبكة العنكبوتيّة، ووسائل التواصل، والهواتف الذكيّة الّتي قلبت العلاقات الإنسانيّة بكلّ تجلّياتها رأسًا على عقب، وما زالت تفعل ذلك.

ثمّة، إذن، وسيلة جديدة لمحاولة بناء وعي جديد، لإنسان جديد، مربوط بخيوط لا مرئيّة إلى جهات تُوَجِّه وعيه، وتُسَجِّل تاريخ حياته بالتفاصيل، وتمرّرها أمامه إن استدعى الأمر ذلك. إنّه إنسان أكثر اتّكاليّة، وأقلّ نشاطًا بدنيًّا، مرفَّه، لكنّه فاقد لحرّيّته بالمعنى المقلق القديم للحرّيّة.

سيبدو الأمر أنّ عدوّ النظام الجديد، هو ذلك الشخص الّذي يرفض اقتناء الهواتف الذكيّة، والانصياع لحمّى التكنولوجيا؛ فهو إنسان خارج عن الإجماع، وبالتالي خارج دائرة السيطرة، وبالتالي فهو خارج دائرة الوجود المعاصر كلّيًّا؛ لذا يجب العمل على إعادته إلى الحظيرة بالوسائل والسبل المختلفة، كي يصبح من السهل السيطرة عليه، والتَّنَبُّؤ بنواياه.

لقد أصبحت الميديا طريقة حياة لا غنى عنها، منها تبدأ الأفكار، والثورات، وتتحدّد الصلاحيّات، والأشكال، والأعمال، والأذواق، وفيها تُبْنى الأسواق، ومن خلالها تتطوّر العلاقات، وصار بوسع كلٍّ منّا أن يكون ما يشاء، كيفما يشاء، متى يشاء، وأصبحت بديلًا مقنعًا جدًّا عن الحياة البائسة الّتي يعيشها كثيرون، لقد أصبحت طريقة للهروب من الواقع والذات؛ وهو ما أدّى في نهاية المطاف إلى تغريب الإنسان عن ذاته، وإصابته بالشذوذ.

إنّها بطريقة أخرى حياة تُمْنَح لنا على طبق من فضّة؛ كي نعيشها بالشكل الّذي نرتئيه ملائمًا لنا، أو ربّما فرصة لا تتكرّر بأن نعيش من خلالها ما لم نستطع أن نعيشه في الواقع، دون الانتباه إلى تلك الجهات الّتي منحتنا تلك الحياة...

إنّها بطريقة أخرى حياة تُمْنَح لنا على طبق من فضّة؛ كي نعيشها بالشكل الّذي نرتئيه ملائمًا لنا، أو ربّما فرصة لا تتكرّر بأن نعيش من خلالها ما لم نستطع أن نعيشه في الواقع، دون الانتباه إلى تلك الجهات الّتي منحتنا تلك الحياة، وكأنّها إله أكثر ديناميكيّة، لكنّه في نهاية المطاف يحدّد لنا القوانين، ويتحكّم بمصائرنا، ويقرّر مَنْ سيبقى منّا، ومَنْ سيموت، وكيف سيموت.

اغتيال باليأس، أو التيئيس

أمام هذا الطوفان المعرفيّ الّذي يختلط فيه الحابل بالنابل، والحقيقة بالوهم، والصالح بالطالح، والبريء بالمتّهم، وتحت ضربات الجيوش الإلكترونيّة، والذباب القاتل، سَتُبْنى معرفة مشوّشة، ووعي مشوّه، وستتغيّر المفاهيم، وتتداعى القيم، وسيُعاد تقييم التجارب، وإنتاج التاريخ، والجغرافيا القديمة، والتشكيك في كثير من المسلّمات، وتقويض الثوابت، وسيُعاد اغتيال كثير من الشهداء، وسيُعَتَّم على الأصوات المختلفة، الجدّيّة، وتقديم أصوات عالية بديلة، هزيلة، والدعاية لها، وتسويقها، بحيث لا يجد الباحث عبر المفاتيح الإلكترونيّة غيرها.

ثمّة تسويق لثقافة التفاهة لم نشاهده من قبل، ولم تَعُد القدرات الاستثنائيّة، والعبقريّة لشخصيّات بعينها في المجتمع، هي الّتي تُسَوِّق صاحبها؛ لذا فقد تنحّى – في فوضى العالم الافتراضيّ - أولئك الأشخاص المميّزون بقدراتهم، والمؤهّلون لقيادة ثقافة المجتمعات، وتركوا الساحة مجبرين لعقول جوفاء تعيد بناء المجتمعات الإنسانيّة من جديد، حين اصطدموا بجدار التجاهل، و«التطنيش» الّذي تمارسه هذه الجهات ضدّ عقولهم، ولم تَعُدْ أصواتهم تصل إلى أبعد من دوائرهم القريبة، مهما حاولوا رفعها، بل إنّ المواضيع الحقيقيّة الّتي تعالج الواقع بعمق، ما عادت تحظى باهتمام أحد، وأصبحت تشكّل عبئًا على الوعي الخفيف الّذي لم يَعُد قادرًا إلّا على العوم على سطح المعرفة المشوّهة؛ فكلّ وعي حقيقيّ هو بالضرورة عدوّ للنظم السائدة، والنظم المسيطرة عليها، ضمن المعطيات القائمة، والنتائج الّتي أفرزتها هذه النظم؛ لأنّه لا يستطيع أن يبرّر وجوده إلّا من خلال ضرب الأسس البنيويّة لها.

إنّه اغتيال باليأس، أو بالتيئيس، واغتيال بالصوت على صعيد آخر، حيث أصبحت الأصوات النشاز هي الأصوات العالية، المسموعة، وأصبحت الشهرة سهلة المنال، مع ما يرافقها من عائدات مادّيّة مغرية؛ فهي لا تتطلّب قدرات استثنائيّة كما كان يُشْتَرَط من قبل، فكثر المفكّرون، والأدباء، والشعراء، والفنّانون، أو مَنْ يعتقدون أنفسهم كذلك، ووجدوا جمهورًا حقيقيًّا بلا ثقافة يصفّق لهم، أو جمهورًا مصطنعًا بفعل فاعل، فصدّقوا أنفسهم، وما عاد ثمّة قوّة في الأرض قادرة على إقناعهم بعكس ذلك؛ لذا أصبح سعيهم المحموم إلى الشهرة يمرّ عبر الاغتيال بالصوت، ونفي الآخر الّذي يبيّن لحظة ظهوره ضحالة أفكارهم، وسذاجة توجّهاتهم، وكلّما كانت الشخصيّة الّتي يُتَحَرَّش بها، واغتيالها، والتسلّق عليها، أكثر ثقلًا يصبح الصوت مسموعًا أكثر، إنّها الشهرة بالنفي، والفضيحة، والصوت، في ظلّ عالم تعمّه الفوضى، وسوء المعرفة، وسوء الرؤية والرؤيا، حيث لم يَعُد ثمّة مَنْ يلتفت إلى موضع قدمه، وأين يدوس، وعلى ماذا يدوس، أو أيّ فكرة يغتال، مهما بدت هذه الفكرة سامية، ومهما كانت قيمتها الأدبيّة والثقافيّة والأخلاقيّة.

ربّما أمام هذا الطوفان المجنون، أصبح البشر مُسْتَخْدَمين، وأصبحوا هم أنفسهم الرصاصات الّتي يُغْتال بها أصحاب العقول المختلفة الّذين يشكّلون المحرّك الرئيسيّ الضامن لحركة المجتمع باتّجاه التطوّر، وبوسعه أن يرى ما لا يمكن هؤلاء أن يروه...

ربّما أمام هذا الطوفان المجنون، أصبح البشر مُسْتَخْدَمين، وأصبحوا هم أنفسهم الرصاصات الّتي يُغْتال بها أصحاب العقول المختلفة الّذين يشكّلون المحرّك الرئيسيّ الضامن لحركة المجتمع باتّجاه التطوّر، وبوسعه أن يرى ما لا يمكن هؤلاء أن يروه، لكنّه اغتيال من نوع آخر، اغتيال لا دماء فيه، فما حاجة الجهات المختصّة إلى الدماء ما دام بوسعها الاستغناء عن كاتم الصوت، لصالح الصوت الّذي يبدو في الظاهر كأنّه تعبير عن الحرّيّة الشخصيّة، لكنّه في حقيقة الأمر أصبح قوّة محرّكة للمجتمع، لكنّها قوّة تؤدّي إلى حركة مضلّلة في الوصف الفيزيائيّ، تقود المجتمع عكس الاتّجاه الّذي عليه أن يسير فيه؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2184603

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع قضايا   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2184603 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 3


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40